بقلم: أسامة عكنان
استعرض مقالات الكاتب | تعرف على الكاتب 08-02-2016 / 17:28:56 - 2081 هناك ثلاث قواعد تحكمُ سيرورةَ الانتقال والتطور الإنسانيين في أشكال التواجد المجتمعي المتجسِّد سياسيا، وهذه القواعد هي التالية:
القاعدة الأولى: "الدولةُ كيانٌ قانوني" يَسْكُنُ مصالحَنا وتَسْكُنُه مصالحُنا، ويتكون من "إقليم" + "شعب" + "سلطة"، أي من "جغرافيا" + "جماعة" + "مصلحة" (!!) أما "الوطن فكيان وجداني" يَسْكُنُ مشاعرَنا وتَسْكُنُه مشاعِرُنا، ويتكون من "دولة" + "عاطفة"، هي عاطفةٌ قوميةٌ في الغالب الأعم (!!) فكلُّ وطنٍ هو دولةٌ لأبنائه بالضرورة، ولكن ليست كلُّ دولةٍ وطنا لأبنائها بالضرورة (!!) . القاعدة الثانية:
إن العالمَ كلما انفتح بعضه على البعض الآخر، وكلما تقلَّصَت الحواجز بين كياناته السياسية وبين أُمَمِه وشعوبه، إنما هو يسير قُدُما – وإن يكن على نحوٍ متدرِّجٍ – صوبَ تلاشي فكرة "الوطن"، وهيمنة فكرة "الدولة"، لأن المصلحة في سياقها الواسع تبدأ تهيمن أكثر فأكثر على علاقات البشر فيما بينهم باعتبارها – أي المصلحة – الرابط الذي يحكم علاقات الناس بالدولة، على حساب عواطفهم التي تُخَلِّقُها مشاعرهم تجاه فكرة "الوطن" وعلاقتهم به (!!)
فكسرُ الحواجزَ بين الأوطان الصغيرة كي تتحولَ إلى وطنٍ أكبر، أمرٌ أصعب بكثير من كسرِ الحواجزِ بين الدول الصغيرة كي تتحول إلى دولةٍ أكبر، لأن التنازل المطلوب في توحُّد الأوطان هو تنازل "عاطفي"، والبشر في العادة لا يغيرون تَمَوْضُعاتِهم العاطفية بسهولة، وإن كانوا قادرين على تغيير تَمَوْضُعاتِهم المصلحية بسهولة واضحة، فالحسابات في هذه يغلب عليها الطابع الكَمِّي والنفعي، وهي من ثمَّ تختلف جذريا عن الحسابات في تلك، حيث يغلب الطابع الوجداني والروحي (!!)
لأن الكيان الذي تحكم وجودَه مصلحة الجماعة بالمعايير النفعية، لا يصعب عليه كثيرا أن يتنازلَ عن شيء من مُكَوِّناته ليلتقي مع كيان آخر تنازل هو أيضا عن شيء من مُكَوِّناته، ليلتقيا على مستوى متقدِّم من مصلحة الجماعتين في ذلك السياق النفعي (!!)
بينما الكيان الذي تحكمه فضلا عن مصلحة الجماعة، عاطفة رومانسية من نوعٍ يسمو على المصلحة، وتُضْفي حالة من الخصوصية والتميُّز على علاقة أصحابه به، فإنه يكون من الصعب أن يتنازل عن شيء من مُكَوِّناته ليلتقي مع كيان آخر تحكمه هو أيضا تلك العاطفة الرومانسية التي تسمو على المصلحة (!!)
أي أن فكرة التقارب الإنساني والتوحُّد العالمي، هي فكرة تعمل في الاتجاه المعاكس لفكرة "الوطن" والمتماهي مع فكرة "الدولة"، وهي في المحصلة سيرورةُ دُوَلٍ وليست سيرورةَ أوطان (!!)
فسيرورةُ تَوَحُّدِ الدول هي سيرورةٌ تَتَّسِم بالمرونة مادام الباحثون عن توحُّدِ دولهم لا يتحدثون في الغالب الأعم إلا بلغة الأرقام وتكميم القضايا محلَّ الخلاف، عبر تحويلها إلى "منافع" ملموسة يدقِّقُ كل طرف في حصَّتِه منها بعد التوحد وقبل التوحد ليحدِّد موقفه من التوحُّد على أساسها، وهو الأمر الذي يجعل التوحُّدَ أمرا سهلا في العادة، وله قواعد مادية رياضية وفيزيائية الطابع تحكمه، بينما سيرورةُ تَوَحُّدِ الأوطان تتَّسِم بالتشنُّج، لأن الباحثين عن توحُّدِ أوطانهم لا يتحدثون في الغالب إلا بلغات المشاعر والتَّمَيُّز الأَنَوي، سواء كان تميزا يستند لاعتبارات قومية أو دينية أو عائلية.. إلخ، وبالتالي فهم يلجأون دائما إلى رَوْحَنَة القضايا محلَّ الخلاف، ليكون التوحُّد متجانسا روحيا ومتماهٍ عاطفيا، وهو الأمر الذي يجعل هذا التوحُّد أمرا صعبا، بل وصعبا جدا في الغالب الأعم (!!) . القاعدة الثالثة:
لا يمكن للثقافة المجتمعية فيما يتعلق بفكرة الكيان السياسي والقانوني الجامع لتكتل بشري ما، والسائدة لدى أيِّ أُمَّةٍ من الأمم أن تتحول إلى فكرة "الدولة" قبل أن تنجح في التشكُّل أولا على أساس فكرة "الوطن" (!!)
أي أن الأمم التي لم تصبحْ لها أوطانٌ بعد، لا يمكن أن نتوقع منها القفز إلى مرحلة ثقافة "الدول" قبل أن تجسِّد أوطانَها في أرض الواقع (!!)
إذن فالبشرية وهي تتجه نحو "الأممية"، مرورا بكيانات "الدول"، لابد لها من أن تَمُرَّ بمرحلة كيانات "الأوطان"، التي هي "دولٌ" مضافٌ إليها "عواطف" ترتكز إلى مبادئ "القوميات" أو "الأديان" الخالقة لتلك العواطف، وإن كانت القوميات هي الأساس الأكثر قدرة على التأسيس للأوطان المستقرة من الأديان (!!)
وكلُّ من يحاول فرضَ "الأممية" على الأمم التي لم تشكِّل أوطانها بعد، إذا كانت أمما تعتقد بخصوصياتها القومية، عبر دفعها باتجاه فكرة "الدولة" مباشرة، إنما يعمل بعكس اتجاه التاريخ، وخارج سننه وحتمياته، وهو ما يُنْتِج الصدامات والحروب والتناقضات (!!)
أي أنه كلما زادت مساحات وفضاءات المصلحة التي تربط بين الكيانات السياسية للبشر، فإنهم – أي البشر – يصبحون مؤهلين أكثر للتقارب والتوحد ونبذ الخلافات وتخفيف حدَّة التناقضات المُوَلِّدَة للصراعات بين كياناتهم (!!)
لأن الصراعات والتناقضات إذا كانت توَلِّدها المصالح غير المتماهية بعضها مع البعض الآخر لدى تلك الكيانات السياسية، فإن العواطف القومية تملك قدرة هائلة على تغذيتها، حتى لو كان مستوى المصلحة فيها – أي في تلك الصراعات والتناقضات – غير حقيقي أو معدوم، لأن العاطفة تستحق لدى أصحابها التضحية وتقديم القرابين من أجل المتعاطَفِ معه وهو الوطن حتى في الاتجاه المضاد للمصلحة بمعانيها الشكلية والكمية والمباشرة (!!). والخلاصة : هي أننا بصدد معادلات سيرورة تاريخية للتجمعات البشرية وللكيانات السياسية، تنحى للتصاعد على النحو التالي: أولا: تشكُّل الأوطانُ المُفْعَمة بالعاطفة القومية (!!) . ثانيا: تَطَوُّر الأوطان باتجاه أن تصبحَ دولا تعلو فيها وفي تكوين علاقاتها الداخلية والخارجية نسبةُ المصالح على نسبة العواطف (!!) . ثالثا: تلاقي مجموعات متجانسة من الدول، بناء على مصالح شعوبها، في كيانات سياسية أكبر، تأخذ طابع الدول الأكبر التي تكون نسبة المصالح التي أدت إلى تشكيلها قد زادت عن سابقاتها (!!)
هذه هي الطريق الموضوعية للوصول إلى العالمية أو الأممية التي هي تجسيدٌ لأعلى درجات التعاطي مع "المصلحة المشتركة" في "الكيان السياسي"، ولأدنى درجات التعاطي مع "العاطفة القومية" في ذلك الكيان (!!)
ولأن وحدة العالم ليست بمثابة توحيدِ أممٍ ودولٍ تحت هيمنة أُمَّةٍ أو مجموعة أمم أخرى بنزعة إمبراطورية – أيا كان عنوان هذه النزعة وسواءٌ كان عائليا أو قوميا أو دينيا – تذيبُ قوميات عديدة في قومية محدَّدة، فإن القرآن الكريم ورسول الإسلام عليه السلام وَجَّها أتباعهما في السياسة وفي النضال السياسي المتَّجِهِ إلى تشكيل الكيانات السياسية، إلى فكرة تشكيل الأوطان القومية التي كانت ذائبة في مجموعة الإمبراطوريات المهيمنة آنذاك عبر التأسيس لمرتكزات تحريرها من تلك الإمبراطوريات المهيمنة عليها والمُغيِّبَة لها، تأسيسا لواقع عالمي يقوم على فكرة "الأوطان القومية" التي هي نقطة البداية الطبيعية لتأسيس الدول المصلحية المتعايشة، والتي تستطيع لاحقا أن تؤسِّس لشكلٍ متقدمٍ من أشكال الوحدة العالمية (!!)
لا يوجد صور مرفقة
|