علم الإِرشاد النفسي counseling psychology هو واحد من فروع النفس[ر]، ومحوره عملية الإِرشاد النفسي وبها يُعرف ويعرّف. وفي تحديد هذه العملية عدة تعريفات ينحو بعضها منحى الاختصار ويأخذ بعضها الآخر بالتفصيل. بين التعريفات المختصرة ما يقول: إِن الإِرشاد النفسي علاقة يحاول فيها شخص مساعدة آخر في فهم نفسه وحلّ مشكلات تكيّفٍ لديه. وبين التعريفات الآخذة بالتفصيل ما يذكر أن الإِرشاد النفسي عملية منظمة تعتمد على علاقة تفاعل وثقة بين قطبين المرشد النفسي المؤهل علمياً للقيام بالعملية، والمسترشد وهو شخص سويّ لديه صعوبة نفسية ويحتاج إِلى المساعدة، ويكون هدف العملية توفير ظروف المساعدة ليصل المسترشد إِلى حلّ مثمرٍ لصعوبته وفهم أفضل لنفسه.
ولعملية الإِرشاد هذه شروطها وأساليبها، وفي جملة ما تشمله مقابلةٌ تجمع بين المرشد والمسترشد في إِطار معين، وإِجراء يقوم به المرشد يستهدف الحصول على معلومات متكاملة عن المسترشد، واستخدام لأسلوب الحديث أو الحوار في سعي الإِرشاد نحو بلوغ أغراضه.
والمرشد النفسي شخص مؤهل علمياً تتوافر فيه شروط شخصية وعلمية معينة، والغالب أنه يعمل وحده مع المسترشد في عملية الإِرشاد، ولكن يحدث في حالات نادرة أن يكون معه زميل له. أما المسترشد فشخص يعاني من مشكلة نفسية تقع في فئة المشكلات التي يتصدى لها المرشد والتي تكون عادة من درجة في الشدة والتعقيد تقلّ عما يستدعي اللجوء إِلى المعالج النفسي clinical psychologist أو الطبيب النفسي psychiatrist. ويحدث أن يكون الإِرشاد فردياً، في حالات، ويكون المسترشد فرداً واحداً، ويحدث، في حالات أخرى، أن يكون الإِرشاد جمعياً أو جماعياً يضم مع المرشد عدداً من المسترشدين يقع ما بين 3-7 أشخاص على الأكثر.
إِن هذه العملية وما يتصل بها من الموضوعات هي ما يتناوله علم الإِرشاد النفسي. وتحتل مهنة الإِرشاد النفسي مكانة مهمة في مجالات الخدمات النفسية بسبب من المساعدة التي توفرها للأشخاص الذين يحتاجون إِلى مثل هذه المساعدة.
إِن التلميذ الذي يغلب عليه الانعزال في ساحة اللعب بالمدرسة الابتدائية محروم، في حاله هذه، من إِشباع الدافع إِلى اللعب مع الآخرين، وهو بذلك محتاج إِلى المساعدة ليتغلب على هذه الصعوبة التي يحتمل فيها أن تتطور فتؤذي تكوينه النفسي وتوجهه نحو الانحراف. ومثل هذا الأمر يقال في ابن السادسة عشرة الذي تبدو لديه مظاهر التعاسة والألم وهو يعبر عن افتقاره إِلى الأصدقاء، وفي العامل الذي غدا سلوكه غير مستقر بسبب من شعوره بالضيق في عمله، وفي زوجين أمسيا يشعران بتكرار حدوث مشكلات بينهما تحرمهما معاً من التمتع بسعادة الحياة الزوجية وذلك بعد أن كان الحب هو الأساس في العلاقة بينهما. إِن هؤلاء وأمثالهم بحاجة إِلى المساعدة العلمية الموزونة التي يوفرها الإِرشاد النفسي، وإِن الدراسات التي تهتم بنسبة وجود مثل هذه الحالات، وما هو من أنواعها، عند الناس تضعها في حدود تقع ما بين 10-20٪ من أفراد المجتمع.
لمحة تاريخية
يكثر وجود النصح في المجتمعات الإِنسانية، ويغلب أن يكون موجهاً من ذي خبرة واسعة أو مكانة مرموقة إِلى ناشئ أو راشد يواجه مشكلة يحتاج معهما إِلى المساعدة. وفي النصح تقديم معلومات ومواعظ أحياناً، وفيه تقديم الحلول حول مشكلات قائمة. إِلا أن الإِرشاد النفسي لا يقدم النصح أو الموعظة، بل يوفر الفرص للمسترشد، ليهتدي بنفسه إِلى الحلول لمشكلات قائمة لديه وليصل إِلى فهم أفضل لنفسه بمساعدة من المرشد. والمرشد لا يقدم المعلومات إِلى المسترشد لتكون نموذجاً يحتذى به، بل إِنه يسعى إِلى أن يكوّن المسترشد قناعات جديدة انطلاقاً من معارفه القديمة ومن المعلومات الجديدة التي تتوافر له، وتكون هذه القناعات الجديدة الأساس الذي يعتمده في الوصول إِلى حلول لمشكلاته وفهم أفضل لنفسه.
والنصح إِجراء إِنساني وجد منذ الحضارات القديمة وقد ارتبط بمكانة الكبار في حالات، والاعتقادات الدينية والاجتهادات الفلسفية والفكرية، في حالات أخرى. وكثيراً ما تشاهد أمثلة متنوعة منه في الفكر الفلسفي والحركات الإِنسانية في الحضارة العربية الإِسلامية وحضارات أخرى في القرون الوسطى والعصر الحديث، وذلك إِلى جانب الأمثلة في مجرى الحياة الاجتماعية اليومية.
أما الإِرشاد النفسي فموضوع علم حديث نشأ وترعرع أولاً في الولايات المتحدة الأمريكية، ثم انتشر الاهتمام به بسرعة في أقطار كثيرة من العالم. والمعروف أن مطلع الخمسينات شهد، في الولايات المتحدة، ظهور الإِرشاد النفسي وظيفة مدنية ومهنة، وأن عدد العاملين في هذا الميدان في تلك الولايات غدا مرتفعاً. وتدل البحوث على أن هذا العدد تجاوز خمسين ألفاً قبل حلول عام 1980. ومن يطالع أمور مؤسسات التربية في الحاضر، ومؤسسات العمل، وعيادات الإِرشاد النفسي، يشهد في الكثير من أقطار العالم، وبينها الأقطار العربية، اتساع رقعة الاهتمام بالإِرشاد النفسي في الجامعات وازدياد عدد العاملين المؤهلين الذين يتخذونه مهنة لهم، كما يشهد انتشار جمعيات الإِرشاد النفسي وتعدد المجالات العلمية المتخصصة بنشر البحوث المتصلة به.
أما العوامل التي تدخلت في نشوء هذا العلم ووجود هذه المهنة فكثيرة، ومنها: زيادة الاهتمام بالإِنسان، ولاسيما بعد الحرب العالمية الثانية، وانتشار حركة التوجيه المهني[ر] في الأربعينات، وحركات الصحة النفسية[ر]، والتطور في إِنجازات القياس النفسي[ر]، والمشكلات التي خلفتها الأزمات الاقتصادية بدءاً من الثلاثينات، والنزوع في العالم إِلى العلم وطرائقه وإِنجازاته، والاهتمام بأساليب وقاية الإِنسان من الانحراف، والعناية بجنوح الأحداث والإِدمان، والتطور الواسع الذي مرت به الدراسات النفسية.
مجالات عمل المرشد النفسي ووظائفه
يشمل إِعداد المرشد النفسي دراسة جامعية في مجالات علم النفس والقياس ودراسة المجتمع في مستوى الشهادة الجامعية الأولى. ويلتحق بهذه الدراسة عادة من يتوافر لديه مستوى جيد من الصفات العقلية والأخلاقية والاهتمامات الإنسانية. ثم يتابع الراغب في التخصص دراسات عالية يرافقها نظام تدريب تنتهي بدرجة علمية عالية يتوقف نوعها ومستواها على درجة تطور ممارسة مهنة الإِرشاد النفسي في القطر الذي ينوي المتخرج العمل فيه.
أما مجالات عمل المرشد النفسي فكثيرة، وفي مقدمتها المؤسسات التربوية والجامعات ومؤسسات العمل. فالمشكلات لدى تلامذة المدارس متعددة أكانوا في مدارس التربية الخاصة[ر] أم في غيرها، أكانوا من المعوقين أم المتفوقين أم كانوا من العاديين المتوسطين الأسوياء. ومن المعروف بين العاملين في التربية والمهتمين بتنشئة الأولاد أن المدرسة لا تصل إِلى تحقيق أهدافها التربوية في حال الكثير من التلامذة إِلا بمساعدة من المرشد النفسي فيها. وفي الجامعات حاجة كبيرة لجهود المرشد النفسي ولاسيما حين يكثر عدد الطلاب الذين يتخبطون في دراستهم، أو يتكرر تقصيرهم، أو تضايقهم مشكلات العلاقة مع الآخرين أو مشكلات المستقبل والعمل والزواج.
ثم إِن مؤسسات العمل توفر مجالاً واسعاً ليمارس المرشد النفسي مهنته، ولاسيما حين تكون المؤسسة كبيرة وحين تسعى نحو مزيد من التطور وتحسين وسائل الإنتاج، وعندما تواجه الآلة العامل في مجال عمله بالكثير من الصعوبات والضغط. وهناك مجالان آخران واسعان يقعان كذلك في المقدمة من مجالات عمل المرشد النفسي وهما: العمل في عيادة خاصة لإِرشاد الأفراد والأسر، والعمل المتعلق برعاية المجرمين والمدمنين والأحداث الجانحين المتصل بمؤسسات مرتبطة بالقضاء والجمعيات الخيرية.
فإِذا عمل المرشد النفسي في مؤسسة تربوية أو صناعية أو مؤسسة خدمات اجتماعية أو غيرها، فإِن عمله لا يقتصر على توفير الإِرشاد النفسي لمن يحتاجه في المؤسسة، بل تمتد مسؤولياته إِلى ما وراء ذلك لتشمل الإِطار والظروف التي تحيط بالأفراد الذين يعتني بهم. إِنه يقدم المساعدة في تطوير نظام المدرسة ومناهجها وظروف العمل والتدريس فيها وسعياً وراء توفير مزيد من شروط الوقاية، وكثيراً ما يغدو مشاوراً للمدرسة وأولياء التلامذة فيما يتصل بأولادهم. أما في مؤسسات العمل والخدمات الاجتماعية فإِن مسؤولياته تمتد لتشمل عمليات القياس النفسي الضرورية، وعمليات الاختيار المهني المتصلة بالأشخاص وتوظيفهم أو توجيههم في مجالات العمل المستقبلي. وينطلق الأساس في هذه المسؤوليات من الاعتراف بأثر الشروط المحيطية في تكيّف الأفراد ووقايتهم وتكوّن المشكلات النفسية لديهم.
أساليب الإِرشاد النفسي :
الأساليب التي يأخذ بها العاملون في الإِرشاد النفسي متعددة، ولكل أسلوب وجهه النظري الذي تعبّر عنه الأسس العلمية التي ينطلق الأسلوب منها، ووجهه العملي أو الإِجرائي الذي يبدو في طريقة السير في عملية الإِرشاد وتوفير شروطها. وقد يأخذ البحث العلمي في هذه الأساليب بمنحى وضعها في فئات مثل القول بالأساليب السلوكية والأساليب الإِنسانية، وقد يذكرها إِفرادياً مثل القول بأسلوب الإِرشاد المعقود أو المرتكز على المرشد client- centered counseling وأسلوب الإِرشاد العقلي الانفعالي rational- emotive counseling. وبين أساليب الإِرشاد المتعددة اختلافات يغلب أن تنطلق من النظر إِلى طبيعة الشخصية والنظر إِلى تكون السلوك لدى الإنسان وطرائق تغير هذا السلوك . ولكن بين هذه الأساليب نقاط اتفاق متعددة تقع في مقدمتها الأمور التالية:
ـ أن يتم الإِرشاد النفسي، الفردي أو الجماعي، في موقف مقابلة تجمع بين الطرفين، المرشد والمسترشد (أو المسترشدين)، ضمن إِطار محيطي مناسب، وأن يكون التخاطب أساساً في الإِرشاد، وأن يتم الاعتماد على جو الثقة بين الطرفين لجعل إِسهام المسترشد إِسهاماً جيداً في عملية الإِرشاد.
ـ أن تسير عملية الإِرشاد معتمدة باستمرار على الأساس القائل إِن المرشد يساعد المسترشد على الوصول إِلى حل لمشكلته عن طريق الحوار ولكنه لا يقدم له الحل. ثم إِن الحوار لا ينطوي على ممارسة أي إِكراه ليأخذ المسترشد بقناعة يريدها له المرشد. ويضاف إِلى ذلك أن سير العملية يستهدف باستمرار كذلك أن يصل المسترشد إِلى فهم أفضل لنفسه: لإِمكاناته وخبرته وقناعاته واتجاهاته.
ـ أن يكون الانطلاق في عملية الإِرشاد من النظر إِلى المسترشد على أنه ليس إِنساناً مريضاً، بل هو إِنسان يعاني من سلوك فيه بعض الاضطراب أو الخطأ، ويكون هدف العملية إِحداث تغيير أو تعديل في ذلك السلوك ليغدو سليماً.
ـ أن توظّف المعلومات التي يحصل عليها المرشد عن المسترشد توظيفاً جيداً في سير عملية الإِرشاد لتحقيق مزيد من فهم المسترشد لنفسه، ومزيد من فهم المرشد لتكوين المسترشد، ومزيد من الثقة بين الطرفين، ومزيد من عمق شعور المرشد بمشكلة المسترشد ومعاناته.
إِن هذه النقاط الأربع تقع في مقدمة ما تتفق حوله، أو تشترك فيه، أساليب الإِرشاد النفسي المختلفة. ولكن هناك عدداً من النقاط الأخرى التي يكون الإِجماع عليها بين أساليب الإِرشاد النفسي أقل مما هو الأمر في حال النقاط الأربع المذكورين. على أن من اللازم القول هنا إِن العاملين في الإِرشاد النفسي يسعون باستمرار نحو التحسين فيما يأخذون به، وذلك عن طريق مزيد من البحث العلمي المتصل بجوانب الإِرشاد المختلفة.
إِن الإِرشاد النفسي علم ناشئ ومهنة حديثة، وهو يهتم بمشكلات معينة يمر بها بعض الأفراد. ويحدث في حالات متعددة أن يكون موضع نقد، من حيث هو علم ومن حيث هو مهنة وتطبيق. ويذهب النقد ِإلى أن الإِرشاد لا يصل إِلى أغراضه دائماً، وأنه مع كل ما يقوله عن نفسه، ينطوي على توجيه أو إِقناع أو تدخل في حياة الأفراد الذين يقدم لهم المساعدة. ولكن الإِرشاد النفسي يدافع عن نفسه عن طريق التزامه أخلاق المهنة، وأهدافه العلمية، وحدود القانون الذي يرسم وظائفه ومسؤوليات المتخصص، وعن طريق النتائج التي يحققها في مساعدة الأفراد، وكذلك عن طريق سعيه الدؤوب وراء مزيد من البحث العلمي المتجه نحو جوانب الإِرشاد النفسي المتنوعة، وبتطور التقنيات للإِرشاد عن بعد بالهاتف والبريد الإِلكتروني قد يصبح الإِرشاد النفسي أكثر موثوقية وصحة.