بحكم موقع جمهورية موريتانيا الإسلامية بين المغرب العربي والسنغال جنوباً فقد تكوّن سكانها من العرب والأمازيغ والسودانيين، وهي منذ الاستقلال تتطلع إلى أن تصبح جسر اتصال بين العرب في شمالي القارة والعالم الإفريقي الأسمر في أفريقيا جنوب الصحراء.
وإذا كانت موريتانيا ليست الدولة الوحيدة التي تضم حدودها مناطق صحراوية شاسعة تسكنها أغلبية من العرب والأمازيغ من البدو الرحل (مربي المواشي)، ومناطق ساحلية أقل جفافاً تسكنها أغلبية من المزارعين المقيمين من أصول سودانية، فإنها الدولة الوحيدة التي تملك واجهة بحرية أطلسية سهلت الاتصال الصعب بين سواحل المتوسط وضفاف الانهار الاستوائية والاتصال المبكر نسبياً مع الغرب الأوربي، وأصبحت أرضها منطقة التقاء لثلاثة تيارات حضارية كبرى: العربي والأمازيغي ذي الأصول الآسيوية، والزنجي الأفريقي، والأوربي الغربي، فأصبح لجغرافيتها الأثر الكبير في صياغة تاريخها كله. كما ان الشروط المناخية في العصورالقديمة والوسطى كانت أكثر سماحة، بحيث أسهمت في نشأة حضارة زراعية رعوية في أقاليم جعلها الجفاف التدريجي صحراء فيما بعد غيرصالحة لسكنى مستقرة.
ـ عصور ما قبل التاريخ:
تعدّ دراسة تاريخ موريتانيا في عصور ما قبل التاريخ من الأمور الشائكة، ذلك أن المعلومات عنها لاتزال محدودة جدا، فمع الكشف عن مواقع أثرية كثيرة منتشرة في العديد من المناطق التي تعود إلى العصرين الحجري القديم والحجري الحديث، فإن التنقيب لم يشمل جميع الأقاليم الموريتانية، كما أن الدراسات المنهجية لم تتناول بعد إلا عدداً قليلاً منها، مما يحول دون تحديد الإطار الزمني لهذه العصور ومراحلها المختلفة، ويجعل كثيراً من المعلومات عنها تقوم على التخمينات والفرضيات، لهذا كله سيُكتفى برسم لوحة أولية لهذه العصور. ففيما يتعلق بالعصر الحجري القديم أثبتت أحدث الدراسات لبعض المواقع الأثرية أن الأراضي الموريتانية قد عرفت جميع أدوار العصر الحجري القديم، وهناك من الدلائل ما يدفع إلى اعتقاد وصول الإنسان المنتصب القامة إلى إقليم الأدرار منذ عصر ماقبل الآشولي، أي قبل مايزيد على مليون سنة، لكن لم يعم وجوده جميع مناطق الإقليم إلا في عهد الثقافة الآشولية حيث واظب الإنسان المنتصب القامة على صنع الأدوات ذات الوجهين والبلطات الصغيرة وأدوات أخرى استخدمها في حياة التنقل القائم على الصيد وجمع الثمار. وقد استقر الآشوليون حول البحيرات وعلى طول مجاري الأنهار وفي أطراف الجبال حيث توجد الأحجار الصوانية القابلة للتشذيب. ويلاحظ التناقص التدريجي لنسبة الأدوات الملساء الحادة وتزايد نسبة البلطات، وكذلك المجارف والمكاشط، وهناك من الدلائل مايدفع إلى اعتقاد أن موريتانيا عرفت جميع مراحل التقانة الآشولية.
وفي العصر الحجري القديم الأوسط سادت الثقافة الأتيريانية في النصف الشمالي من موريتانيا في المناطق السهلية وأودية أطراف التلال الرملية . ومن المعروف أن أصول هذه الثقافة تعود إلى شمالي إفريقيا، وأن صانعها هو الإنسان العاقل؛ وأنها تمثل الوجه الإفريقي للحقبة الموستيرية.
أما العصر الحجري الحديث، فلاتزال المعلومات عنه محدودة، وتتعلق ببعض المواقع الأثرية، وانطلاقاً من مناخ العهد الجيولوجي القديم يبدو أن الغرب الصحراوي لم يعرف العصر الحجري الحديث قبل الألف الثامن ق.م، وقد بقيت النشاطات الاقتصادية تتمثل في صيد البراري وجمع الثمار، كما أدى صيد الأسماك دوراً مهماً. وفي الألفين السابع والسادس ق.م أصبح الشاطئ الموريتاني عامراً بالسكان القادمين من شمالي إفريقيا، وفي الألف الرابع ق.م صارت نواكشوط القطب البشري الرئيس للجنوب الغربي الصحراوي، وأصبحت تربية المواشي النشاط الاقتصادي الرئيس، وفي الألف الثالث وصلت مجموعات بشرية من شمالي إفريقيا مصطحبة معها العربة والحصان. وفي العصر الكالكوليتي (3000-2000ق.م) احتفظت الصناعة الحجرية بمكانتها إلى جانب نشوء الصناعة المعدنية التي تستخدم النحاس الذي بدأ استخراجه في إقليم أكجوجت، حيث وجدت عدّة مناجم وورشات تعدينية تصنع في أفران بدائية أدوات وأسلحة نحاسية. هكذا يبدو أن العصر الحجري الحديث كان عظيم الغنى في موريتانيا، ويدل خاصة على تقاطع مدهش. حيث صياديُ البراري الذين يستخدمون قليلاً من الأواني الخزفية وأدوات الهرس، إلى جانب صيادي الأسماك، ومربي المواشي، والمزارعين، كما أخذ البدو الرحّل يتجولون في الفيافي الجافة والتلال الرملية الكبيرة القديمة؛ إلى جانب أهل الحضر وسكان المدن.
وهناك من الدلائل ما يدل على استمرارنمط معيشة العصرالحجري الحديث حتى وقت متأخر، مما يسمح بالقول بعدم وجود انقطاع في تاريخ موريتانيا على الأقل بين نهاية عصورما قبل التاريخ والعصورالوسطى. ومن الأفضل الحديث عن نزوح المناخ والسكان والنشاطات الاقتصادية بحيث إن القادمين الجدد إما قد امتَصوا من سبقوهم من السكان وإما دفعوهم إلى الهجرة نحو الجنوب.
ومن جهة أخرى أسهم القرويون الذين طردوا من ظهر التشيت في تأسيس الوحدات السياسية الكبرى في الساحل الصحراوي حول جنى في مالي (منذ الألف الثالث ق.م)، وعلى ضفاف السنغال (مملكة تكرور وسنتيوبار منذ القرن الخامس الميلادي)، وتأسيس امبراطورية غانا منذ القرن السابع الميلادي.
ـ العصور الوسطى:
إبان العصور الوسطى شهدت موريتانيا قيام العديد من الدول والإمارات وازدهارها، وإن اقتصرت سيطرة بعضها على القسم الجنوبي الشرقي من موريتانيا (مملكة غانا)، وشهد الجنوب الموريتاني تأسيس معظمها (مثل مملكة التكرور)؛ فإن بعضها الآخر تجاوزت سيطرته الأراضي الموريتانية إلى المناطق الصحراوية الواقعة إلى الشرق والشمال منها (مملكة أودَغُست Aoudaghost)، بل فرضت سيطرتها أيضاً على معظم أراضي المغرب الإسلامي (دولة المرابطين).
ـ امبراطورية غانا[ر] Ghana: لاتزال أصول نشأتها غامضة، لكن ما هو متفق عليه اليوم أن مملكة غانا أصبحت منذ بداية القرن الثامن الميلادي مملكة سودانية صرفة، وشيدت امبراطورية عاصمتها كومبي صالح في الجنوب الشرقي من موريتانيا، وشكلت هذه المنطقة في معظم تاريخ الامبراطورية حدّها الشمالي.
لكن بعد تحالفها مع الزناتيين في أواخر القرن العاشر الميلادي فرضت سيطرتها على مدينة أودغُست، واستمرت سيطرتها عليها حتى منتصف القرن الحادي عشر حين ضم المرابطون أراضي غانا إلى الدولة الصنهاجية.
ـ مملكة أودغست 146ـ 306 هـ/763ـ 918م
أول مملكة شملت أراضيها- وهي في أوجها- معظم الأراضي الموريتانية الحاليّة، بل تجاوزتها حتى بعض المناطق الصحراوية شمالاً وجنوباً. واستمدت اسمها من اسم عاصمتها الواقعة في إقليم الحوض الموريتاني. وهناك شبه اتفاق بين المؤرخين العرب على أن بدايات هذه المملكة تعود إلى منتصف القرن الثاني الهجري/منتصف القرن الثامن الميلادي.
وقد وصف البكري بساتينها بتنوع مزروعاتها. كما كانت أودغست تقع على طريق القوافل التجارية التي تربط المدن الكبرى في شماليّ إفريقيا وكبرى مدن السودان الغربي، وتقوم بدورالوسيط التجاري بين هاتين المنطقتين. وأصبحت في أوج ازدهارها في القرنين العاشر والحادي عشر الميلاديين مقراً لجاليات كبيرة من مختلف أقطار المشرق العربي وشمالي إفريقيا.
ارتكز التنظيم السياسي فيها على النظام القبلي الذي كان سائداً آنذاك في صحراء الملثمين؛ حيث كان يتقاسمها مجموعة من القبائل الصنهاجية، أهمها لمتونة وجدالة والمسوفة، وكان ملوكها يختارون من قبيلة لمتونة من بيت ورتنطق. والحكم فيها وراثي. ويستعين الملك برؤساء القبائل لبسط نفوذه على أراضي المملكة كلها، وتثبت سلطته بقدر ما يحافظ على ولائهم له.
وتختلف المصادر العربية حول أول ملك حكم مملكة أودغست، وأغلب الظن أن مؤسس المملكة هو الملك تلاكالين Talacalin؛ وأنها بقيت حتى نهاية عهده تابعة للخلافة الإسلامية، ولم تنفصل عنها إلا في عهد «تيولوتان»، وبناء على ذلك عدّه بعضهم أول ملوك ملثمي الصحراء، ومن أهم ملوكهم تيولوتان (142-222هـ/759-837م)، وحفيده الأثير بن فطر (222- 287هـ/837 -900م).
وقد بدأ انهيار المملكة مع مقتل ابن أخي هذا الأخير ووريثه تميم بن الأثير (287-306هـ/900- 918م) الذي ثار عليه زعماء قبائل لمتونة، وقتلوه، ويعزى هذا الانهيار إلى عاملين: يتمثل الأول في الصراع الداخلي بين القبائل الأمازيغية، أما العامل الثاني فهو التنافس بين الممالك والشعوب المجاورة لمملكة أودغست للسيطرة على طرق التجارة عابرة الصحراء ومراكزها التجارية.
نشأة المرابطين في موريتانيا:
ارتبط قيام الدولة المرابطية في موريتانيا بالدعوة الدينية الإصلاحية التي استهدفت في البداية قبائل ملثمي الصحراء(لمتونة، جدالة، مسوفة)، ومكنتهم من استعادة السيطرة على الجزء الجنوبي من صحرائهم، ثم اتسع نطاقها، لتشمل مناطق مهمة من المغرب شمالاً ومن السودان الغربي جنوباً، لتصبح حدودها ممتدة من نهرالسنغال جنوباً حتى الأندلس شمالاً.
ويعدّ يحيى بن عمر اللمتوني مؤسس دولة المرابطين الموريتانية، فبعد أن بسط المرابطون سيطرتهم على صحراء الملثمين، اندفعوا جنوباً، وقاموا بتحرير أودغست من السيطرة الزناتية - الغانية (446هـ/1054م) قبل أن يفتحوا غانا نفسها؛ وينشروا الدين الإسلامي بين أهلها. أما في الشمال فقد بسطوا سيادتهم على مدن المغرب الواحدة تلو الأخرى، وعندما تُوفي أميرهم يحيى بن عمر اللمتوني عام 448هـ/1057م، خلفه أخوه أبو بكر. وبما أن هذا الأخير كان منشغلاً في ترتيب الأوضاع في الجنوب؛ فقد عيّن يوسف بن تاشفين نائباً عنه في المغرب. فكان ذلك بداية انقسام دولة المرابطين إلى جناحين شمالي في المغرب بقيادة يوسف بن تاشفين، وجنوبي بزعامة أبي بكر بن عمر. ولم يول المؤرخون المعاصرون دولة المرابطين بشطرها الجنوبي كبير اهتمام، وإنما اكتفوا بمتابعة الأحداث المستجدة في شطرها الشمالي، ولاسيما علاقاته مع الأندلس، والواقع تعدّ دولة المرابطين في موريتانيا امتداداً لمملكة أودغست. تركز اهتمام دولة المرابطين الموريتانية على نشر الإسلام السنّي في البلاد، مما سمح للفقهاء بالتمتع بدور بارز في مجال صياغة القرار السياسي. وقد حرص أمراء الدولة على أن يبقى إلى جانبهم فقيه يرشدهم، بل إن بعضهم تجاوز دور الفقيه التقليدي إلى دور المستشار السياسي، كما كان الأمر بالنسبة إلى الفقيه أبي بكر محمد بن الحسن المرادي الحضرمي الذي تُوفي في أزوكي عام 1091م.
تعاقب على حكم دولة المرابطين في موريتانيا عدّة أمراء، اختلفت المصادر حول عددهم وفترات حكمهم؛ باستثناء مؤسسها يحيى بن عمر (446- 448هـ/1054- 1057م)، وخليفته أبي بكر بن عمر (448-480هـ/1057- 1087م). وأغلب الظن أن آخر أمرائهم في موريتانيا هو محمد بن يحيى الذي جرت في عهده حروب طاحنة، انتهت بتقسيم الدولة إلى أربع إمارات لكل منها أميرها، وكان لدولة المرابطين تأثيرات بالغة ودور حاسم في وضع الأسس الأيديولوجية والاجتماعية للمجتمع الموريتاني المستقبلي، وعلى كاهلها وقعت إلى حد كبير أسلمة القبائل الأمازيغية التي ستشكل إحدى الأرومات الاجتماعية الموريتانية الرئيسية، وتركت آثاراً لاتمحى في موريتانيا، أهمها: تبني القبائل كافةً إسلاماً متقشفاً على المذهب المالكي، امتد تأثيره تدريجياً إلى إفريقيا الغربية كلها، وتثبيت الهوية السياسية للشعب الموريتاني، فحافظ على ذكراها الماجدة والأسطورية عبر القرون واسترجعتها التيارات الوطنية المعاصرة.