إِريترية Eritrea جمهورية حديثة (1993) نشأت في شمال إفريقية عاصمتها مدينة أسمرة [ر].
تسمية إريترية قديمة، انبثقت بالأصل عن التسمية اليونانية للبحار الواقعة حول الجزيرة العربية (تريكون سينوس إريتريوم Trikone Sinus Erythroeum) ومعناها البحار الحمر، وقد أطلقت أول مرة في القرن الثالث قبل الميلاد، ثم اقتصرت التسمية فيما بعد على البحر الأحمر [ر] المعروف اليوم لتكاثر الطحالب الحمر العائمة عند شواطئه الضحلة المياه، وقد نقل الرومان هذه التسمية إلى السواحل الإريترية عندما خضعت «عدوليس» لسيطرتهم (وهي المنطقة القريبة من ميناء مصوع الإريتري الحالي وعرفها العرب باسم «عدولي» منذ عصر ما قبل الإسلام). ثم ثبت الإيطاليون التسمية نفسها على منطقة إريترية بعد احتلالهم لها تجديداً للتسمية القديمة.
الموقع والخصائص الطبيعية:
تقع جمهورية إريترية على الساحل الغربي للبحر الأحمر بامتداد يبلغ نحو ألف كيلو متر، تبتدئ سواحلها من رأس قصار على الحدود السودانية شمالاً، وتنتهي عند باب المندب جنوب رأس «أرحيتا» في ساحل عفار وعيسى [ر. جيبوتي] ويحدها من الشمال والغرب السودان، ومن الجنوب إثيوبية، ومن الجنوب الشرقي جيبوتي، وتبلغ مساحتها نحو 121.144 كيلو متر مربع، وتتبعها 126 جزيرة أهمها: دهلك وهي أكبر الجزر، ونورة، وحارات، وأبا عجوز، ورخاء، وزبير، وفاطمة، وسالمة، وحالب.
وقد تزايدت الأهمية الاستراتيجية لموقع إريترية بعد افتتاح قناة السويس لامتدادها على مدخل البحر الأحمر في مواجهة اليمن [ر] والعربية السعودية [ر].
تشتهر إريترية بتنوع المناخ والتضاريس على صغر مساحتها نسبياً، فهضبتها الداخلية التي تقع العاصمة أسمرة في وسطها، تؤلف امتداداً لمرتفعات وسط إفريقية والسودان وتكاد تماثل صحاريها الشرقية أراضي شبه الجزيرة العربية القاحلة.
يراوح ارتفاع هضبة إريترية الداخلية بين 1800م و2400م عن سطح البحر، فيتيح لها اعتدالاً متميزاً في المناخ، ويسوده جوّ ربيعي معظم أشهر السنة، لا تكاد فيه حرارة الصيف تتجاوز 35 درجة مئوية في حين ترتفع الحرارة إلى نحو 45 درجة مئوية في الشريط الساحلي، وإلى نحو 50 درجة مئوية في صحراء الدناقيل في الجنوب الشرقي.
تهطل الأمطار صيفاً في معظم أنحاء إريترية (من حزيران حتى أيلول)، وتتباين كمية الأمطار السنوية بين 375مم في منطقة «بركة» و725مم في حوض «القاش» و«ستيت» شمالي غربي البلاد، في حين تنخفض في السواحل من 175 مم سنوياً في مصوع في الوسط، إلى نحو 75مم سنوياً في عصب جنوباً، وتصل إلى أكثر من 1000مم في المرتفعات الوسطى عند منطقة «قندع» حيث يكون أعلى منسوب للتهطال على مدار السنة.
وتخترق إريترية عدة أنهر، أبرزها نهر «ستيت» الذي ينبع من الهضبة الإثيوبية تحت اسم «تكزة» ثم يؤلف في السودان نهر عطبرة أحد روافد النيل [ر]، وهو دائم الجريان، كذلك يوجد نهر «خور بركة» ونهر القاش وهما موسميان ينبعان من المرتفعات الوسطى ويجريان نحو السهول الشمالية من إريترية.
السكان:
يقدر عدد سكان إريترية بنحو 3.574.000 نسمة (1995) يعيش منهم نحو 450.000 نسمة في العاصمة أسمرة، كما يعيش نحو 340.000 إريتري في السودان ونحو 150.000 (لاجئين) في أوربة وأمريكة وبلغت نسبة وفيات الرضع عام 1994 نحو 11.4٪ ونسبة وفيات الأطفال 20٪، كما أن العمر المتوسط للفرد هو 52 سنة فقط، وتقدر نسبة الأمية في إريترية بنحو 80٪.
يتوزع سكان إريترية تاريخياً بين ثلاث مجموعات لغوية (بالمعنى المجازي) هي: الحامية والسامية والنيلية. وقد هاجرت إليها القبائل التي تنتمي إلى المجموعتين الحامية والسامية من الجزيرة العربية أصلاً ويصعب التفريق بينهم في الشكل والهيئة العامة، أما النيليون فيعتقد أن أصولهم زنجية أو «متزنجة».
ومن الجماعات التي تنتمي إلى الحامية أو السامية كل من قبائل البجة في منطقة القاش، وقبائل الأسورتا والساهو في محافظتي إكلي قوزاي والبحر الأحمر، وقبائل البلين في محافظة كرن، وقبائل الماريا في أغوردات وكرن، وقبائل الدناقيل في سهل الدناقيل، وقبائل الحباب في نقفة وتغري، وقبائل منسع حول كرن، والقبائل النصرانية في حماسين، ولا يكاد يوجد أثر للسمات الزنجية المعروفة بين هذه القبائل باستثناء لون البشرة الأسمر الداكن الذي يجعلهم أقرب إلى قبائل السودان. أما النيليون أو أنصاف الحاميين فلا يتجاوز مجموعهم بضعة آلاف نسمة، وتمثلهم قبائل الكوناما أو البازا وقبائل الباريا وينتشرون في مناطق مختلفة من القاش وستيت، وإلى جانب هذا التعدد يوجد في الوقت نفسه امتزاج سلالي يتعذر تحديد فواصله لمرور زمن طويل من المصاهرة والمجاورة. ومن الهجرات العربية المبكرة إلى المنطقة قبل ظهور الدعوة الإسلامية بطون من بني حمير عرفوا بقبيلة «البلو» وقد صاهرت البجة وحكمت بعض الإمارات البجاوية في إريترية. وقد وفد إلى المنطقة في أزمنة لاحقة قبائل من ربيعة وأخرى من القحطانية والجهنية. وتعد قبيلة الرشايدة آخر الهجرات العربية إلى إريترية، وقد توافدت إليها عن طريق السودان منذ سنة 1846م وانتشرت على الشريط الساحلي من مصوع حتى حدود السودان.
ويتحدث سكان إريترية لغات متعددة متقاربة الأصول، تتمثل على نحو أساسي باللغتين «التغرينية» و«التغرية» وتشير المصادر التاريخية إلى أن هاتين اللغتين اشتقتا من اللغة الجعزية السبئية، وتتشابهان إلى حد بعيد مع لهجة سكان ظفار ولجهة سكان المحافظة السادسة من جمهورية اليمن. واللغة التغرينية أقرب إلى اللغة الجعزية السبئية من أختها التغرية وتكتب بحروفها، وهي أكثر اللغات انتشاراً من حيث عدد المتحدثين بها، وجلهم من النصارى وبعض المسلمين من سكان الهضبة الإريترية. أما اللغة التغرية فتنتشر في شرقي إريترية وشماليها وغربيها، وغالبية المتحدثين بها من المسلمين، ويتكلم بعض قبائل «بني عامر» اللغة «البجاوية» التي تسمى «البداوي» في حين تتحدث قبائل البازا والباريا لغة نيلية إفريقية، وتمثل اللغة العربية القاسم المشترك بين مجموع هذا التعدد اللغوي الواسع، وغالباً ما يجري التفاهم بالعربية بين الجماعات التي لا يعرف بعضها لغة بعضها الآخر، إضافة إلى الجماعات التي تتحدث العربية وحدها مثل الرشايدة. وقد اتخذ البرلمان الإريتري، قبل أن يحله الإثيوبيون، من اللغة العربية لغة رسمية لإريترية إلى جانب اللغة التغرينية بحسب المادة 38 من الدستور الإريتري، وكانت اللغتان العربية والتغرينية تدرسان في المدارس قبل أن تمنع ذلك إثيوبية، ومما ساعد على اقتصار التعليم بهاتين اللغتين فحسب كونهما الوحيدتين اللتين تمكن الكتابة بهما.
تنقسم إريترية إلى تسع محافظات، هي حماسين، ومركزها أسمرة وهي عاصمة الدولة، ومحافظة البحر الأحمر ومركزها ميناء عصب، ومحافظة الدناقيل ومركزها نقفة، ومحافظة كرن ومركزها كرن، ومحافظة سراي ومركزها عدي وقري، ومحافظة إكلي قوزاي ومركزها عدي قيح، ومحافظة بركة ومركزها أغوردات، ومحافظة القاش ومركزها بارنتو إضافة إلى مركز العاصمة.
مصادر الثروة:
تمتلك إريترية ثروة معدنية مهمة يجري استثمار بعضها استثماراً تجارياً متذبذباً لفقدان الاستقرار السياسي قبل الاستقلال وبسبب ثورة التحرر الوطني التي قامت من أجل الاستقلال وأبرز المعادن المكشوفة النفط والنحاس والبوتاس والذهب واللغنيت والحديد والألمنيوم والفضة والنيكل. وقد كشف النفط في جزيرة دهلك وجنوب شرقي مدينة مصوع، وتقوم الشركات الأمريكية والهولندية بالتنقيب عنه. وتقع أكبر مناجم النحاس في منطقة «دياروا» قرب أسمرة، وتستخرج الاستثمارات اليابانية نحو 6000طن من النحاس شهرياً، وتتوسع الشركات الأمريكية باستخراج الفوسفات وتسويقه منذ عام 1949.
أما الزراعة، فهي أكثر أهمية، إذ تعد إريتريا بلداً زراعياً رعوياً، يمارس فيه أكثر من 90٪ من مجموع السكان الزراعة والرعي، وتؤلف زراعة الحبوب نحو 87٪ من مجمل المحصولات، وأهمها الذرة والقمح والشعير والطاف (نوع من الحبوب يخلط مع الذرة لصنع الخبز الوطني)، وتتوزع بقية المزروعات بين البن والتبغ والقطن والفواكه المدارية. وتعد الذرة غذاء رئيسياً للسكان في السهول الغربية والشرقية، في حين تنتشر زراعة القمح والطاف في الهضبة، وقد توسعت مؤخراً زراعة الموز في منطقة وادي بركة وهو من المنتجات المعدة للتصدير.
وعلى وفرة الإمكانيات الزراعية، ما زالت إريترية بعيدة عن التطور الزراعي لحداثة استقلالها بسبب إهمال الإدارات المستمرة والمتوالية، وفقدان الاستقرار السياسي منذ أن ضمت البلاد إلى إثيوبية، وكثيراً ما ألحقت المجاعات خسائر باهظة بالإريتريين.
تهيمن حرفة الرعي إلى جانب الزراعة، على قطاعات واسعة من السكان، وتمتلك إريترية نحو 10 ملايين رأس من الأبقار والجمال والأغنام. وقد تأثر تكاثرها بحالة الحرب التي عاشتها البلاد منذ عام 1960م، وتحاول الشركات الأجنبية استثمار الإنتاج الحيواني في صناعة اللحوم لتصديرها إلى الخارج، ولاسيما إلى الكيان الصهيوني (وفقاً للاتفاقية التي عقدتها السلطات الإثيوبية مع شركة «أنكودي» الصهيونية). كذلك تصدر إريترية منتوجات الألبان إلى إيطالية وبعض الدول المجاورة. وتمتلك إريترية ثروة بحرية كبيرة من الأسماك والأصداف وتزيد قيمة صادراتها السنوية فيها عن 50 مليون دولار.
وتعد الغابات مصدراً آخر للثروة في إريترية وتنتشر في السهول وفي أودية الأنهار أشجار «الدوم» التي تستخدم في صناعة أزرار الملابس، وتنتشر فيها المراعي، وأشجار اللبان والصمغ، وتساعد هذه الأشجار عموماً على حماية التربة من التعرية والانطمار الذي قد يلحقها من تحرك كثبان الرمل. في حين تنمو أشجار «اليورفوبيا» في الهضبة والمرتفعات ويستفاد منها في صناعة الأخشاب وأعواد الثقاب.
وفي إريترية بعض الصناعات البسيطة، التي يتركز معظمها في العاصمة «أسمرة» ويديرها الإيطاليون على الأغلب، وأهمها تعليب اللحوم والفواكه والأسماك، وصناعة الجلود والسماد والكبريت والصابون والنسيج والإسمنت والبلاستيك.
لمحة تاريخية:
خضعت إريترية، بحكم موقعها الجغرافي وتعدد الهجرات البشرية التي استقرت في مختلف مناطقها، لدول مختلفة توزعت مناطق النفوذ فيها أحقاباً طويلة. ومع ذلك تبقى السمة الأساسية لتاريخ إريترية ممثلة بارتباطها الوثيق وصلاتها المشتركة بالتاريخ العربي الإسلامي في سائر المراحل. فقد ارتبط ملوك «البجة» الذين حكموا بعض المناطق الإريترية في أزمنة مختلفة، بتحالفات واسعة مع عرب الجزيرة. وامتدت تحالفاتهم تلك إلى مملكة تدمر عام 272م في صراعها مع الرومان، واستطاع السبئيون والحميريون في اليمن إقامة إمارات مستقلة تابعة لهم في السواحل والهضبة الإريترية، وقد اتحدت هذه الإمارات فكونت ابتداء من القرن الأول الميلادي مملكة «أكسوم» في المنطقة الممتدة بين «تكزة» ومحافظة «إكلي قوزاي».
وفي القرن الثامن الميلادي أسس خلفاء الأمويين حكماً لهم في جزيرة «دهلك» امتد نفوذه إلى المنطقة الساحلية من إريترية، وتعاقبت عدة ممالك إسلامية صغيرة في حكم الساحل الإريتري وأجزاء أخرى من الهضبة الداخلية في عهد العباسيين.
وكانت علاقات بعضها بالأخرى أو بجيرانها متفاوتة بين الوحدة، عندما يتهدها الخطر الخارجي، والنزاع في أوقات أخرى، ولم تكن إريترية بعيدة عن دائرة الصراعات العربية - الأوربية زمن الحروب الصليبية، فقد وضعت أوربة في سياستها آنذاك، حرمان مصر من المواد الأولية والتأثير في تجارة البحر الأحمر فكانت إريترية إحدى المناطق الاستراتيجية لتحقيق تلك الأهداف، وتعاقد الأوربيون والإثيوبيون على الإريتريين والمصريين، وتتابعت الصراعات الطويلة الدامية حتى ما بعد الحروب الصليبية، فنزل جيش برتغالي عام 1520م على الساحل الإريتري نجدة للملك الإثيوبي على المصريين، وكان ذلك التاريخ بداية احتلال البرتغال سواحل إريترية.
ووجد العثمانيون في السيطرة البرتغالية تهديداً لتجارتهم في البحر الأحمر، فبادروا إلى احتلال مصوع عام 1557م، ونجحوا في تصفية مواقع البرتغال على طول سواحل البحر الأحمر، واستمر الحكم العثماني لهذه المناطق نحواً من ثلاثة قرون. وفي الوقت نفسه، وإلى جوار العثمانيين، بسط سلطان «الفونج» في «سنار» بالسودان «عمارة بن دنقس» نفوذه على مناطق القاش وستيت، في حين حكمت بعض الإمارات البجاوية مناطق أخرى من إريترية حتى القرن التاسع عشر، وقد ازدادت في هذه المرحلة الأهمية الاستراتيجية للبحر الأحمر، ولاسيما بعد افتتاح قناة السويس عام 1869، فخلفت مصر الخديوية الأتراك العثمانيين على طول ساحل البحر الأحمر والصومال، ورفع العلم المصري فوق الأراضي الإريترية. وأدخلت الإدارة الخديوية جملة من الإصلاحات ولاسيما في مجالات التعليم والصحة والمواصلات، كما دخلت في صراعات مستمرة مع إثيوبية في الغرب. وفي غضون ذلك قامت الثورة المهدية في السودان فاضطر معظم القوات المصرية إلى الانسحاب من إريترية لمواجهة تلك الثورة، وانتهز الإيطاليون الفرصة، فاحتلت قواتهم مصوع عام 1885، ثم استكملت السيطرة على سائر الأراضي الإريترية فيما بعد. وقد عمدت الإدارة الإيطالية إلى تثبيت حدود إريترية بمعاهدات رسمية مع كل من الإدارة البريطانية الحاكمة في السودان (في المدة بين 1891-1904)، ومع إثيوبية (في المدة بين 1900-1908). وبهزيمة إيطالية في الحرب العالمية الثانية احتلت قوات الحلفاء إريترية، وتحولت إدارتها إلى بريطانية التي سعت إلى تثبيت وجودها هناك بتشجيع النعرات القبلية والطائفية وبث الفرقة في ظروف من الركود الاقتصادي عمت البلاد. وفي عام 1948 أحيلت قضية إريترية إلى الجمعية العمومية لهيئة الأمم المتحدة في دورتها العادية الثالثة، للنظر في تقرير مصير المستعمرات الإيطالية، ولكن الخلاف حول مستقبل إريترية أجل البت في مصيرها حتى عام 1950م، وتعددت المشروعات والحلول بين استقلال كامل أو جزئي، وبين ضم البلاد إلى إثيوبية وإعطائها منفذاً بحرياً على الساحل الإريتري، أو وضع إريترية تحت وصاية الأمم المتحدة مدة معينة، أو تقسيم البلاد بين إثيوبية والسودان، وقد تبنت بريطانية هذا المشروع الأخير.
وفي 2/12/1950 أقرت الجمعية العامة، بالأغلبية، مشروعاً أمريكياً بعد مناقشات مجهدة، وقد عرف هذا المشروع باسم القرار الفدرالي ذي الرقم 390-أ-5- ويدعو إلى قيام اتحاد فيدرالي بين إريترية وإثيوبية، ويشترط هذا القرار أن تتمتع إريترية بحكم ذاتي، وأن يكون لها دستورها الخاص وعلمها الخاص ومجلسها التشريعي والتنفيذي وحكومتها الخاصة، وأن تؤلف حكومة اتحادية للبلدين يمتد اختصاصها إلى شؤون الدفاع والخارجية والنقد والتجارة والمالية والمواصلات، على أن يكون للأمم المتحدة الحق بإعادة النظر في القضية الإريترية من جديد إذا حدث أي إخلال ببنود الاتحاد الفدرالي. وفي عام 1952م دخل الاتحاد الفيدرالي حيز التنفيذ تحت إشراف مندوب الأمم المتحدة والإدارة البريطانية. وفي العام نفسه بدأت إثيوبية بإلغاء بنود الاتحاد الفدرالي بالتدريج، وأصبح الممثل الذي عينه الإمبراطور في إريترية يتدخل في كل شؤونها، فأوقفت الصحف وحلت الأحزاب السياسية والنقابات وبوشر بتطبيق القوانين الإثيوبية على إريترية وفي ذلك صلاحيات الحاكم، واستولت إثيوبية على حصة إريترية من الجمارك وعمدت إلى نقل الكثير من المصانع إلى أديس أبابا، وفي 22/5/1953 وقعت إثيوبية مع أمريكة معاهدة منحت بموجبها الحق للجيش الأمريكي باستعمال المنشآت الدفاعية في الإمبراطورية الإثيوبية، وفيها ما كان مقاماً على أراضي إريترية. وقد سارعت الولايات المتحدة الأمريكية عام 1953 إلى إنشاء قاعدة بحرية لها في مصوع وقاعدة عسكرية قرب أسمرة (كانيوستيشن) التي تحتوي على محطة مراقبة ومتابعة لنظام الأقمار الصناعية.
إزاء هذا الوضع اتخذ البرلمان الإريتري عام 1954 قراراً ينذر الحكومة الإثيوبية بوجوب إعطاء الضمانات اللازمة لسيادة الدستور الإريتري، لكن إثيوبية أقالت رئيس الوزراء الإريتري الذي حمل تلك المطالب إلى الإمبراطور, وفي عام 1957 أرسل الشعب الإريتري وفداً إلى الأمم المتحدة لتقديم مذكرة عن المخالفات التي ارتكبتها الحكومة الإثيوبية لقرار المنظمة الدولية. فصعدت إثيوبية إجراءاتها القمعية وقامت باعتقال الوفد لدى رجوعه إلى البلاد. وفي عام 1958 أمرت إثيوبية بإنزال العلم الإريتري وإلغاء الشارات الإريترية، ثم في 14/11/1963أصدر الإمبراطور الإثيوبي قراراً ألغى بموجبه البرلمان الإريتري وأعلن إريترية ولاية تابعة للإمبراطورية.
الكفاح المسلح وحركة التحرير:
على إثر تصاعد حملات القمع والإرهاب عام 1958، اضطر عدد كبير من العمال الإريتريين إلى الهجرة إلى الأقطار المجاورة، وبادر عدد منهم إلى تأليف تنظيم ثوري حمل اسم «حركة التحرير الإريترية» واتخذ قاعدة له في بور سودان، وسرعان ما امتدت الخلايا السرية لهذا التنظيم إلى الكثير من المدن الإريترية. ثم شهد عام 1960 أول تأليف «لجبهة التحرير الإريترية» بين العمال والطلبة الإريتريين في المشرق العربي، وانتقل نشاطه في العام التالي إلى جبال إريترية إثر الانتفاضة التي قادها «حامد إدريس عواتي» في 1/9/1961 مع بضعة مقاتلين يحملون بنادق إيطالية عتيقة، وقد تبنت الجبهة تلك الانتفاضة لتحولها في مدى سنوات قليلة إلى ثورة مسلحة منظمة انسجاماً مع أهداف التحرير التي حددها دستور الجبهة، وفي مقدمتها الاستقلال الوطني الكامل عن طريق الكفاح المسلح المدعم بجهود سياسية ودبلوماسية في الخارج. واختار المؤسسون أن يكون إدريس محمد آدم أول رئيس للجنة التنفيذية للجبهة. وقد تطور الكفاح المسلح بإمكانات ذاتية بسيطة وبدعم من بعض الأقطار العربية، وفي مقدمتها سورية، إلى مقاومة حملات قمع وإبادة إثيوبية شرسة شملت مئات الألوف من الضحايا الإريتريين، واتسمت بعض تلك الحملات باتباع سياسة الأرض المحروقة للقضاء على المحصولات الزراعية وقتل المواشي، وإبادة المواطنين بالجملة من دون تمييز، كما حدث في حملات 1967 و1970 و1974 و1975 على التوالي فشردت أعداداً كبيرة من الإريتريين في الصحارى والغابات، وعبرت أعداد أخرى الحدود إلى السودان، الأمر الذي أدى إلى نشوء مشكلة اللاجئين الإريتريين هناك، في حين سيطرت حركة المقاومة الإريترية على معظم الريف الإريتري، وتمكنت من تحرير بعض المدن، وكانت سيطرة جبهة التحرير تتسع أو تتقلص بحسب ظروف المواجهة وتطوراتها. وفي هذا السياق، عقدت حركة المقاومة الوطنية الإريترية أكثر من مؤتمر لها في الأراضي المحررة، ولم تنج من التعدد والانقسامات التي فرضها تباين منعكس المعاناة الداخلية، ورواسب المجتمع والتداخلات الخارجية أحياناً.
إثر سقوط نظام منغستو هايلي مريم في إثيوبية بتاريخ 25/5/1991 وفي الوقت الذي أصبحت فيه إريترية على عتبة الاستقلال، شهدت الساحة الإريترية صراعات داخلية أفرزتها التعددية السياسية في بنية حركة التحرر، ويعد تنظيم الجبهة الشعبية لتحرير إريترية من أكبر التنظيمات وأقواها على الساحة، إضافة إلى تنظيمات أخرى أهمها: (جبهة التحرير الإريترية - التنظيم الموحد، وجبهة التحرير الإريترية - المجلس الثوري، وجبهة التحرير الإريترية - المجلس الوطني).
وعلى الرغم من المراهنة على تفجر الصراعات الداخلية بين فصائل التحرير، فإن ظاهرة الاختلاف ليست من الحدة والتناقض بحيث تعيق الوحدة الوطنية المنشودة لقوى الثورة، ولاسيما أن دروس التاريخ المريرة وقسوة المعاناة قد وحدت شعور المواطنة الإريترية الغالبة. وسيبقى أثر هذا العامل حصانة أساسية بوجه المؤامرات التي يمكن أن تتعرض لها الوحدة الوطنية بعد انهيار نظام منغستو في إثيوبية وسيطرة فصيل الجبهة الشعبية لتحرير إريترية على الحكم في الوطن الإريتري، وتشكيلها للحكومة الإريترية المؤقتة برئاسة الأمين العام للجبهة «اسيس أفورقي». ومن أبرز مهام هذه الحكومة مواجهة تراكمات الاحتلال المديد ومخلفاته وإجراء الاستفتاء العام وإعلان الاستقلال.
ولقد تحقق للإريتريين النصر والاستقلال والسيطرة على العاصمة أسمرة في عام 1993. أجري على أثره الاستفتاء في العام المذكور، فكانت نتيجته إجماع شبه تام (99.8٪) لصالح الاستقلال الكامل. وهكذا أعلن استقلال إريترية في نيسان من عام 1993، واعترفت بها دول كثيرة. وقد دخلت إريترية صراعاً مع اليمن بسبب احتلال القوات الإريترية أرخبيل حنيش الكبرى اليمنية في البحر الأحمر، ذات الأهمية الاستراتيجية لوقوع الجزر في طريق الملاحة البحرية بين مضيق باب المندب وقناة السويس. وعلى الرغم من الاتفاق على معالجة المسألة سلمياً في 3/5/1996 فقد استمر احتلال الجزر حتى حكمت محكمة العدل الدولية بتبعيتها لليمن في تشرين الأول عام 1998.