القومية nationalism مذهب سياسي قوامه إيثار المصالح القومية على كل شيء، ويظهر هذا الإيثار في منازع الأفراد، أو في منهج حزب سياسي، يناضل في سبيل قومه، ويدافع عنهم، ويعتز بهم، والقومية قوميتان: ضيقة وواسعة.
الأولى تضع نفسها فوق كل شيء، وتتعصب لجنسها أو دينها أو لغتها أو ثقافتها أو تاريخها تعصباً أعمى؛
والثانية تمد بصرها إلى العالم للاقتباس منه أو للإسهام في تقدمه الحضاري. وبين هذه القومية الواسعة والإنسانية الكاملة وحدة عميقة، إذ لايمكن للفرد أن ينمّي ذاته إلا داخل الإطار القومي، كما أنه لايستطيع أن يكون مخلصاً لقوميته بحق إلا إذا عمل على توكيد إنسانيته الكاملة.
وبهذا يعبّر مفهوم القومية عن حالة عقلية لجماعة من البشر تؤلف بينهم صلة اجتماعية عاطفية تتولد من الاشتراك في الوطن والجنس واللغة والثقافة والتاريخ والحضارة والآمال والمصالح المشتركة، ويكون فيها ولاء الفرد للدولة القومية واجباً أسمى.
ويرادف هذا المفهوم للقومية مفهوم «الأمة» nation بوصفها تمثّل مجموع الخصائص المميزة لوجود أمة ما، وحركتها السياسية والثقافية، التي تجعلها مختلفة عن الأمم الأخرى، فلكل أمة كيان متفرد، يختلف عن سواه، لاختلاف اللغات والتجارب التاريخية. ولا تكتسب القومية إلا بالانتماء التاريخي إلى أمة معينة.
وقد ترادف «الجنسية» nationality مفهوم القومية أيضاً، حين تتخذ صفة حقوقية تنشأ من الاشتراك في الوطن الواحد، أي الجنسية الأصلية التي تكتسب بالانتساب إلى أمة، أو إلى أقلية قومية ملحقة بدولة قومية، وتقع ضمن حدودها الرسمية، كالقول: الجنسية الألمانية، والجنسية الفرنسية؛ أو حسب حقوق اكتساب الجنسية التي ينص عليها القانون في كل بلد، كالجنسية الأمريكية. وتغلب الجنسية في هذه الحالة على القومية، على الرغم من تباين الأصول الإثنية للسكان.
ويؤخذ بمبدأ القوميات أو الجنسيات principle of nationalities للدلالة على وجوب اعتبار كل أمة شخصاً معنوياً له الحق في الوجود والتقدم وفقاً لطبيعته. ومن مستتبعات ذلك إقامة دولته الخاصة.
ليس هناك اتفاق تام على الروابط والمقومات الأساسية لتكوين القومية، فساطع الحصري[ر] (1880ـ 1968)، ممثل القومية العلمانية يرى أن «الأساس في تكوين الأمة وبناء القومية هو وحدة اللغة والتاريخ (لا وحدة الأصل). لأن الوحدة في هذين الميدانين هي التي تؤدي إلى وحدة المشاعر والمنازع ووحدة الآلام والآمال ووحدة الثقافة، وبذلك تجعل الناس يشعرون بأنهم أمة واحدة متميزة عن الأمم الأخرى». في حين يركز مفكرون آخرون على العامل الاقتصادي المشترك، ويعطي بعضهم الآخر الأهمية الأولى للعامل الديني والأصل المشترك (الوحدة العرقية)، والإرادة المشتركة،. وهذه العوامل ذاتها هي التي يعدّها الحصري عوامل ثانوية، ليس لها تأثير مباشر في القومية.
فالدين لايكوّن عاملاً من عوامل الوجود القومي، فالقومية العربية مثلاً لم تنتشر انتشار الإسلام، كما لم تقتصر اليهودية والنصرانية على قومية واحدة. ولم يجعل قيام باكستان وإسرائيل الدين عاملاً أساسياً في القومية، فما هو إلا استثناء للقاعدة له ما يبرره. وهذا حسب قول الحصري «يفوّت على الأجانب سلاح اللعب بالطائفية، وعلى الصهاينة اعتماد اليهودية أساساً للقومية». وانطلاقاً من هذا التصور طرحت العلمانية[ر] laicism ـ في إطار دعوتها إلى فصل الدين عن الدولة ـ شعارات القومية الأساسية: الوطن واللغة والتاريخ بديلاً من الدين.
نشـأت القومية في أوربا في القرن الثامن عشر، واحتلت دوراً بارزاً في الفكر السياسي منذ الثورة الفرنسية 1789م، في حين تأخر دورها في الشرق حتى منتصف القرن التاسع عشر، وامتد تأثيرها إلى الوطن العربي في الربع الأخير من القرن المنصرم، معلناً يقظة قومية عربية.
وقد مهّد للقومية بمفهومها المعاصر عدد من العوامل والحركات القومية التي امتدت عبر مرحلتين. ارتبطت المرحلة الأولى منها بالحركات القومية التي شهدتها أوربا الغربية (الإقطاعية) ما بين عامي 1300ـ1800، وقد أسهم بظهورها قيام دولة واسعة ومركزية (بريطانيا وفرنسا)؛ وقيام حركة الإصلاح الديني[ر]؛ وبدء الثورة الصناعية؛ وظهور مفكرين أحرار يؤكدون الهوية القومية. فتولّدّت أنظمة جديدة، بدأت بشكل ملكية مطلقة ثم تحولت إلى ملكية دستورية، ثم إلى جمهورية ديمقراطية. وشهدت إثرها بريطانيا في القرن السابع عشر أول ثورة قومية حديثة من خلال الثورة البيوريتانية. واتسمت القومية الإنكليزية، في بدايتها، بدعوة إنسانية عامة، نحو الحرية وحقوق الفرد وقيام مجتمع إنساني يسمو فوق التقسيمات القومية.
وتأثرت المستعمرات الأمريكية في أمريكا الشمالية بالثورة البيوريتانية البريطانية من جهة وبفلسفة التنوير[ر] Enlightenment من جهة أخرى فقامت فيها حركات قومية مماثلة.
أما فرنسا فقد شهدت مع الثورة الفرنسية 1789 انطلاقة أخرى اتسمت بمفاهيم وشعارات جديدة نادت بحقوق المواطن، وإرادة الأمة، وتحرير الأمم المستعبدة. ثم تلتها الحركة القومية في الولايات المتحدة الأمريكية بطابعها الداعي إلى فكرته العالمية، وهي الحرية والمساواة، ونظام الإرادة الشعبية والديمقراطية. بيد أن الغزوات النابليونية هدمت النظام القديم وأثارت ردود فعل مغايرة، وانقلاباً في المفاهيم، قاد إلى ثورات وحروب، أسهمت في تكوين أوربا القومية الحديثة. لكن هذا لم يحرر ألمانيا وإيطاليا ولم يوحدهما. فانهزمت الحركة القومية الديمقراطية الألمانية عام 1848، كذلك لم يقيض لحركة «الوحدة» إيطاليا القومية الديمقراطية إنجاز الدور المأمول لها.
والمرحلة الثانية تتعلق بالقومية في أوربا الشرقية وأمريكا اللاتينية وآسيا وإفريقيا ما بين عامي 1800ـ1962. وقد تميزت بالتوسع الاستعماري الكبير الذي بدأته بريطانيا وفرنسا، والذي امتد نحو أرجاء مختلفة من العالم، فأطاح بالامبراطوريات القديمة (العثمانية والإسبانية والنمساوية والهنغارية)، وجرد الشعوب من استقلالها ونهب ثرواتها، وحقق في الوقت ذاته توازن بعض القوى في العالم.
وقد شهدت هذه المرحلة كثيراً من الحروب والغزوات والتنافس بين الدول الكبيرة على المستعمرات، كما شهدت الحربين العالميتين الكبريين، الأولى والثانية، الأمر الذي فجّر قيام الحركات القومية، في الأقطار المستعمَرة، والتي قادتها نخب ثقافية تعلمت في الغرب، وتبنت أفكار الثورة الفرنسية والألمانية والإيطالية وبرامجها وشعاراتها في الحرية والإخاء، والمساواة، أمثال حركة تركيا الفتاة والعربية الفتاة.
ومع تضارب الاتجاهات السياسية لهذه النخب المثقّفة، تعزز دور الفئات الدينية المحافظة ليمزج الديني بالسياسي، والقومي بالديني، كما أدى فقدان هذه النخب سيطرتها على قيادة الجماهير الشعبية إلى إحباط هذه الحركات القومية، فتولّت نخب من الشيوعيين قيادة هذه الحركات، كما حدث في الصين وڤييتنام، أو نخب برجوازية كما حدث في الهند.
واهتمت القوى الاستعمارية برسم حدود مستعمرات تضم أقليات قومية وإثنية ودينية متناحرة كما حصل في البلقان وأوربا الشرقية حالياً، والوطن العربي (الأكراد وجنوبي السودان). فأنشأت في الشرق سلطات مركزية محتلة، تقسّم، وتغذّي الانقسام وتعززه عند الحاجة للتناحر والتطاحن، فكانت القيادات البرجوازية التي نمت في ظل الاحتلال وارتبطت به، مساومة ومسالمة عموماً وحريصة على الارتباط بالسلطة الامبريالية. فبرزت حركات قومية عديدة، أهمها الحركة القومية الهندية التي قادتها برجوازية متنوّرة فضّلّّت تقسيم الهند على أن تكون أقلية في الحكم الجديد. والحركة القومية العربية بقيادة تحالف عام 1916، الذي ضمّ الشريف حسين وبعض البرجوازيين الصغار، وقد أخفق هذا التحالف بسبب اتفاق قيادته مع بريطانيا، وكذلك نيل بعض الأقطار استقلالها. ثم كان قيام حزب البعث العربي الاشتراكي[ر]، الذي مهّد له زكي الأرسوزي[ر] عام 1940، بدعوته إلى تأليف حزب عربي قومي شعاره بعث الأمة العربية ووحدتها، صاغ منطلقاته النظرية وقواعده البناءة في كتابه الأول «العبقرية العربية في لسانها». ثم حدث انفجار الثورة في مصر، سنة 1952. ومع ذلك فإن الوحدة القومية لم تتحقق على الرغم من التأييد الشعبي الذي حظي به جمال عبد الناصر[ر] في حياته. كما ظهرت الحركة القومية التركية التي قادها حزب الاتحاد والترقي المحافظ، ثم تولى قيادتها مصطفى كمال أتاتورك الذي قام بإلغاء الخلافة وإقرار العلمانية. وكذلك الحركات القومية التي قادتها الأحزاب الشيوعية في الصين وڤييتنام وكوريا، من أجل تحقيق الاستقلال والوحدة، والتي حققت أهدافها القومية في الصين (1924ـ1949)، وفي ڤييتنام (1945ـ1975)، لكنها لم تنجح في كوريا بسبب التدخل الامبريالي المباشر.
وتسعى دول العالم الثالث التي نالت استقلالها، إلى مواصلة نضالها ضد الهيمنة التي تفرضها الامبريالية بالإخضاع العسكري أو السياسي أو الاقتصادي لتحقيق الوحدة القومية. ومن هذه الأمم العرب والأكراد والكوريون. كما تحاول الأقليات التي ألحقت بدول من غير قوميتها، المحافظة على هويتها الثقافية، والعمل للحصول على استقلاليتها وحكمها الذاتي، أمثال «الباسك» في فرنسا وإسبانيا. كما يسعى النضال القومي اليوم في العالم الثالث، إلى استكمال عملية بناء الأمم، بتحريرها من التبعية الخارجية ومن بقايا التخلف الداخلي. وهي عملية تتم بالمواجهة مع الامبريالية عامة، والأمريكية خاصة، كونها تسعى جاهدة إلى تكريس الصراعات الدينية والطائفية في العالم الثالث أمثال الهند والباكستان، وتركيا وإيران، والوطن العربي وبعض دول آسيا.