أعادت خطابات الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، التي ألقاها على امتداد شهر شباط المنصرم، أطروحة نهاية أو زوال إسرائيل إلى قلب الاهتمامات الفكرية والثقافية، سواء من خلال الردود الغزيرة الناقدة لما جاء فيها، وإن كانت في أغلبها تتّصف بالسطحية، أو من خلال كثافة الكتابات المؤيّد والمتبنّي أصحابها في الأساس لهذه الأطروحة، وإن كان البعض منها لا تنطبق عليه المعايير العلمية.
استند الأمين العام لحزب الله في كلامه عن بدء التأريخ لنهاية إسرائيل وليس النهاية الفعلية في خطاب 14 شباط إلى ما قاله رئيس الوزراء الإسرائيلي الأول، ديفيد بن غوريون، من أن دولته تسقط على أثر خسارة أول حرب، الأمر الذي عبّر عنه بوضوح في خطاب 22 شباط.
رأى الأمين العام لحزب الله أن حرب تموز 2006، مثّلت الهزيمة الأولى في تاريخ إسرائيل، ما يعني بدء مسيرة تحقق رؤية ديفيد بن غوريون.
رأى الصحافي والمحلّل الإسرائيلي سيفير بلوكر، في مقال له في صحيفة «يديعوت أحرونوت»، تحت عنوان «إسرائيل يجب أن تنتصر»، في أثناء حرب تموز 2006، أن نتيجة فشلها لن تكون سوى نهاية إسرائيل، حيث قال: «إذا خرج هؤلاء القادة (يقصد قادة حماس وحزب الله) من هذه الحرب سالمين، فستكون نهاية إسرائيل».
بغضّ النظر عن طبيعة العامل المعوَّل عليه في أطروحة النهاية، سواء اندرج ضمن الإطار العسكري أو غير العسكري، فإنّ طرح نهاية أو زوال كيان أو دولة ما، يصحّ على ما قام وتأسّس ضمن سيرورة طبيعية، والشواهد التاريخية كثيرة في هذا الإطار، فكيف إذا تعلّق الأمر بإسرائيل التي جاءت عن طريق ولادة قيصرية قسرية.
إنّ إطروحات نهاية إسرائيل الآنفة الذكر التي عرضها الأمين العام لحزب الله، هي أطروحات نظرية قابلة للنقاش وبعيدة كل البعد عن الإيديولوجيا والخطاب الديني، ما يعني أنّ الإشكال المنطقي لا بدّ أن ينصبّ على العامل المعوَّل عليه أن يؤدّي إلى هذه النهاية لا على فكرة النهاية بحدّ ذاتها، التي لا يشتمل معناها القضاء على الإسرائيلي أو إبادته.
يبقى أنّ الأطروحات التي تضع التصوّرات والسيناريوهات المفضية إلى هذه النهاية هي بلا شكّ أطروحات في بعضها تجافي عالم المنطق وفي بعضها تحاكيه بسبب مسار الأحداث وحركة المتغيّرات التي بدأت تلوح في الأفق.
هل طرح «النهاية» وقف على من يناصب العداء لإسرائيل؟ يُعدّ يوسي بيلين، من أبرز المفكّرين الإسرائيليّين الذين كتبوا عن مستقبل إسرائيل بشكل استشرافي، وذلك في كتابه «موت العم الأميركي»، إذ تملّكه الخوف من المستقبل انطلاقاً من جملة مؤشّرات تصبّ في النهاية في مصلحة اضمحلال الدياسبورا اليهودية (الشتات) وعزوف غالبية أفرادها عن التوجه إلى إسرائيل، حيث صرّح قائلاً: «أشعر بنوع من الهيستيريا والخوف إزاء ذوبان الشعب اليهودي خارج دولة إسرائيل. فاليوم وبعد 51 سنة على قيام إسرائيل هناك 13 مليون يهودي يعيش 10 ملايين منهم في الولايات المتحدة وإسرائيل، أما شرق أوروبا، فإنه سيخلو من اليهود لأن معظمهم يحلم بالهجرة إلى الولايات المتحدة و60 في المئة منهم يعقد زيجات مختلَطة. وكذلك يفعل يهود أميركا ممّا يؤدّي إلى التناقص المستمرّ لأعداد اليهود في الخارج. ما يحرم إسرائيل الخزان البشري للدم اليهودي» (1).
تطرّق المفكّر الفرنسي جاك آتالي لأطروحة نهاية إسرائيل حيث رأى أن هذه النهاية تتبدّى من خلال حرب العصابات التي تواجهها إسرائيل على الدوام في ظلّ غياب «السلام»، ما يؤدّي إلى استنزافها، فيما من شأن «السلام» إذا ما وقع أن يؤدّي إلى قيام سوق تضمّ جميع بلدان المنطقة، ما يرتّب ذوباناً تدريجياً للهويات القومية وبالتالي تصبح إسرائيل أقلية ديموغرافية وثقافية في هذه السوق.
تطرّق الباحث العربي عبد الوهاب المسيري في موسوعته «اليهود واليهودية والصهيونية» لأطروحة نهاية إسرائيل، حيث رأى أن خاصّتي الاعتمادية والإحلالية المرتبطتين بطبيعة دولة إسرائيل من شأنهما أن تؤديا إلى نهايتها.
بدأ تأريخ نهاية إسرائيل والنجاح باغتيال عماد مغنية؟
كيف يستقيم الحديث عن نهاية إسرائيل، في وقت تتعاظم فيه قوّتها العسكرية باستمرار، وتحقّق أجهزتها الاستخبارية إنجازاً نوعياً بنجاحها باغتيال عماد مغنية أحد أبرز قادة حزب الله؟
لم يرتبط تملّك هاجس النهاية من وجدان الإسرائيلي وخوفه من المستقبل، في يوم من الأيام، لا بقدرات بلاده العسكرية ولا بإنجازات أجهزتها الاستخبارية، لا بل على العكس فإن الخوف من المستقبل كان يراود وجدان القادة الإسرائيليّين على أثر انتصارات جيشهم على الجيوش العربيّة، ولم يوقف هذا الهاجس لا احتلال الجزء الأكبر من فلسطين ولا كامل فلسطين ولا الجولان السورية ولا سيناء المصرية، ويكفي أن نذكر هنا ما صرّح به موشي ديان، وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق، عام 1954، حيث قال: «علينا أن نكون مستعدّين ومسلّحين، أن نكون أقوياء وقساة، حتى لا يسقط السيف من قبضتنا وتنتهي الحياة»(2).
التخلّي عن أطروحة النهاية المستندة إلى العامل العسكري
رأى البعض أن الأمين العام لحزب الله، قد تخلّى في خطابه الثاني عن أطروحة نهاية إسرائيل المستندة إلى العامل العسكري التي طرحها في خطابه الأول لمصلحة أطروحة نهاية إسرائيل المستندة إلى العامل الديموغرافي.
بدايةً، إنّ ما يؤسف له في هذا الإطار هو أن هذا النقد قد صدر عن بعض ممن يضعون حرف الدال قبل أسمائهم، والذين يفترض وجودهم بالحدّ الأدنى، المعرفة بالموضوع والموضوعية والبعد عن المزاجية في الاجتزاء، اللهم إلا إذا كان المراد به دجّالاً لا دكتوراً.
ad
يظهر بوضوح من خلال نصّ أطروحة النهاية في خطاب 14 شباط و22 شباط أنّ الأمين العام لحزب الله، كان قد اقتصر في خطابه الأول على أطروحة النهاية المستندة إلى العامل العسكري، بينما توسّع في خطابه الثاني مستعرضاً مجمل الأطروحات المرتبطة بهذه المسألة، التي من ضمنها العامل العسكري الذي أعاد التأكيد عليه انطلاقاً مما ورد في خطابه الأول.
عاش الإسرائيلي هاجس النهاية منذ البداية، إذ تملّكه الخوف من المستقبل بدءاً برئيس الوزراء الإسرائيلي الأول، ديفيد بن غوريون، الذي وضع نصب عينيه العمل على تمكين دولته الحديثة العهد من حيازة السلاح النووي، انطلاقاً من قناعة راسخة لديه بأن هذا السلاح من شأنه أن يمثّل صمام أمان يضمن استمراريتها وبقاءها.
بغضّ النظر عن مدى إمكان انطباق رؤية بن غوريون، حول سقوط دولته، على الواقع الحالي، وبغضّ النظر عمن انتصر ومن انهزم في حرب تموز 2006، فإنّ الخيار النووي الذي تبنّاه بن غوريون، انطلاقاً من الخوف على مستقبل دولته لا يمكن الجدال بشأنه.
هكذا، فإن ما يصيب إسرائيل من وهن في مقدرتها الردعية النووية سوف يطرح تأثيراته المباشرة على طبيعة استمراريتها، التي لا شك في أنها سوف تكون مختلفة كلياً عمّا كانت عليه، في ظلّ شرق أوسط جديد متعدّد الأقطاب نووياً. وهذا السلاح النووي والكيميائي مكبِّل للقوى التي تملكه ولا يمكنها استعماله تحت أي ظرف أو وضع كانت عليه المواجهة في المنطقة. فاستعمال هذا السلاح يحتاج إلى قرار جريء تتّخذ فيه إسرائيل قرار الإبادة الكاملة لشعبها، إذ إنّه لا يمكنها التحكّم في النتائج ولا بردّات الفعل المقابلة، لأنّها قد تضمن المبادرة ببدء الضربة الأولى ولا تضمن انتهاء الضربات المقابلة، التي لا يمكن تحديد الجهات التي تأتي منها ولا عددها حتى ولا نوعها. وهنا تُطرَح إشكالية أمام إسرائيل هي أحد الخيارين: قبول الهزيمة العسكرية أمام حرب تقليدية ممكنة بمواجهة خيار حالة الإبادة بأسلحة الدمار الشامل غير المضمونة النتائج.
ad
على إسرائيل أن تواجه الآن واقع أنّ جيرانها يصبحون أندادها العسكريين ودعم الولايات المتحدة لن ينقذها.
قد لا يكون لدينا إمكان تحديد المدى الزمني للوصول إلى النهاية، إلا أنّه محسوم النتائج المؤدّية الى حتمية الزوال، ولا سيّما في الخضوع لحلّ بشكل سلمي ضمن تسوية، ومن دون ذلك، فإنها لن تصمد أبداً أمام مواجهة دموية، بغضّ النظر عن حجم الحماية العربية لها أو عدد الضمانات الأمنية الأميركية التي تقف وراءها.
لك أن تنظر إلى كل شيء ليصعب عليك تصوّر شيء أكثر سوءاً، النتيجة واحدة هي زوال إسرائيل من الوجود.