تشغل الأزمة الدورية مركز الصدارة بين الأزمات الاقتصادية التي تعترض الاقتصاد الرأسمالي. وهي نتيجة مباشرة للاختلالات الاقتصادية العامة بمعناها الواسع (عدم التناسب بين الإنتاج والاستهلاك، وبين فرعي الإنتاج الأول والثاني، وبين مختلف فروع الاقتصاد الوطني). وتسهم هذه الأزمات في نهاية المطاف في إيجاد آليات تساعد في زيادة إنتاجية العمل وخفض نفقات الإنتاج. فالمؤسسات، في محاولاتها الخروج من الصعوبات الاقتصادية التي تعانيها تكثف بحوثها عن أنواع جديدة من المنتجات وعن تقنيات حديثة تستخدمها في الإنتاج، وتعد الحلول المؤقتة أو الجذرية التي تتوصل إليها المؤسسات أساساً لتجديد رأس المال الثابت ورفع إنتاجية العمل وتوسيع الإنتاج. وفي هذا المعنى نفسه تعد الأزمة مرحلة تأسيسية للدورة الاقتصادية، أي المرحلة التي تحدد، إلى درجة كبيرة، مسار التطور اللاحق، والملامح الرئيسة للدورة التالية، وطبيعة تجديد رأس المال الثابت. لذلك لا بد في البداية من الحديث عن طبيعة الدورة الاقتصادية الملازمة للاقتصاد الرأسمالي، وخصائصها والمراحل التي تمر بها، ومن ثم الانتقال إلى الحديث عن الأزمة الاقتصادية بوصفها إحدى مراحل هذه الدورة.
الدورة الاقتصادية
تلازم الحياة الاقتصادية تغيرات مستمرة، إذ يمر التطور الاقتصادي بمراحل من الازدهار ومن الانكماش وتسمى الدورات الاقتصادية. وهي ظاهرة ملازمة للنشاط الاقتصادي منذ القديم. وثمة مثال ورد في سورة يوسف من القرآن الكريم عن اقتصاد مصر في زمن يوسف النبي بدورة مدتها سبع سنوات من الخصب تعقبها سبع سنوات «عجاف». ولكن مظاهر الدورات الاقتصادية غدت أكثر تعقيداً منذ ظهور الثورة الصناعية في أوربة وأصبحت ظاهرة تلازم نظام السوق بوجه عام.
وصف فريدريك أنغلز المسيرة التي تحكم تطور الاقتصاد الرأسمالي بحسب مراحل الدورة الاقتصادية، وهي المسيرة التي تقود ذلك الاقتصاد، من أزمة إلى أزمة. وأوضح أن الجمود قد يخيم على الاقتصاد سنين طويلة. فتتعطل القوى المنتجة، وتُبَدَّد كميات كبيرة من المنتجات بسبب الكساد وانخفاض الأسعار وعدم القدرة على التصريف. ثم تنشط حركة الإنتاج وتبادل السلع شيئاً فشيئاً، وتتسارع تدريجياً حتى درجة الركض والجموح، ثم تتحول إلى قفزات تشمل الصناعة، والتجارة، والتسليف، والمضاربة، وتبدأ بعدها بالتباطؤ والانحدار إلى هاوية لا قرار لها.
والدورة في الاقتصاد الرأسمالي هي مرحلة من الزمن تبدأ مع بداية أزمة وتنتهي مع بداية أزمة أخرى، مروراً بأربع مراحل أساسية هي: أزمة فانتعاش ونهوض فركود تعقبه أزمة أخرى، وهكذا تتوالى الحركة الدورية لترسم طريق التطور الرأسمالي. والمرحلة الرئيسة فيها هي أزمة فيض الإنتاج، فكل أزمة تكمل الدورة السابقة لها، وتؤدي التناقضات المتراكمة في مسيرة تلك الدورة السابقة إلى الانفجار، معبدة الطريق لتوسع الإنتاج في دورة جديدة تنتهي إلى أزمة تالية. وعلى هذا فالدورة تبلغ ذروتها عندما تبدأ الأزمة التالية في دورة جديدة وهي ما يسمى أزمة فيض الإنتاج.
مراحل الدورة الاقتصادية وخصائصها
يخضع الاقتصاد الرأسمالي لقانون التطور الدوري، وتعد الدورة الاقتصادية السمة الملازمة لهذا الاقتصاد، فهو ينتقل من الانتعاش إلى الركود ثم يعود فينهض من ركوده وهكذا.
تبدأ الأزمة الدورية في الاقتصاد الرأسمالي عندما تظهر فجوة بين إنتاج السلع وتصريفها. وإن عملية التداول السلعي البسيط وانفصال البيع عن الشراء نتيجة لظهور النقود أكدت إمكان حدوث هذه الفجوة. وأدت سيطرة رأس المال، والطابع الاجتماعي للإنتاج، في ظل الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، إلى إمكان حدوث تباعد حقيقي بين فعل شراء السلعة وفعل بيعها كان من نتائجه فيض الإنتاج الذي ترافقه عادة إفلاسات كبيرة في المؤسسات الصناعية والتجارية. فالمؤسسة عندما تفقد القدرة على تحويل مخزونها من السلع إلى نقد، تتوقف عن دفع ديونها، ويصاب أصحابها وأصحاب المصارف والمضاربون بالهلع، ويبدأ سباق محموم وراء النقد، فيطالب الدائنون بوفاء ديونهم أو خدمتها. ويتسابق المودعون إلى سحب أموالهم من المصارف وصناديق الضمان والتسليف فتضطر بعض المصارف إلى التوقف عن الدفع وقد تعلن إفلاسها ويتقلص عرض رأس المال الإقراضي ويرتفع معدل الفائدة.
وكلما ازداد فائض الإنتاج الخفي وضوحاً، حدث تقلص في الإنتاج فيعمد من أفلس من الرأسماليين إلى إغلاق مؤسساتهم، وتلجأ بعض المؤسسات إلى تقليص أعمالها وخفض إنتاجها، وإلغاء الورديات الإضافية، أو تقليص أيام العمل الأسبوعية أو ساعات العمل، وقد تغلق بعض «ورشاتها»، وتقلل من أنواع المنتجات التي تنتجها.
ولاشك في أن درجة تقلص الإنتاج تتباين في مختلف فروعه، فيكون هبوطه كبيراً عادةً في الفروع التي تصنع وسائل الإنتاج. ومع تراجع الإنتاج وانخفاض كمياته، يقل حجم النقل وتتراجع الأعمال التجارية، وتنكمش التجارة الخارجية ويحدث انخفاض في أسعار السلع وتكون عواقب ذلك وخيمة جداً في المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، فتقف عاجزة أمام المؤسسات الكبيرة التي تملك إمكانات أفضل لمواجهة الأزمة. وقد تنتشر البطالة التامة والبطالة الجزئية انتشاراً واسعاً وسريعاً، مع هبوط في مستوى الأجور إلى مادون قيمة العمل، فيزداد بؤسُ الطبقة العاملة ومعاناتها، في حين تتعرض كميات كبيرة من السلع والخبرات إلى التلف والإبادة.
وعند بدء الانتقال من مرحلة الأزمة إلى المرحلة التي تليها، يتوقف الإنتاج عن التراجع، ولكنه يترجح حول مستوى الأزمة المنخفض، ويتسارع امتصاص الاحتياطات السلعية، ويتوقف هبوط الأسعار فتستقر عند المستوى الذي بلغته في نهاية مرحلة الأزمة ولا تحدث انهيارات جديدة ذات شأن في الأسواق، ولكن التجارة تبقى ضعيفة، بطيئة الحركة. ويؤدي تقليص الإنتاج وتراجعه في هذه الأثناء إلى انخفاض مخزون السلع فتبدأ الأسواق بالتحسن شيئاً فشيئاً وينشط تصريف السلع فيها، وتتحسن أوضاع المؤسسات المالية فيقل طلبها على القروض، وتتحسن درجة الثقة بالوضع الاقتصادي فيستأنف المدخرون إيداع أموالهم في المصارف، ويقود ذلك إلى انخفاض معدلات الفائدة في السوق. وهذا يعني أن مرحلة الانكماش هي مرحلة تكيف الاقتصاد الوطني مع شروط الأزمة واستعداده للانتعاش الاقتصادي.
بعد ذلك يبدأ الانتقال تدريجياً، من مرحلة الركود والجمود إلى المرحلة التالية من الدورة وهي مرحلة الانتعاش، ففي هذه المرحلة يبدأ خط الإنتاج والتجارة بالصعود ويقترب الإنتاج حجماً وكميّةً من المستوى الذي كان عليه عشية الأزمة، ثم يتجاوزه، وهذا يعني بدء الانتقال إلى المرحلة التالية من الدورة وهي النهوض والازدهار، ولهذه المرحلة سمات معاكسة تماماً لسمات مرحلة الأزمة ومنها: تزايد الإنتاج لمواجهة تزايد الطلب الفعال، وارتفاع أسعار السلع لزيادة الطلب عليها وتزايد الطلب على قوة العمل وانخفاض عدد العاطلين عن العمل مع ارتفاع في معدلات الأجور.
تنبثق الأزمات عن عمليات عميقة الجذور، ولكن طابع حركتها وأنماطها ترتبط كذلك بأسباب عرضية وثانوية منها: الهلع الذي يصيب رجال الأعمال وأخطاؤهم في تقويم أحوال السوق، والعوامل المؤثرة في النقد وسياسات الحكومات وغير ذلك. مما قد يحدث تغيراً كبيراً في شروط العمل والإنتاج، ويساعد على إدخال تغييرات معينة على مسار الدورة، وهذا ما حدث بعد الحرب العالمية الثانية. فالاقتصاد الرأسمالي يكرر، دورياً «إنتاج الفجوة» بين العرض والطلب الفعالين، وكلما كانت الفجوة كبيرة، كانت الأزمة أشد، وهي تخرج عن إرادة الأفراد منعزلين، ولكن الدراسة المتأنية لأحوال السوق تفسح في المجال لاتخاذ إجراءات احترازية وقائية وإيقاف نمو الإنتاج في وقت مبكر بالاستناد إلى دلائل معينة، مما يقلص حجم هبوط الإنتاج في أثناء الأزمة. فيغدو منحنى الدورة أكثر سلاسة. أن إن التحكم بهبوط الإنتاج أو التخفيف من آثاره واستمراره لا يتم بلا ثمن، وهو خفض معدلات النمو في مرحلة الانتعاش.
آلية الانتقال من مرحلة إلى أخرى من مراحل الدورة: ترتبط كل مرحلة من مراحل الدورة الاقتصادية ارتباطاً عضوياً بالمراحل الأخرى، ويعدّ الانتقال من الأزمة والركود إلى الانتعاش فالنهوض حركة صاعدة ترتبط بتغير هيكل الإنتاج الاقتصادي لموا جهة الأزمة من جهة، وبردود الفعل التي تبديها القوى الاقتصادية المختلفة من جهة ثانية. ففي مرحلتي الأزمة والركود تنخفض أسعار السلع فيزداد الطلب عليها، وينخفض الإنتاج فيقل العرض ويتكيف مع حجم الطلب، وهكذا يتم امتصاص فائض السلع في السوق، ومن جهة ثانية، تنخفض أسعار عناصر رأس المال الأساسي وأجور العمل فيزداد الحافز عند الرأسماليين لزيادة الاستثمارات. فيتجه التطور نحو الأعلى، ويزداد الطلب على السلع وتميل الأسعار نحو الارتفاع، فيزداد المردود وتنخفض أسعار عوامل الإنتاج، مما يؤدي إلى انخفاض التكاليف، ويميل الرأسماليون إلى زيادة نشاطهم فيتبدل اتجاه الحركة الهابط نحو الصعود ويبدأ التحول من الأزمة والركود إلى الانتعاش والنهوض.
أما الانتقال من الانتعاش والنهوض إلى الأزمة والركود فيتم باتجاه معاكس تماماً. ففي مرحلة النهوض الاقتصادي يزداد الإنتاج، ويفيض عن حاجة السوق فيصبح العرض أكبر من الطلب، وعندما يبلغ الفارق بينهما حداً معيناً تتجه الأسعار نحو الانخفاض، فيقل مردود المؤسسات، في حين يزداد الطلب على عوامل الإنتاج فترتفع أسعارها في السوق، ويؤدي ذلك إلى ارتفاع التكاليف وتدني الطلب الفعال مما يقود إلى كساد السلع ويندفع أصحاب رأس المال إلى تقليص إنتاجهم من جديد فيدخل الاقتصاد الوطني في مرحلة جديدة من الركود والأزمة. وهكذا تتناوب مراحل الدورات الاقتصادية. وتختلف مدة كل مرحلة من المراحل تبعاً لاختلاف شروطها بين بلد وآخر أو من وقت إلى آخر. ولكن هناك سمة عامة ملازمة لتطور الدورة هي أن مرحلة الأزمة والركود أطول من مرحلة الانتعاش والنهوض عادة.
فوضى الإنتاج والتناقض بين الإنتاج والاستهلاك: (أو طبيعة الأزمة)
إن فوضى الإنتاج سمة ملازمة لنمط الإنتاج الرأسمالي وليس ثمة تناسق بين فروع هذا النمط من الإنتاج إلا ما جاء عرضاً أو مؤقتاً فكل رأسمالي يسعى في ظل سيطرة الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، إلى زيادة إنتاجه وإغراق السوق وقد لا يعبأ بإمكانات التصريف ومستوى الطلب الفعال للسلعة التي ينتجها. لذلك يتطور الإنتاج الرأسمالي على قفزات سريعة في بعض الفروع والمؤسسات، ومن هنا يكون عدم التساوي في التطور الذي يُعد قانون الرأسمالية المطلق. ولا يمكن للإنتاج الرأسمالي أن يتطور إلا عن طريق المزاحمة التي تنطوي على تناقضات لا حصر لها. ولابد للمزاحمة من أن تولد عدم تناسق بين فروع الاقتصاد الوطني. ومن المعروف أن للإنتاج فرعين أساسيّين، أولهما فرع «إنتاج وسائل الإنتاج». وثانيهما فرع «إنتاج السلع الاستهلاكية». وتتطور فروع الإنتاج المختلفة في ظل الرأسمالية تطوراً غير متسق وغير متوازن. ويلاحظ أن نمو الإنتاج الرأسمالي، وتكوّن السوق الداخلية، لا يحدثان بفعل زيادة إنتاج سلع الاستهلاك بقدر ما يحدثان بفعل زيادة إنتاج وسائل الإنتاج. أي أن الفرع الأول (إنتاج وسائل الإنتاج) ينمو بسرعة أكبر من سرعة نمو الفرع الثاني (إنتاج سلع الاستهلاك)، وتسبق زيادة إنتاج وسائل الإنتاج كثيراً زيادة إنتاج سلع الاستهلاك. وتحتل سلع الاستهلاك، في الكتلة العامة للإنتاج الرأسمالي، منزلة متضائلة الأهمية مع مرور الزمن.
وإن زيادة إنتاج وسائل الإنتاج لايمكن إلا أن تؤثر في إنتاج وسائل الاستهلاك (أموال الاستهلاك)، ذلك لأن المؤسسات التي تزيد من استخدام وسائل الإنتاج (أموال الإنتاج) تدفع إلى السوق في نهاية المطاف كميات متزايدة باستمرار من السلع المعدة للاستهلاك. وعلى هذا فهناك علاقة ارتباط واضحة ومباشرة بين إنتاج أموال الإنتاج، من جهة، وإنتاج أموال الاستهلاك من جهة ثانية. ولكن في الوقت الذي يتزايد فيه إنتاج أموال الإنتاج وأموال الاستهلاك يتراجع الطلب الفعال بسبب انخفاض نصيب قوة العمل من الدخل القومي، فيتجه استهلاك الجماهير نحو الانخفاض في حين يتجه الإنتاج نحو الزيادة فتصطدم زيادة الإنتاج بانخفاض الاستهلاك في المجتمع.
نظريات الأزمات الدورية
لم يتمكن آدم سميث وديفيد ريكاردو من كشف تناقضات الاقتصاد الرأسمالي العميقة وفهمها التي تظهر في أوضح صورها بالأزمات الاقتصادية الدورية العامة. فقد أكد ريكاردو أن الإنتاج الرأسمالي يتمتع بمقدرة على التوسع لا حد لها، مادامت زيادة الإنتاج تؤدي آلياً إلى زيادة الاستهلاك، ولهذا فلا مكان لفيض الإنتاج العام. وبناء على هذه النظرية لا يمكن حدوث غير توقف عفوي في تصريف بعض السلع ناشئ عن عدم تناسق جزئي في توزيع العمل الاجتماعي بين فروع الإنتاج، وإن القضاء على عدم التناسق هذا حتمي بفعل ميكانيكية المزاحمة. ولكن سيسموندي الذي جاء بعد ريكاردو توصل إلى كشف بعض التناقضات التي تعترض الاقتصاد الرأسمالي، وإن لم يتمكن من تقويم طبيعتها تقويماً دقيقاً.
وضع سيسموندي نظرية حول الأزمات الاقتصادية أضحت فيما بعد أساساً قامت عليه مجموعة من النظريات الأخرى. فهو يُرجع الأزمة إلى الاستهلاك الضعيف، أو إلى عدم إشباعه. وقد استند سيسموندي إلى بعض أفكار آدم سميث الأساسية، واستنتج، أن على الإنتاج أن يتوافق مع الاستهلاك، وأن الإنتاج يتحدد بالدخل. ورأى أن الأزمة نتيجة لاختلال هذا التناسب، أي نتيجة للإفراط في الإنتاج الذي يسبق الاستهلاك. وأن أساس الأزمة يكمن خارج الإنتاج، وخاصة عندما تتوضح في التناقض بين الإنتاج والاستهلاك. وأوضح سيسموندي أن الإنتاج يتحدد بالدخل، وأنه هو الهدف الوحيد لتراكم الإنتاج، لذلك يجب على الإنتاج أن يلائم الاستهلاك. وأكد أن تطور الرأسمالية يؤدي إلى إفلاس المنتج الصغير، وإلى تفاقم أوضاع العمال المأجورين، وقد أكد أيضاً أن توسيع الإنتاج، يصطدم بحدود لا يستطيع التغلب عليها، لأن تضاؤل استهلاك الجماهير، سيقلل من إمكان تصريف الإنتاج ويقلل من إمكان تحقيق أرباح أصحاب رأس المال.
وقد حاولت هذه النظرية فيما يبدو أن تعطي تفسيراً ظاهرياً صحيحاً للأزمة، ولكنها لم تبحث في أسباب تدني الأجور ولافي أسباب سوء توزيع الدخل الذي يقود إلى نقص الاستهلاك الذي يؤدي بدوره إلى حدوث الأزمة.
يفسر ماركس الأزمات الاقتصادية بالتناقضات الرئيسة في الاقتصاد الرأسمالي التي تتسبب في حدوث الأزمات الدورية العامة. وأكدت هذه النظرية أن السبب الرئيس في حدوث الأزمة وجود تناقض في الإنتاج الرأسمالي، أي التناقض بين الطابع الاجتماعي للإنتاج والملكية الرأسمالية لوسائل الإنتاج.
ولم تنفِ النظرية الماركسية وجود تناقض بين الإنتاج والاستهلاك في الاقتصاد الرأسمالي، بل حاولت أن تضع هذا التناقض في موقعه المناسب في تفسير الأزمة الدورية، وترى النظرية الماركسية أن تحليل التناقضات العميقة الملازمة لجوهر أسلوب الإنتاج الرأسمالي يظهر كيف يتم الانتقال الديالكتيكي من إمكان حدوث الأزمات إلى واقعها، إلى حتمية الأزمات في ظل الرأسمالية.
ويفسر كينز الأزمات الاقتصادية بعدم كفاية الطلب، ويؤكد أن سبب الأزمة يكمن في القوانين النفسية التي لا تتبدل ومنها «قانون ميل الناس إلى التوفير». وهكذا يربط كينز السبب الرئيس للأزمة بخصائص طبيعة الإنسان التي لا تتبدل، وفوضى الروح الإنسانية، بدلاً من ربطها بخصائص الاقتصاد الرأسمالي النوعية.
ويوضح كينز أن مجموع استهلاك المجتمع يتأخر دائماً عن نمو مجموع الدخل الحقيقي، نتيجة خصائص الأفراد النفسية، ويطالب الدولة بالتدخل لحل قضية استخدام أكبر عدد ممكن من اليد العاملة (نظرية الاستخدام الكامل). وهو يعتقد أن معالجة الأزمات الاقتصادية لا يتم إلا بتدخل الدولة في الحياة الاقتصادية تدخلاً فعالاً، عن طريق تنظيم مقدار الاستهلاك العام والتوظيفات، باستعمال عدد من الأدوات من بينها السياسة الضريبية ورفع معدل الحسم، وغير ذلك.
الأزمة الاقتصادية
وصف فريدريك أنغلز الأزمة الاقتصادية وصفاً تقليدياً. إذ قال: «تتوقف التجارة، وتزدحم الأسواق، وتتراكم البضائع بكميات هائلة لا طريق لبيعها، ويختفي النقد السائل (السيولة النقدية)، كما يختفي التسليف، ثم تتوقف المصانع، وتفقد جماهير العمال وسائل عيشها، لمجرد أنها كانت قد أنتجت الكثير من هذه الوسائل، بعد هذا تتتالى الإفلاسات، كما تتتالى عمليات البيع القسري. ويستمر هذا الانسداد القاسي سنوات طويلة، فتتدمر القوى المنتجة والمنتجات إجمالاً، حتى الوقت الذي تمتص فيه السوق فائض البضائع المتراكمة أي حتى الوقت الذي يستعيد فيه الإنتاج والتبادل مسيرتهما بالتدريج».
تأتي الأزمة بعد عدة أعوام من الازدهار والصفقات الجيدة، وتعلن الأزمة عن نفسها عندما تبدأ الهمسات هنا وهناك في الصحف والمصفق (البورصة)، وتسري الإشاعات حول إفلاس بعض المؤسسات، وترتفع نسبة الحسم، مما يزيد في صعوبة التسليف. وتتوضح الأزمة عندما تزداد أخبار الإفلاسات، ويبدأ البحث لمعرفة مَن المسؤول عن حدوث الأزمة، أهي المصارف أم رجال الأعمال، أم رجال البورصة، أم أصحاب المصانع. ويحاول العاملون في البورصة أن يحمّلوا الصناعيين المسؤولية، ويُرجع هؤلاء السبب إلى شح النقد المتداول في البلد وهكذا.
أصبحت الأزمة الدورية المعاصرة ذات طبيعة مركبة، وبرز عدد من الأزمات العالمية منذ سبعينات القرن العشرين مثل: أزمة النظام النقدي الدولي، وأزمة الطاقة والخامات، وأزمة الدين الخارجي، وأزمة الغذاء وأزمة البيئة، وتشابكت هذه الأزمات الهيكلية لتؤلف الأزمة الدورية وتزيدها تعقيداً، وبات الخروج منها أصعب بكثير من ذي قبل. وتنعكس الأزمات الهيكلية بصفة خاصة في صورة بطالة هيكلية، وعجز هيكلي في الموازنات العامة، وميل إلى التضخم مع الركود.
لا سبيل إلى فهم الأزمة الممتدة منذ السبعينات إلا في ضوء التغيرات الهيكلية الجارية في الاقتصاد الرأسمالي العالمي. فالظاهرة الهيكلية البارزة هي تشابك الأزمة الدورية مع الأزمات الهيكلية التي يبحث رأس المال الدولي عن مخرج منها عن طريق ترشيد الإنتاج على أساس منجزات الثورة العلمية والتقنية. ومن ثم تشابكت الظواهر ذات الطابع الدوري مع الأزمة الهيكلية الطويلة الأمد، ومع الركود في الفروع القاعدية للاقتصاد الرأسمالي.
الأسباب المباشرة لأزمات فيض الإنتاج
إن الأسباب المباشرة لأزمات فيض الإنتاج هي التناقضات الرئيسة التي تلازم النظام الرأسمالي وهي: التناقض بين زيادة الإنتاج وتراجع الإنتاج الفعال نسبياً، وفوضى الإنتاج، واختلال التوازن وعدم التناسق، والتناقض بين الإنتاج والاستهلاك، والتناقض بين شروط إنتاج القيمة الزائدة وشروط تحقيقها.
وجميع هذه التناقضات إنما هي ناشئة عن التناقض بين الطابع الاجتماعي للإنتاج وشكل الحيازة الرأسمالي الخاص. التناقض بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج.
وتتمثل الرأسمالية بالإنتاج السلعي في أعلى مرحلة من مراحل تطوره، عندما تتحول منتجات العمل كلها إلى سلع، وتتحول قوة العمل نفسُها إلى سلعة تتحدد قيمتُها بالعرض والطلب. وتقوم الرأسمالية على العمل المأجور، أي تجمّع وسائل الإنتاج في أيدي أصحاب رأس المال وتحول هذه الوسائل إلى وسائل لاستثمار العمال المأجورين، ويُحدث الانفصال بين وسائل الإنتاج المحصورة في أيدي القلة من الرأسماليين وبين المنتجين المباشرين المحرومين كل شيء ماعدا قوة عملهم التي يضطرون إلي بيعها لمالكي وسائل الإنتاج.
ونتيجة لما تقدم يصبح ناتج عمل المجتمع كله في حوزة عدد قليل من مالكي وسائل الإنتاج وهدفهم الوحيد هو تحقيق الربح. وينشأ عن الركض وراء الربح تعاظم استغلال العمال المنتجين، وانخفاض نصيبهم من الدخل القومي، وهذا يؤدي إلى خفض الطلب الفعلي، وتقلص تصريف السلع والمنتجات وما دامت الرأسمالية قائمة، فلابد من حدوث أزمات فيض الإنتاج.
تاريخ الأزمات الاقتصادية
كانت الأزمات الاقتصادية في التشكيلات الاقتصادية الاجتماعية التي سبقت الرأسمالية تحمل طابعاً مختلفاً عن الأزمات التي حدثت في عصر الرأسمالية. فقد كانت الأزمات تنجم في السابق عن كوارث طبيعية عفوية، كالجفاف والطوفان والجراد وغيرها من الآفات، كما كانت تنجم عن أحداث من صنع الإنسان كالحروب والغارات التي كانت تدمر كل شيء، وتصيب القوى المنتجة بالخراب، وتحدث فاقة شديدة عند الناس، وتنتشر المجاعات والأوبئة فتقتل الكثير من الناس. وكانت هذه الأزمات، التي تسمى «أزمات ضعف الإنتاج»، تنجم عن أسباب غير نابعة مباشرة من جوهر أسلوب إنتاج معين. وقد أشار تقي الدين المقريزي (ت845هـ) إلى معظم الأزمات الاقتصادية التي حدثت في مصر على مر العصور، وحدد أهم الأسباب التي نشأت عنها ما كان منها بسبب الطبيعة (كانخفاض منسوب النيل، وانحباس المطر، والآفات التي تصيب المحصولات) أو بسبب سلوك الإنسان وتصرفه كالفتن والاضطرابات وتفشي الرشوة وغلاء دور السكن وارتفاع أجورها وانخفاض قيمة النقود.
وفي العصر الحديث انفجرت أول أزمة خفض إنتاج ذات صفة دورية واضحة في إنكلترة عام 1825. وأدت هذه الأزمة إلى تقليص الإنتاج، وحدثت إفلاسات كثيرة، وحدثت أزمة تسليف ونقد، وتراجع التصدير، وانتشار البطالة والفقر. أما أزمة خفض الإنتاج الدورية التالية فقد ظهرت في النصف الثاني من عام 1836، وشملت جميع فروع الصناعة في إنكلترة، وأدت إلى هبوط شديد في حجم التصدير، ثم بدأت مرحلة ركود طويلة امتدت حتى عام 1842. ثم اندلعت أزمة اقتصادية جديدة في عام 1866 بسبب بعض الحروب التي وقعت بين الدول الأوربية، فسبّب ذلك توتراً اقتصادياً كبيراً في أوربة.. وظهرت أزمة أخرى في عام 1882، وأزمة تالية في عام 1890. وانتشرت أزمة كبيرة في أوربة في عام 1900، تلتها أزمة عام 1907 وأزمة 1913 .
أما أعنف أزمة حدثت في القرن العشرين فهي أزمة 1929 - 1933 التي هزت العالم، وكانت لها سمعة مدوية، وتلتها أزمة 1974 - 1975 التي أعلنت ولادة مرحلة جديدة من مراحل تطور الرأسمالية. وتعدّ أزمة 1981 - 1983 أشد عنفاً من أزمة السبعينات السابقة. والأزمة التي كانت في جوهرها أزمة إفراط في الإنتاج وعدم قدرة السوق على استيعابه صارت تأخذ شكل الركود الممتد لا شكل دورة الانتعاش والركود.
أنواع الأزمات الاقتصادية
يمكن تمييز ثلاثة أنواع من الأزمات الاقتصادية التي يتعرض لها الاقتصاد الرأسمالي وهي: الأزمة الدورية، والأزمة الوسيطة، والأزمة الهيكلية.
أما الأزمة الدورية (أزمة فيض الإنتاج) التي تدعى أحياناً «الأزمة العامة» فتصيب تكرار الإنتاج، وتشمل كل عملية تكرار للإنتاج، أو الجوانب الرئيسة فيها: الإنتاج والتداول، الاستهلاك والتراكم. وهذا يعني أن الهزات التي تتولد عن الأزمة الدورية تكون أكثر عمقاً إذا ما ووزنت بغيرها من الأزمات.
أما الأزمة الوسيطة، فأقل اتساعاً وشمولاً، ولكنها مع ذلك تمس جوانب ومجالات كثيرة في الاقتصاد الوطني. وتحدث هذه الأزمات نتيجة لاختلالات وتناقضات جزئية في عملية تكرار الإنتاج الرأسمالي: فالأزمات الوسيطة لا يمكن أن تحمل طابعاً عالمياً على النحو الذي يميز الأزمات الدورية العالمية لفيض الإنتاج.
أما الأزمة الهيكلية، فتشمل في العادة مجالات معينة أو قطاعات كبيرة من الاقتصاد العالمي، منها، على سبيل المثال، أزمة الطاقة، وأزمة المواد الخام، وأزمة الغذاء، وغيرها. وإذا كانت الأزمة الهيكلية تقتصر على قطاع واحد من قطاعات الاقتصاد فإنه لابد أن يكون قطاعاً مهماً، وأساسياً، كمصادر الطاقة، أو صناعة الحديد والصلب، أو أزمة الغذاء وما إلى ذلك. فالأزمات في الفروع الصغيرة، ولو استمرت مدة طويلة، لا يمكن أن تصبح أزمات دورية، لأنها لا تمس جميع جوانب الاقتصاد الأخرى وقطاعاتها.
ويعتقد أغلب الاقتصاديين بضرورة التفريق بين الأزمات الدورية والوسيطة والهيكلية، مستندين في ذلك إلى عدد من المعايير، أهمها حتمية ظهورها في سياق الدورة الاقتصادية أو عدم حتمية ذلك، وكذلك عمق الأزمة وأثرها في الأطر الوطنية، ثم شمولها أو عدم شمولها كل قطاعات الاقتصاد الوطني.
إن كل أنواع الأزمات تعكس تناقضات واختلال توازن في عملية تكرار الإنتاج الرأسمالي، ولكن بأشكال مختلفة، ولها آثارها المختلفة في الاقتصاد العالمي. ففي الأزمات العامة الشاملة للسوق العالمية تبرز كل تناقضات الدولة والاقتصاد الرأسمالي وتفعل فعل العاصفة داخل الدولة وخارجها، أما الأزمات الجزئية (الوسيطة) فتنقل إلى خارج الدولة مشتتةً، منعزلةً، وحيدة الجانب.
وتشغل الأزمات الاقتصادية الهيكلية مكانة متميزة بين الأزمات الاقتصادية الملازمة للاقتصاد الرأسمالي.
وقد تعرض الاقتصاد الرأسمالي إلى أزمات هيكلية خطيرة في مجال الطاقة والخامات وعانى نقصاً في إنتاج الغذاء. وكان لأزمة الطاقة في العامين 1974 - 1975 أكبر الأثر في الأزمة العالمية التي حدثت إبان هذه الحقبة والتي أعلنت قيامَ دورة جديدة من تراكم رأس المال.
تبدل مظاهر الأزمات ومظاهر الأزمة الحديثة
تبدلت مظاهر الأزمة الاقتصادية في النظام الرأسمالي مع مرور الزمن، فقد أمكن التخفيف من الحدة التي كانت تتسم بها الأزمات سابقاً وانخفضت مرحلة استمرار الركود والكساد في الوقت الحاضر. وتباينت مراحل انفجار الأزمة من بلد إلى آخر، فأصبحت لا تقع في آن واحد فيها جميعاً، مما ساعد على مواجهتها. كذلك تقلص مدى الانخفاض في معدلات الإنتاج الصناعي. وكانت الدورة الاقتصادية سابقاً تستغرق في العادة عشر سنوات، حتى يستعيد الاقتصاد مرحلة الانتعاش من جديد. وكان الأمر يتوقف في الواقع على قدرة الاقتصاد الرأسمالي على التجديد وتوسيع رأس المال الثابت في أصوله الإنتاجية. وكل أزمة هي نقطة البدء للقيام بتجديد شامل، وتوسيع في رأس المال الثابت، بهدف أساسي هو تخفيض نفقات الإنتاج، لكن الوضع في الأزمات الأخيرة تغير، فكل تجديد لرأس المال الثابت وتوسيعه عملية لابد لها من نهاية، وغالباً ما يتوقف الرأسماليون في لحظة معينة عن شراء السلع والآلات التي كانوا يحتاجون إليها لأن الطاقة الإنتاجية الجديدة تكفي للبدء في تزويد السوق بكمية إضافية من السلع.
أما أهم المتغيرات التي طرأت على مظاهر الأزمة الدورية الحديثة فتتلخص فيما يلي:
ـ باتت الأزمات أقل عمقاً، وأقصر زمناً بالموازنة مع الأزمات التي حدثت قبل الحرب العالمية الثانية.
ـ لا يصاحب الأزمات الدورية العالمية الحديثة هبوط كبير في الإنتاج في جميع البلدان الرأسمالية.
ـ يلاحظ قدر كبير من عدم تزامن الدورات الاقتصادية في البلدان المختلفة.
ـ غدت الدورات الاقتصادية تقترن غالباً بأزمات وسيطة.
ـ أصبح الركود الاقتصادي ظاهرة عادية وغير نادرة.
ـ تغير الإيقاع التقليدي لنشاط الأعمال.
ـ تغير طابع حركة الأسعار.
ـ تقلصت الأزمات النقدية (الداخلية).
ـ تغير كذلك دور أزمات البورصة.
ويلاحظ أن المظاهر الحديثة للأزمات تتمثل في أنها أقل حدة وأقصر أمداً، وهذا يرجع إلى المحاولات المستمرة من جانب الرأسمالية المعاصرة للتكيف مع الشروط التاريخية الجديدة ومتطلبات الثورة التقنية والعلمية. ومن أهم المظاهر الحديثة للأزمة الشاملة:
انخفاض معدلات النمو الاقتصادي، وانخفاض معدل نمو الصادرات، وانخفاض العمالة، وانتشار البطالة، وحدوث ظاهرة التضخم، وارتفاع أسعار الفائدة، واتجاه منحنى الربح في البلدان الرأسمالية نحو الانخفاض، وتفاقم أزمة النقد الدولية، وارتفاع أسعار الذهب.
وقد تجمعت هذه المظاهر جميعاً في الأزمة الاقتصادية الشاملة التي شهدتها البلدان الرأسمالية في سبعينات القرن العشرين، إذ كانت كل الاقتصاديات الرأسمالية تقريباً تواجه معدلات بطالة مرتفعة. وفي الوقت نفسه كان أغلبها يتبع سياسات مضادة للتضخم، وهي ذات طبيعة انكماشية تضاعف من حدة البطالة.
وما تزال الرأسمالية عاجزة عن التغلب على أزماتها، ومازالت تعاني أزمات عميقة (أزمات دورية وهيكلية)، وصارت أزمتها الاقتصادية أزمة متصلة وممتدة بما تشتمل عليه من نمو بطيء وبطالة جماعية. ومازالت البلدان المتقدمة تمارس عمليات استغلال بلدان العالم الثالث ونهبها في محاولة مستمرة لنقل أعباء أزمتها إلى شعوب تلك الدول.
ومع كل الأزمات التي تعانيها الدول الرأسمالية فإنّ نظامَها الاقتصادي مازال قادراً على التكيف والبقاء، ومازال قادراً على مواصلة الاستغلال.
ِ