لا شكّ كلّنا نتذكر الدور المائز الذي أدّته قناة "الجزيرة"، خلال عدوان تموز الصهيوني أو ما سمّي بالحرب الثانية على لبنان في العام 2006، فقد كانت تُتابع بشعبيّة فاقت التوقّعات في العالم العربي، حين انطلاقتها في العام 1996. إذ أوجدت بأدائها الباهر فضاءً جديدًا لحريّة التعبير لم يكن معهودًا في العالم العربي، نظرًا إلى هيمنة الأنظمة الحاكمة على الإعلام وحجبها للآراء المعارضة؛ فتمكّنت الجزيرة، خلال مدّة لم تتعدّ سنوات قليلة، أن تصبح أكبر قناة إخباريّة عربيّة، نعتمد عليها في تقصّي الأخبار الموثوقة واكتساب رؤى ثقافية حيال مختلف التطوّرات السياسيّة والدوليّة.
لكنّ هذه المشهديّة الجميلة بدأت تخلع عنها أوراقها، أو قشورها، لتظهر حقيقةً أخرى كانت مذيلةً خلف العديد من الشعارات البّراقة التي أبهرتنا في التّسعينيات من القرن الماضي، ومنها "الرأي والرأي الأخر"، فتبيّن أن وراء الأكمة ما ورائها، وما كان ذلك الأداء الباهر إلا قناعًا زائفًا انطلى علينا مدّة من الزمن. فهل فعلاً كان الأمر كذلك أم أن "قناة الجزيرة" هي نفسها وقعت في فخ ازدواجيّة المعايير التي ألزمت نفسها بها؛ ما جعل صورة الانتماء والهويّة لديها تفقد بوصلتها؟
أولًا: "الجزيرة"؛ الدور والهوية
يعدّ ميدان الإعلام، في العالم العربي، المصدر الرئيس للمعلومات والثقافة للمـواطن العربي، بصفة عامّة، هذا الدور يكبر كلّما تراجع دور المؤسّسات التعليميّة المتمثّلة بالمدارس والجامعات . وإذا كان التغيير السياسي يعني عمليّة انتقال بالمجتمع من وضع إلى وضع آخر مغاير، فإن الدور الملقى على كاهل وسائل الإعلام يستدعي أن تكون هذه الوسائل قادرة على المساهمة الفاعلة في خلق ثقافة سياسيّة تعمل وتسعى لتغيير الواقع السيئ. إذ إنّ تغيير المعلومات التي تقدّمها وسائل الإعلام للجمهور تشكّل لهم الطريقة التي ينظر فيها الناس إلى قضاياهم، وهي يمكن أن تولّد تغييرًا فكريًا وسياسيًا لدى الجمهـور، فيبـدأ بـالتفكير بقضـاياه المختلفة، ويبدأ بالحديث عنها والتفاعل معها، وذلك يمكن أن يقود مع مرور الوقت إلى تغيير سياسي عميق على مستوى الدولة والمجتمع .
يتعذّر تحقق هذا التغيير أصلًا بحال لم يكن لهذه القناة، أو تلك، هويّة مرسومة البناء والتصوّر والأهداف الآنيّة والاستراتيجيّة، يلحق بها حكمًا محتوى الثقافة الذي هو من يرسم لتلك الهويّة كلّ ذلك البناء. ففي الحقيقة، يتعذّر تصوّر الهويّة والثقافة مفهومين واقعيين منفصلين، "فما من هويّة إلَّا وتختزل ثقافة، فلا هويّة من دون منظور ثقافي، ولا تستند إلى خلفيّة ثقافيّة، والثقافة في عمقها وجوهرها، هوية قائمة بالذات" . وما تقسيم الهويّات إلى هوية ثقافيّة وأخرى اجتماعيّة وأخرى شخصيّة، إلَّا لأغراض التحليل لمنهجي، وفق معايير لا تعدو أن تكون افتراضيّة، تُقيم حدودًا رمزيّة لجوهر واحد هو كينونة الإنسان بوصفه كائنًا اجتماعيًّا وثقافيًّا.
عن هذا يقول العالم الفرنسي "إميل دوركايم"، مؤسس علم الاجتماع الحديث، محلّلاً العلاقة بين الهويّة الفرديّة والهويّة الجماعيّة: "يوجد في كلّ مكان كائنان: كائن فردي؛ ويتكوَّن من المشاعر والأحاسيس التي تتصل بالحياة الخاصّة من جهة، وكائن اجتماعي يتكوَّن من منظومة الأفكار والمشاعر والعادات التي تُعبّر فينا عن المجموعة من ناحية أخرى، وإن تلاحم هذين الوجهين هو الذي يُكوّن الكائن الاجتماعي" .
بنية هويّة الكائن الاجتماعي هذا، في العالم العربي، لطالما صوّب عليها الاستعمار التاريخي لمنطقتنا أسلحة التفكيك والتهشيم، لمنعها من إعادة اللحمة والتماسك، وبناء مشروع الذات العربيّة القادرة على النهوض الحضاري العربي الإسلامي مجددًا بعدما اندثر المعلم الأخير منه مع سقوط الإمبراطواريّة العثمانيّة، وإن كانت تمثّل هذا المعلم بصور مشوّهة.
في هذا السياق، يتمثّل دور الإعلام، في العصر الحديث، وسيلة ناجعة لتفعيل ذلك التفكيك الهويّاتي، والذي وسم شعوب المنطقة العربيّة من البحر إلى الخليج. ولعلّ أزمة الهويّة هذه تتمظهر بأشكالها المختلفة من خلال أداء وسائل الإعلام المرئيّة في الدول العربيّة كافّة، وحتّى في الدولة الواحدة نفسها، وليس أصدق مثالًا على ذلك من لبنان، المتعدّد الطوائف والانتماءات السياسيّة المتعدّدة الولاءات الخارجيّة.
هذا يفضي بطبيعة الحال أنّ يكون لكلّ مؤسّسة إعلاميّة أو قناة تلفزيونيّة أهداف تسعى لتحقيقها، ومن الطبيعي أيضًا أن تكون بعض الأهداف غير معلنة؛ وذلك لأسباب خاصّة، إمّا بالقناة نفسها وظروفها وطبيعة تأسيسها وملكيتها وتمويلها وسياساتها، وإمّا لأهـداف ذات أبعاد سياسيّة أو إشكاليّة لا تودّ مفاجأة المشاهد بها في المرحلة الأولى من انطلاقتها. وهذا ما شهدناه مع قناة بحجم "الجزيرة".
يمكن القول إنّ هذه الأهداف تتصل بدولة قطر حاضـنة وممولة "الجزيرة"، وبدورها وطموحها السياسي الإقليمي والدولي، وبالمشروع الـذي جـاء بـه الأمير "حمد بن خليفة" عند استلامه لمقاليد حكم البلاد بعدما انقلب على والده؛ حيث كانت "قناة الجزيرة" أحد أولوياته وأحد أول المشاريع الكبيرة التي دشّن بها عهده؛ ويمكن ذكر أهمها إجمالها بالآتي :
- رغبة القيادة القطريّة الجديدة في أن تمنح القناة البلاد صوتًا خليجيًا وإقليميًا ودوليًا مسموعًا وكبيرًا، يروّج للحكومة وقرارتها ولارتباطاتها الإقليمية والدوليّة، وهو ما حدث فعلاً.
- وقف الاحتكار السعودي لقطاع الإعلام العربي، والذي كان يسيطر على القسم الأكبر من وسائل الإعلام العربيّة بالملكيّة والتمويل ، وتاليًا إضعاف دور المملكة العربيّة السّعوديّة وتهشيم صورتها بصفتها حاضنة المسلمين في المشرق العربي، وخاصّة الطائفة السّنيّة ذات الأكثريّة السّاحقة.
هذا، ولتضمن قناة الجزيرة نجاجها بتميّز، قامت بإنشاء "شبكة الجزيرة الإعلامية"، وعقدت شراكات مهمّة ومذكرات تفاهم مع عدد من منظّمات الأمم المتّحدة؛ مثل: منظّمة الأمم المتّحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو) والمفوضيّة السّامية لشؤون اللأجئين ومنظّمة الهلال والصليب الأحمر الدّولي ومركز الأمم المتّحدة للتدريب والبحوث. وفي العام 2016، اختارت الأمم المتّحدة "شبكة الجزيرة الإعلاميّة" حصريًا، لإدارة وبثّ أول مناظرة بين عشرة من المرشّحين لمنصب الأمين العام للمنظّمة الدوليّة، فبثّت "الجزيرة" هذه المناظرة - بصفتها الشريك الإعلامي الذي اختارته منظّمة الأمم المتّحدة - على منصاتها الرقميّة وصفحات قنواتها على مواقع التواصل الاجتماعي، بما فيها قنوات الجزيرة الإنكليزيّة والإخباريّة والبلقان والجزيرة مباشر.
هذا أيضا فتح أمام هذه الشبكة الإعلامية تغطية أخطر الأحداث، ومنها :
1. الحرب على أفغانستان واحتلالها في العام 2001
كان دورها في التغطية الميدانيّة لحرب احتلال أفغانستان لافتـًا لقنـاة عربيّة، حيث ظلّ مراسل القناة الوحيد "تيسير علوني" على اتصال بحركتيّ طالبان والقاعدة، وينقل آراء طرفي الحرب. كما كانت كاميرا القناة هي الوحيدة التي تنقـل مشـاهد القصـف الجوي من قوات التّحالف لأفغانستان، وظلّت صورها خلال أول أسبوعين من الحرب هي المصدر الوحيد لكلّ القنوات العالميّة الأخرى. هذه التغطية أحدثت امتعاضًا لدى المؤسّسـات السياسيّة والإعلاميّة الأميركيّة، فشنّت حملات إعلاميّة ضد القناة. فقد سخرت محطة "فوكس نيوز"؛ وهي إحدى المحطات الفضـائيّة الكبـرى والمهمّة في الولايات المتحدة الأميركيّة، من قصف مكتب الجزيـرة في كابول، ودعت لضـرورة استهداف مقرّ ما سمّته "فضائيّة بن لادن " في الدوحة .
2. احتلال العراق 2003
أظهرت الجزيرة، وللمرة الثانية، قدرة كبيـرة علـى منافسة الإعلام الغربي الذي كان في العادة يصول ويجول وحده في الميدان ويحتكر الصـورة والمعلومة. فانطلقت تغطية الجزيرة للحرب على العراق حتّى ما قبل الحرب والاحتلال فعليًا، وتحديدًا منذ بدأت الإدارة الأميركيّة بالحشد والتحضير للحرب لوجستيًا وسياسيًا وإعلاميًا. فقد جهّـزت القناة مكتبها في بغداد بالوسائل اللازمة، وأوفدت عددًا من الصحفيين والمراسلين للعراق من شماله إلى جنوبه، وبدأت منذ اللحظة الأولى ببثّ الأخبار والتقارير من العراق حول توقّعات الحرب، والظروف الإنسانيّة والحياتيّة في العراق ما قبل الحرب . فاستطاعت الجزيرة كشف الكثير من التناقضات فيما تبثّه الوكالات والمحطات الغربيّة وتجبرها على التراجع.
3. الحرب على لبنان العام 2006
لم تتوقع المحطات الإخباريّة العربيّة الفضائيّة الرئيسيّة التي سارعت إلى تغطية الحرب المفتوحة بين حزب الله وجيش الاحتلال الإسرائيلي، إثر قيام المقاومة الإسلاميّة، في لبنان، بخطف اثنين من جنوده في 12 تموز/ يوليو 2006، أن تكون هذه الحرب الشرق أوسطيّة الجديدة على هذا القدر من الضراوة، وأنها ستدوم أكثر من شهر كامل. فسرعان ما اتخذت قناة "الجزيرة" القطريّة شعار "لبنان تحت الحصار" لتغطيتها بعد أن شلّت الغارات الإسرائيليّة مطار لبنان الوحيد، وأغلقت مرافئه، غير أنها أبدلته بشعار أكثر دلالة على حجم المواجهات هو "الحرب السادسة". ولقد كان أداء مقدّمي البرامج والتغطيّة الإخباريّة حادًا تجاه ضيوف ما كانوا يسمّونه بالرأي الآخر، مثل المعلّقين الإسرائيليين، وإن بقي استضافة مثل هؤلاء أيضًا غريبًا على قناة عربيّة تحاول جهدها إبراز العدوان الإسرائيلي وحق المقاومة بالتصدّي والدفاع.
ثانيًا: الجزيرة ومرحلة الانقلاب
إذا درسنا موقف هذه القناة من العدوان الإسرائيلي على لبنان، في العام 2006، وحتّى قبل ذلك، نجد التوجّه الدائم تصويب التركيز على مبدأ المقاومة وحقها بالدفاع عن الأرض وأهلها، والذي تمظهر بالمقابلات التلفزيونيّة، خصوصًا مع مسؤولين من حزب الله – ولا ننسى مقابلات "غسان بن جدو" مع الأمين العام لحزب الله- والتقارير الإخباريّة والوثفيائيات وغيرها، لتتحوّل إلى اتجاه مغاير شيئًا فشيئًا.. مع أنّنا كنا نلاحظ وجود اسم "إسرائيل" على خارطة تعرضها من وقت إلى آخر خلال النشرات الإخباريّة أو التغطيات الإعلاميّة .. ولم تثبت دلالة وجودها والإصرار على بقائها إلاّ مع ذلك التحوّل الذي حدث بعد ذلك.
تغيّرها هذا، تمظهر بالتفاف سياسي لدولة قطر صاحبة المحطّة، بحيث لم يكن معلنًا من قبل تجاه قضايا المنطقة. إذ لم يطل هذا الالتفاف حتّى بدأنا نشهده، عندما نفّذ الغطاء الناعم، الخطاب المخادع، عبر قناة الجزيرة، حيث يبدو دومًا أنّ تغيّر سياسة أي محطة تلفزيونيّة هو قرار تتخذه خلفياتها السياسيّة وتوجهات القائمين عليها، وجمعينا يعرف دعم قطر لحركة الإخوان المسلمين، إلى حدّ قد يبلغ التماهي، وهذا التماهي هو الآخر شبيه بما تعانيه الحركة من انفصام في الهويّة والانتماء من جهة، ومن تخبّط في سياساتها المتّبعة من حهة أخرى. وعلاقات قطر المشبوهة دومًا مع الولايات المتحدة الأميركيّة لطالما كانت محطّ الأنظار، فحين اقتضت الساعة لتلوح الحقيقة في الأفق.
من الممكن العودة إلى تاريخ انقلاب عمره خمس وعشرين عامًا على انقلاب الشيخ "حمد بن خليفة آل ثاني" على والده أمير دولة قطر الأسبق الشيخ "خليفة بن حمد آل ثاني"، حيث دخلت العاصمة "الدوحة"، منذ ذلك التاريخ، مرحلة جديدة لا تولي فيها مصلحة للأمن القومي لدول الخليج والمنطقة العربية ككل، وباتت مركزًا لتنفيذ المؤامرات الخارجيّة عبر دعمها لأجندة ما يسمّى "الإسلام السياسي" في المنطقة، ضمن مخطط يهدف إلى نشر "الفوضى الخلاقة" (من وحي فلسفة ما بعد الحداثة وروّادها المحافظون الجدد) عبر جملة من الأدوات من بينها المال والإعلام وحركة الإخوان المسلمين والإرهاب المسلّح والتطبيع مع الكيان الإسرائيلي.
كشف كتاب "قطر هذا الصديق الذي يريد بنا شرّا" للصحافيين الفرنسيين "نيكولا بو" و"جاك ماري بورجيه" عن كواليس إنشاء قناة الجزيرة القطريّة، والأهداف الغامضة لتلك القناة التي أثارت جدلاً واسعًا في الوطن العربي، مشيرين إلى أنهما أجريا تحقيقات عميقة ومفصّلة لكشف خبايا الصفقات الدوليّة التي عقدتها قطر، والعلاقات السريّة بين أميرها الشيخ "حمد بن خليفة" والشيخ "يوسف القرضاوي" المقيم بالدوحة وتفاصيل علاقتهما بـ"إسرائيل" وأميركا. وبيّن الكتاب أنّ فكرة إطلاق القناة من بنات أفكار الأخوان "ديفيد" و"جان فريدمان"، وهما يهوديان فرنسيان يعملان لصالح "إسرائيل"، كي تفتح – أي القناة- أبواب العالم العربي للكيان الصهيوني من باب الإعلام العربي، لذلك عُمل بكل جهد لتكون قناة إعلاميّة احترافيّة متميّزة جاذبة، سواء في الخطاب أو الأداء أو الشكل.
هذا، واعترف "ليئور بن دور" المتحدّث الرسمي الأسبق باسم الخارجية الإسرائيليّة، أنّ هناك تعاونًا إعلاميًا مهمًا بين دولة الكيان الإسرائيلي وقطر متمثّلًا بقناة الجزيرة التي تستضيف المسؤولين والدبلوماسيين الإسرائيليين، بالإضافة إلى تقديم الخارجية الإسرائيليّة التعاون اللازم الذي ترغب به القناة في فلسطين المحتلة، مؤكدًا أن هناك تفاهمًا استراتيجيًا واسعًا بين الطرفين، والكثير من القضايا ذات الاهتمام المشترك في المنطقة؛ وكان الهدف تهيئة الرأي العام العربي لاستقبال فكرة التطبيع الذي كانت "الدوحة" السبّاقة إليه.
سرعان ما شهدت العلاقات القطريّة - الإسرائيليّة تطوّرًا ملحوظًا، وتأكدت بعض ملامحه مع بداية ما سمّي بـ"الربيع العربي"، حيث كان الهدف واحدًا في بثّ الفوضى ودعم قوى "الإسلام السياسي" بهدف تمكينها من الحكم، للوصول معها إلى "صفقة القرن" بالإعلان عن قيام الدولة اليهوديّة مقابل دويلات إسلاميّة. إذ لم تكن قطر بعيدة عن مشروع الإخوان المسلمين، قبل العام 1995، وإنما كانت حاضنة للجماعة وعلى رأسها "القرضاوي" الذي حط فيها رحاله منذ العام 1991 بتوصيات مخابراتية أجنبيّة، وقام باستدعاء العشرات الآخرين من إخوان مصر ممن نجحوا في التغلغل داخل مفاصل الدولة، وخاصّة في قطاعات التربية والتعليم والإعلام، والتحق بهم نظراء لهم من مختلف الدول العربيّة.
إثر ذلك التطوّر في العلاقة، قرّر التنظيم المحلي للجماعة، في العام 1999، حلّ نفسه للاندماج في الدولة، بعد أن باتت تتبنى المشروع الإخواني بشكل كامل، سواء من حيث النشاط الإعلامي والثقافي أو من خلال المؤتمرات والندوات التي كانت تدار سرًا وعلانيّةً بحضور قيادات إخوانية وأخرى من مراكز القرار الإسرائيليّة والأميركيّة والأوروبيّة. بعدما باشرت قطر بتنفيذ ذلك المخطط توترت العلاقات بينها وبين الدول العربيّة، مع العقد الأول من الألفيّة الجديدة التي كان نظام "الدوحة" يستعدّ فيها لرعاية البديل الذي جُهّزه للمنطقة من خلال ما سمّي بـ"ثورات الربيع العربي"، حيث عمل على تبني دعوات التغيير في كلّ الدول من دون استثناء، بهدف تمكين الإسلاميين من الحكم، بعد نجاحه في وضع قوى الإرهاب المسلّح في خدمة مشروع الإخوان الذي قُدم للغرب على أنه البديل الديمقراطي.
لأجل هذا الغرض، أدّت "قناة الجزيرة" دورًا رياديًا ومحوريًا في تغطية أحداث "الثّورات العربيّة"، فخصصت على شاشتها مساحاتٍ واسعة لتغطية الثّورة في تونس ومن ثم في مصر، حتّى أنّها خصّصت قناة للبثّ من مصر مباشرةً لحظة بلحظة اسمتها "الجزيرة مباشر مصر"، ثم بعدها في ليبيا واليمن وآخرها في سوريا. وكانت "الجزيرة" كالأم الشرعيّة لهذه الثورات الملّونة.
لكن مع الأحداث الدامية السّورية، والتي كانت واضحة باختلاف عن المسار ذاتها في بقية الدول العربيّة وثوراتها، بدأت تتضح الصورة بشكل جلّي لعدد من العاملين في القناة، توجّت بعدد من الاستقالات لعدد من مذيعي ومراسلي القناة المهّمين، وعلى رأسهم مدير مكتبها في بيروت "غسان بن جدو". إذ هناك اتفاق عام، تقريبًا، على تجاوز "قناة الجزيرة" في تغطيتها للأحداث في الدول العربيّة، وخاصة في مصـر، حـدود التغطية الصحفيّة لتصل إلى حدود صناعة الحدث والمشاركة فيه، وهذا ما يتنـافى مع المهنيّة والموضوعيّة الصحفيّة التي ادّعت أنّها تلتزم بها.
في هذا السياق، أوضحت دراسة صدرت عن مركز الجزيرة للدراسات، في العام 2008، ضمن سلسلة كتب الجزيرة كتابًا بعنوان "تأثير "الجزيرة"، (مع عنوان فرعي هو: كيف يعيد الإعلام العالمي الجديد تشكيل السياسة الدوليّة)، لمؤلفه الأميركي "فيليب سيب"، بروفيسور الصحافة والدبلوماسيّة العام في جامعة كاليفورنيا الجنوبيّة، عمليات حجب وقولبة وإعادة تشكيل للأحداث، خصوصًا مع ما شهدته الفوضى في البلاد العربيّة، بما يخدم السياسة القطريّة والتغطية على مشاريعها السياسيّة والاقتصاديّة مع الولايات المتحدة وإسرائيل، وظهر ذلك، بشكل كبير، في الملف الفلسطيني. وأظهر الباحث كيف أنّ "الجزيرة" ساهمت في صناعة سياسة العالم وثقافته. كما أوضحت الدّراسة أن الإعلام رائد التحوّل و"الديمقراطية"، وإذا لم يستطع التغيير فإن باستطاعته أن يلهم ويعبئ ويساعد على تحقيقها، وأن "قناة الجزيرة" حاولت أن تكون عاملاً مساعدًا للوصول إلى الديمقراطيّة ومخففًا من احتمال "صدام الحضارات".
رؤية خاتمة
هذا يثبت من جهة، أنّ الإعلام المعاصر قادر على صياغة العالم وبناء المشهد السياسي، وأن يظلّ بصورته العامّة مرهونًا بالروزنامة السياسيّة للقائمين عليه، وأن الواقع المأزوم والكارثي الذي يعيشه العالم العربي، بدءًا من الصورة المنمّطة للأنظمة السياسيّة، ومرورَا بالاختطاف الاقتصادي، وانتهاءً بالانقسامات الدينيّة والطائفيّة والحزبيّة، ساهمت الآلة الإعلاميّة فيه وجسّدته. كما أن تفريغ الإعلام من مضامين الأمانة والحياد أدى إلى تأدية أدوار سيئة كبثّ الأكاذيب وتشويه الحقائق وصناعة الخديعة والفبركات، والسبب يعود لاستغلال الإعلام سياسيًا للتأثير في الرأي العام.
هذا أيضًا يثبت من جهة أخرى، أنّ التحوّل السياسي المتأتي من نظريّة مؤدلجة تتخبط فيها الطائفيّة وحبّ السلطة إنّما تؤدّي إلى تأزم في الهويّة والانتماء، وتاليًا إلى إحداث زلزلة في المفاهيم والمصطلحات المعرفيّة والثقافيّة، وإلى متاهة السير في طريق ضبابي لا إشارات للمرور فيه. وهو أيضًا يعني، وفق ما يعبّر عنه المفكّر المصري "محمد عابد الجابري"، وفق قوله :"انتقال من موقع اجتمـاعي أو سياسي أو ايديولوجي إلى آخر، كالانتقال من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ومن الفقـر إلـى الغنى، وتغيير الولاء للشخص أو للحزب، وكل ذلك يجري وفق حركيّة غير مضبوطة، ما يفتح المجال لكلّ الاحتمالات أن تحدث" .
اللافت، في هذا الجانب التغييري الذي قادته "قناة الجزيرة"، استضافتها الدائمة للمفكّر الفلسطيني "عزمي بشارة"، بشكل شبه يومي، يقدّم إرشادات ونصـائح سياسيّة للثوار المصريين حول كيفية التعامل مع النظام وماهية الخطوات التي يجب أن تُتبع لإسقاطه. وفي هذا، أيضًا، إشارة واضحة إلى دور بعض كبار المثقفين العرب الذين انحازوا إلى المشروع القطري والفوضى الخلاّقة في الوطن العربي. وهو دور ساهم، بشكل ملحوظ ومهمّ، في مساعدة "قناة الجزيرة" على أداء دورها الإشكالي والخطير عندما يتوّرط الإعلام بأجندة المخابرات وإدارة الحروب والمؤامرات. وهذا كلّه يفضي، في طبيعة الأداء، إلى تأزّم واضح في هويّتها وانتماءاتها وخياراتها. وهذا أيَضًا أفضى إلى تقزّم شعبيّة القناة مع مرور الوقت بعدما بانت كلّ تلك الحقائق.