بقلم: وليد حباس
استعرض مقالات الكاتب | تعرف على الكاتب 16-11-2023 - 272 أحد التحولات التي طاولت المجتمع الإسرائيلي في أعقاب هجمات 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 يتعلق بالجيل الشاب لدى الطوائف اليهودية الحريدية، والذي توافد أبناؤه بأعداد متصاعدة للالتحاق بصفوف الجيش الإسرائيلي والمشاركة في الحرب. أثار الأمر انتقادات لدى دافيد كوهين، أحد كبار الحاخامات الحريديين، بحيث اعتبر أن هؤلاء الشبان لا يعلمون حقاً ما هي "توراة إسرائيل، وروح إسرائيل، وما هي المدارس الدينية" التي من المفترض أن يكرسوا كل حياتهم بين جدرانها يتعلمون التوراة والشريعة. هذه المقالة تنظر في التحولات داخل مجتمع الحريديم خلال الحرب الحاليّة. من هم الحريديم؟ يمكن تعريف الحريديم (باللغة الفلسطينية العامية: السكناج)، من خلال ثلاث مزايا: 1) هم متدينون يهود ينظرون إلى الحداثة على أنها أحد أهم التهديدات الوجودية للديانة اليهودية. لمحاربة الحداثة، والحيلولة دون "التلوث بها"، يحبس الحريديون أنفسهم في عقلية القرن التاسع عشر وثقافته، كما يظهر من لباسهم الأسود، وجرابينهم الطويلة، وقبعاتهم، وأنماط تفكيرهم. 2) هم مجتمع دراسة بحيث أن الذكور لديهم يكرسون كل حياتهم لدراسة التوراة والشريعة اليهودية وتفسيراتها، ولا يرون أن هناك حاجة لتلقي العلوم الحديثة التي تمكن الفرد من الانخراط في المجتمع والسوق. 3) هم مجتمع ولاءات، بحيث أن كل طائفة لديها حاخام أعلى، يعتبر بمثابة الأب الروحي، وهو ما يقرر في كل ما يتعلق بالخطوط العريضة لحياة أتباعه. أما أتباعه فلا يعيشون حياة ديمقراطية، وإنما ينصاعون إلى "ولي الأمر" وصاحب الحكمة (ومن هنا: حكيم يعني حاخام).[i] اليوم يصل تعداد الحريديم في إسرائيل إلى حوالي 1.3 مليون نسمة (أي 17.4% من اليهود في إسرائيل). منذ العام 1948، يعيش الحريديم في معازل، مناطق سكنية خاصة بهم، ويعيشون حياة شبه معزولة عن المجتمع الإسرائيلي، لا يشاركون في مؤسسات الدولة، لا يتلقون تعليماً حداثياً يمكنهم من الانخراط في سوق العمل، ينعكفون على دراسة التوراة ويتلقون في المقابل مخصصات كبيرة من الدولة لقاء "جلوسهم" في الييشيفاه (أي المدرسة الدينية). ولعل أحد أهم التصدعات داخل إسرائيل، والتي يتم إثارتها باستمرار وتشكل أحد أهم عوامل الاستقطاب الداخلي، هي قضية الحريديم؛ فهم لا يشاركون في الأعباء العامة مثل القتال، الدفاع عن الوطن، ولا يساهمون في بناء الدولة واقتصادها. هناك تحول في هذا المشهد، حيث أن أحداث 7 أكتوبر دفعت العديد من الشبان الحريديم إلى الالتحاق بالجيش الإسرائيلي وترك مقاعد الييشيفاه. وعليه، هذه الورقة تحاول أن ترصد هذا التحول. على من يسرى قانون التجنيد؟ بحسب قانون الخدمة العسكريّة في إسرائيل، على كل شاب وشابة بلغ 18 عاما أن يمتثل إلى أمر التجنيد الإجباري، ويخدم في الجيش الإسرائيلي. ويعتبر التجنيد الإجباري من أهم المحطات في حياة الأفراد في المجتمع الإسرائيلي. من جهة، هو تعبير عن توزيع الحمل والأعباء بشكل متساو على كافة الفئات والطبقات، بغض النظر عن الخلفيات الاجتماعية، بحيث يتحول الجيش إلى "بوتقة صهر" لتخريج "الإسرائيلي الموحد" من الخليط متعدد الثقافات الذي ينطوي عليه مجتمع مستوطنين مهاجرين في إسرائيل. من جهة ثانية، يحتل الجيش والأمن وروح القتال مكانة مميزة في الثقافة الإسرائيلية، وهذه المكانة المرموقة تنعكس في مسألتين: 1) الشبان الذي التحقوا بالتجنيد الإلزامي، ولبسوا الزي العسكري، يحظون باحترام أعلى من أولئك الذين فضلوا مسارات أخرى من الخدمة الاجتماعية. 2) حتى أولئك الذين يرتدون الزي العسكري، فإنهم أيضا مصنفون في الثقافة الإسرائيلية بحيث أن من يخدم في وحدات غير مرموقة مثل "سلاح المشاة" أو "قصّاصي الأثر" لا يتساوى من حيث المكانة الاجتماعية مع من خدم في "وحدة نخبة" أو "وحدة استخبارات 8200"، وهكذا. ومع ذلك، فإن الحريديم لا ينظرون إلى السلم الاجتماعي والمكانة الاجتماعية من منظور هذه الثقافة الإسرائيلية العلمانية المسيسة. منذ تأسيس دولة إسرائيل كانت قضية عدم تجنيد المتدينين الأرثوذكس (أي الحريديم) قضية تحوم حولها خلافات كبيرة داخل المجتمع. فبحسب إحصائية العام 2022، يصل عدد الشبان الحريديم الذين عليهم التجند للجيش إلى ما يقارب 100 ألف، لكنهم لا يلتحقون بالتجنيد.[ii] لماذا لا يلتحق الحريديم بالجيش؟ السبب الأساس لعدم تجند الحريديم هو ديني- توراتي. فمجتمع الحريديم يعتبر مجتمعاً منغلقاً على نفسه لدراسة التوراة بحيث يكرس الشباب كل حياتهم في المدارس الدينية (ييشيفاه) ولا ينخرطون في سوق العمل ولا يتجندون للجيش. وحسب الطوائف الأرثوذكسية (الحريديم الأشكناز والحريديم الشرقيون على حد سواء)، فإنه يقع على عاتقهم حماية توراة إسرائيل من الاندثار. ثمة ثالوث في الميثولوجيا السياسية اليهودية يتكون من: أرض إسرائيل، شعب إسرائيل، توراة إسرائيل. بالنسبة للصهيونيين (أي التيار السياسي الاستعماري الذي بنى دولة إسرائيل) فإن "شعب إسرائيل" هو من يقع على عاتقه تحقيق الخلاص من خلال مشروع سياسي، وجيش قوي، بحيث يتم تجميع شعب إسرائيل على أرض إسرائيل. بالنسبة للحريديم، فإن هذا التوجه السياسي يعتبر تدنيساً لتوراة إسرائيل وتدخلاً دنيوياً في المشيئة الإلهية. وهم يرون أن "الخلاص" هو حدث مقدس لا يعلم توقيته إلا الله، وبالتالي ليس على اليهود سوى الحفاظ على "توراة إسرائيل" (وهذا فقط ما يفعله الحريديم يوميا من خلال دراستهم وانعكافهم). كيف تنعكس هذه الثقافة على المجتمع الإسرائيلي؟ أدى عدم التحاق الحريديم (مرة أخرى، يشكلون حوالي 17.4% من يهود إسرائيل) إلى بروز خلافات واسعة داخل إسرائيل. من جهة، اعتكاف الحريديم على تعليم التوراة أدى إلى خلق نظام تعليم خاص بهم يركز فقط على دراسة الدين. هذا يعني أن الشبان الذين يصلون إلى سن التجنيد (ولا يلتحقون بالجيش) هم أصلا يفتقرون إلى التعليم الصحي الحداثي الذي يخولهم الانخراط في المجتمع. فهم لم يتلقوا تعليما كاملا وملائما في الرياضيات، العلوم، التكنولوجيا، وليست لديهم هوايات أو ميول اجتماعية-ثقافية كباقي الإسرائيليين. في المقابل، هم يحصلون على مخصصات عالية جدا من الضرائب التي يدفعها باقي السكان. وتذهب هذه المخصصات لتمويل "عدم إنتاجية" الحريديم، ومدارسهم الدينية، ونمط حياتهم المنغلق. بالنسبة للعلمانيين، هذا عدم تساوٍ في تحمل العبء الاجتماعي. لكن بعيدا عن مسألة "تساوي الأعباء"، فإن عدم تجند الحريديم هو من أهم القضايا التي تسهم في تعميق التصدع الداخلي في إسرائيل بحيث أنها تعبير عن وجود ما يشبه مجتمعين شبه منفصلين يعيشان في إسرائيل. العديد من القضايا التي تعتبر محورية في الحياة السياسية والأمنية الإسرائيلية، مثل الحروب والانتفاضات، قد لا تقع في سلم أولويات وتفكير المجتمع الحريدي. بل إنهم لا يرون في أنفسهم جزءاً من "العقد الاجتماعي" الذي انبنت عليه الحركة الصهيونية. تحولات داخل مجتمع الحريديم: نحو التصهين والالتحاق بالجيش على الرغم مما قيل أعلاه، فإنه في العام 2022، تجنّد حوالي 1200 حريدي في الجيش الإسرائيلي. وهي نسبة هامشية تصل إلى حوالي 1% فقط من المجتمع الحريدي الذي وصل إلى سنّ التجنيد. هؤلاء المجندون الحريديم يعتبرون جزءاً من سياق "صهينة الحريديم"، وهو سياق قام مركز مدار بتغطيته في أكثر من منشور (أنظر/ي الفصل 7 من كتاب: "اليمين الجديد في إسرائيل: مشروع الهيمنة الشاملة"، تحرير: هنيدة غانم، مركز مدار 2023). ومع أن صهينة الحريديم ظلت تعبر عن مسار تحول على مستوى المشاركة السياسية، وتحالفات الأحزاب، ودعم مشروع الاحتلال في الضفة الغربية والقدس، إلا أن التحول لم يتسع ليشمل تفكك جدران المعازل التي يعيش فيها الحريديم، ولم يؤد إلى انخراط واسع النطاق في مؤسسات الدولة، سوق العمل، والتجنيد للجيش. وقد حاولت العديد من اللجان (أهمها لجنة طال في نهاية التسعينيات) معالجة قضية تجنيد الحريديم. وفي العام 2015، تم سن قانون يجبر الحريديم على الالتحاق بالجيش الإسرائيلي، لكن الجيش نفسه أمر بتعليق العمل بهذا القانون (وليس إلغاءه) وذلك حفاظا على التوازنات السائدة في المجتمع الإسرائيلي: من جهة، لا يريد الجيش أن يكون المتسبب الأول في "إجبار" الحريديم على تفكيك معازلهم، ومن جهة ثانية كانت هناك قناعة لدى الجيش بأن الحريديم لن يشكلوا إضافة نوعية من الناحية القتالية. ومع ذلك، هناك مساران داخل الجيش متاحان لتجنيد الحريديم (والذين يتراوح عددهم سنويا، منذ العام 2018، بحوالي 1100-1200): المسار الأول هو الالتحاق بكتيبة "نيتساح يهودا" وهي كتيبة متطرفة تعمل في الضفة الغربية وتجمع بداخلها المتدينين، خصوصا من أبناء الصهيونية الدينية والتيارات الحريدية. المسار الثاني، يسمى "شاحر" وهو مسار متاح لتمكين الحريديم من الالتحاق بمسار تجنيد غير قتالي. ماذا حصل بعد 7 أكتوبر؟ من الواضح أن هجمات السابع من أكتوبر ستكون لها تداعيات بعيدة المدى قد تطاول المبنى الثقافي والهويات السائدة في المجتمع الإسرائيلي، وقد تدفع إلى إعادة تفكيك أنماط سلوك وتفكير سابقة وتستبدلها بأنماط جديدة. ثمة مؤشرات إلى أن هذه التداعيات بدأت تلقي بظلالها أيضاً على مجتمع الحريديم الذي لطالما تميز بالعزلة، والعزوف عن المشاركة في مؤسسات الدولة وجيشها. في 21 أكتوبر، أعلن الجيش الإسرائيلي أن المجتمع الإسرائيلي "يشهد اتجاها متزايدا لأفراد الجمهور الأرثوذكسي الحريدي الذين يقدمون طلبات للتجنيد والتطوع في الجيش الإسرائيلي. حتى الآن، تم تلقي أكثر من 2000 طلب". يشكل هذا الرقم غير المسبوق تحولاً مهماً، بحيث أنه قد يشكل بداية ديناميكيات في المجتمع الإسرائيلي لا بد من وضعها تحت المجهر ورصد تفاعلاتها المستقبلية. ولا بد من وضع ثلاث ملاحظات أساسية لفهم هذه التحول: صهينة الحريديم: كما أسلفنا، فإن صهينة الحريديم المتسارعة خلال العقد الأخير كانت تنحصر في المشاركة السياسية، التحالفات اليمينية التي تقيمها أحزاب الحريديم، والمواقف السياسية، لكنها لم تشمل وبشكل واسع النطاق تحولات على صعيد تفكيك المعازل والانخراط الكامل في مؤسسات الدولة. ويرى يائير هليفي، وهو باحث مختص في قضايا الحريديم، بأن الحريديم قد فشلوا تاريخيا (1948-2023) في أن يتحولوا إلى حركة أرثوذكسية حديثة، تشمل إنتاج نظام من المؤسسات المزدهرة والقيادة السياسية النشطة والقيادة الروحية الواضحة. ولكن في السنوات الأخيرة، يبدو أن الأمور بدأت أخيراً في "التحول إلى المسار الصحيح". سيتضح في المستقبل القريب ما إذا كان هجوم 7 أكتوبر هو الشرارة التي من شأنها أن تشعل النار التي طال انتظارها، وتبدأ سيرورة تفكيك المعازل الحريدية، أو ما إذا كانت شرارة تتوهج لمدة ساعة، وتتلاشى وتختفي.
لا يوجد صور مرفقة
|