بقلم: محمد بشار كبارة
استعرض مقالات الكاتب | تعرف على الكاتب 29-06-2022 - 639 الاستثمار investment هو إنفاق ذلك الجزء من الدخل الذي لا يخصص لشراء السلع والخدمات التي تفي المتطلبات الاستهلاكية مباشرة بل الذي يؤول إلى زيادة وسائل إنتاج تلك السلع والخدمات. لذلك فإن المفهوم الاقتصادي لكلمة «استثمار» يختلف عن المعاني الشائعة التي يتناقلها الناس لهذه الكلمة. ويحسب حجم الاستثمار عادة بوساطة قيمة الإنفاق التي تتم في مدة زمنية معينة على تكوين أصول ثابتة جديدة. وبناء على ذلك، فإن الاستثمار في بلد ما هو ذلك الجزء من الناتج العام، لذلك البلد في المدة المعينة، الذي يجري إنفاقه على الجديد من الأصول أي من الإنشاءات والمعدات والتجهيزات والمرافق وعلى الإضافات الحاصلة في تلك المدة في المخزون الاستثماري. وعند الكلام عن الاستثمار يجدر التفريق بين «الاستثمار الإجمالي» و«الاستثمار الصافي»، فالأخير هو الأول ناقصاً الاهتلاك أي قيمة ما يخرج من الاستثمارات السابقة. وكذلك يجدر التفريق بين الإنفاق الاستثماري في مدة زمنية معينة، أي تكوين الأصول الرأسمالية الجديدة في تلك المدة، وبين مجمل الأصول الرأسمالية المتراكمة على مر السنين. فالاستثمار أو التكوين الرأسمالي هو عملية تدفق إنفاق استثمار جديد، في حين أن مجمل الأصول الرأسمالية المتراكمة حتى بداية المدة الزمنية المعنية لا تعدو كونها كتلة جامدة من رأس المال القائم. طبيعة الاستثمار يتأتى الاستثمار من ذلك الجزء من الدخل الذي لا ينفق على الاستهلاك. وقد لوحظ منذ القديم أن ثمة فئات من الناس تجد أن مجمل استهلاكها يقل عن مجمل دخولها، وتجد بين أيديها في آخر الموسم، سواء أكان شهراً أم عاماً ، مبلغاً فائضاً من المال. وقد أدركت تلك الفئات أن ادخار هذا الوفر نقوداً سائلة يبقي الفائض جامداً، وهو أمر عقيم لا زائد فيه، في حين أن ثمة أعمالاً أخرى تحرك الوفر المدخر وتعيده مع ربح إضافي. من هذا المنطلق فإن ذلك الجزء من الدخل الذي لا ينفق على الاستهلاك يكون مهيأ بوجه طبيعي لينفق على الاستثمار. وفي حالات حسابات الدخل القومي، ووفق شروط معينة يعد مجمل الادخار [ر] في عام من الأعوام مساوياً لمجمل الاستثمار. هذا بوجه مبسط، إذا لم تؤخذ في الحسبان مسألة «الفاصل الزمني» بين الإنتاج والاستهلاك من جهة والادخار وعملية الاستثمار من جهة أخرى، وبفرض عدم وجود تهريب أموال إلى خارج البلد المعني وعدم وجود اكتناز. والادخار هو ما يفيض من الدخل بعد الإنفاق على مجمل المتطلبات الاستهلاكية وعلى الضرائب والتزامات الدفع السابقة كالديون وهو يتوزع إلى استثمار واكتناز. فقد لا تخرج كتلة الادخارات من حلقة توليد الدخل عندما يتوجه ما يزيد على الاستهلاك في مدة معينة إلى الإنفاق الاستثماري ويتحول إلى استثمار. أما الاكتناز، وهو ظاهرة تتفشى عادة في المجتمعات التي هي أقل تطوراً، فيتمثل بتكديس المال وتركه مجمداً خارج دائرة التداول وإبقائه بلا أثر حيوي مدة غالباً ما تكون طويلة، والاكتناز يعد عملاً سلبياً له خطورته الاقتصادية وضرره الاجتماعي عكس الاستثمار الذي يعد عاملاً مهماً في توليد الدخل. ومع أن الاستثمار بوجه عام هو تكوين الأصول الثابتة الجديدة، فإنه في الواقع لا يمكن حصره بها بوجه مطلق. لذلك فقد أضافت بعض النظريات عامل «الاستثمار التكنولوجي»، وهو الإنفاق الذي يؤدي إلى رفع الطاقة الإنتاجية عن طريق تعديل المستوى التقني وتعميق البحث العلمي وتطوير التقنيات المتبعة والطرائق الإنتاجية المطبقة. كذلك اهتمت نظريات أخرى بإبراز عامل «الاستثمار الإنساني»، وبينت أن الإنفاق على التبدلات النوعية في القوى العاملة، ولاسيما الناجمة عن التعليم والتأهيل الفني وعن تحسين المستوى الصحي واللياقة البدنية والذهنية للقوى العاملة له أثر إضافي في الطاقة الإنتاجية القائمة. وثمة دراسات كثيرة تثبت أن الاستثمار بصورته الواسعة هو الإنفاق على تكوين الأصول الثابتة الجديدة وعلى رفع المستويات النوعية لعناصر الإنتاج التي من شأنها الإسهام في زيادة توليد الدخل، ويكون الاستثمار على نوعين: «استثمار عام» و«استثمار خاص». والأخير يمكن أن يكون فردياً أو جماعياً. فالفردي هو ما ينفذه المدخر مباشرة، والجماعي يتم عن طريق مؤسسات استثمارية مساهمة تقوم بقلب رؤوس أموالها النقدية إلى أصول منتجة وغالباً ما ترفد تلك المبالغ بتمويلات إضافية مستمدة من أرباح سابقة محتجزة أو من قروض متنوعة. أما الاستثمار العام فهو مجمل ما تنفقه الدولة والقطاع العام على تكوين رأس مال حقيقي جديد. قرار الاستثمار يختلف دافع اتخاذ قرار الإقدام على استثمار جديد وفقاً للجهة التي تملك رأس المال المرغوب استثماره. وإذا ما تم استبعاد العوامل الذاتية التي قد يكون لها أثر في بعض الأحيان، وجرى التركيز على العوامل الموضوعية فقط، فإنه يتضح أن الدافع «للاستثمار الخاص» يكون عادة تحقيق أعلى عائد ربح ممكن، أما «الاستثمار العام» فغالباً ما يتحرك بدوافع وأسباب متعددة يكون عامل الربح واحداً منها. فالاستثمار العام ينطلق من محور النظرة الشاملة للمنافع الاقتصادية والاجتماعية التي تؤول إلى البلد المعني كلية ولا ينحصر بحافز «الربحية» الضيق كما هو الأمر في حال الاستثمار الخاص. لذلك ينظر الاقتصاديون فيما يتعلق بالاستثمار الخاص إلى «الإنتاجية الحدية الخاصة لرأس المال» private marginal productivity of capital وينظرون إلى «الإنتاجية الحدية الاجتماعية» social marginal productivity عند تقويم الاستثمار العام. وقد عالجت البحوث الاقتصادية الموضوعات المتعلقة «بمعايير الاستثمار» investment criteria معالجة مستفيضة. وثمة «معايير» عدة لاحتساب نسب مردود أي إنفاق استثماري ودرجة إيجابيته. وبصورة عامة، يجري تقويم أي مشروع جديد في ضوء نتائج تحليل ومقارنة كلف المشروع المتوقعة ومنافعه المرتقبة. بيد أن ذلك يعتمد على طرائق للقياس تختلف باختلاف خصائص المشروع الجديد وطبيعته ومصادر تمويله من جهة، وما إذا كان المشروع يؤلف استثماراً خاصاً أو استثماراً عاماً من جهة أخرى. لدى البحث عن «معايير» ربحية الاستثمار لا بد من التوقف عند ماقدمه فيشر I.Fisher وكينز J.M.Keynes وهيرشلايفر J.H.irshleijer وألشيمان A.Alchian ووايت W.H.White وميريت A.Merret وسايكس A.Sykes مع مجموعة من الآخرين حول هذا الموضوع. وباختصار، فإن طريقة حسم الإيرادات المستقبلية للمشروع الجديد بالفائدة المصرفية الجارية على مدى المدة المتوقعة لتشغيله، قبل اهتلاكه النهائي (حساب القيمة الحالية وفق طرق فنية معينة) هي الطريقة المتبعة لحساب ربحية المشروع من جهة ولمقارنة الربحية النسبية للمشروعات التي يمكن للمدخر الاستثمار فيها وموازنة بعضها بعضاً من جهة أخرى. وفي حين يطلق على الأسلوب الذي اتبعه فيشر طريقة «القيمة الحالية للمشروع» present value approach، فقد أطلق كينز على طريقته تسمية «الكفاية الحدية لرأس المال» marginal efficiency of capital. وبين الطريقتين تشابه من جهة واختلاف من جهة. ففي حال احتساب «القيمة الحالية» للمشروع يجري حسم توقعات الكلف الرأسمالية للاستثمار الجديد بالفائدة المصرفية الجارية كما يجري في الوقت نفسه حسم تدفقات الدخل المتوقع من المشروع بالفائدة المصرفية نفسها، الأمر الذي يعطي القيمة الحالية لهذين التدفقين في المدة الزمنية للمشروع، ومن ثم تُجرى مفاضلة بينهما. فإذا كانت القيمة الحالية للمردود أعلى من القيمة الحالية للتكلفة فإن المشروع يعد مربحاً. أما فيما يتعلق بمعيار «الكفاية الحدية لرأس المال» فإنه يتم استعمال ذاك المعدل للحسم الذي يجعل القيمة الحالية للدخل المتولد من المشروع مساوية لمجمل كلفة المشروع، ومن ثم يقارن ذاك المعدل بالفائدة المصرفية الجارية، فإذا كان المعدل المذكور أعلى من نسبة الفائدة المصرفية السارية فإن المشروع يعدّ مربحاً. وقد تعمق هيرشلايفر وألشيان وآخرون بأسلوبي فيشر وكينز وبيّنا حالات تماثل الأسلوبين وحالات اختلافهما وميزة كل منهما. وإضافة إلى هذين المعيارين ثمة «معايير» أخرى لربحية الاستثمار يتوقف اعتمادها على أوضاع خاصة، مثل طريقة احتساب «مدة استرداد رأس المال» payoff period التي يجري اعتمادها أحياناً ترقباً لسرعة التطورات التقنية التي قد تجعل من بعض التجهيزات المستعملة أقل فعالية في منافسة قدرات تجهيزات ذات تقنيات أحدث، وذلك على الرغم من أن عمر تشغيل الأصول التي هي أقدم يكون غير منتهٍ بعد، مما يدفع إلى تنسيقها قبل اهتلاكها النهائي. كذلك فقد جنح بعضهم، ومنهم بولاك J.J.Polak لطرح معيار «دورة رأس المال» المستثمر capital-turnover الذي يقود إلى تفضيل الاستثمار في المشروعات التي تكون نسبة رأس المال إلى الإنتاج منخفضة. وإن «معايير» الاستثمار التي تعتمد على احتساب ربحية المشروع، أو عائداته، هي المعايير المتبعة في اقتصاد السوق وفي أعمال قطاع «الاستثمار الخاص» أينما وجد، بيد أن للاستثمار في الاقتصاد الموجه «معايير» أكثر شمولاً، إذ تتركز السياسة الاستثمارية على مناهج مترابطة تفي بآن واحد بالأغراض الاقتصادية والاجتماعية للبلد بكامله. وفي البلدان النامية حيث تفرض طبيعتها الخاصة «معايير» محددة، فإن قرار الاستثمار لا ينحصر بالضرورة بمعيار ربحية المشروع الواحد. فحكومات تلك البلدان التي توجه استثماراتها لتحقيق أعلى نسبة ممكنة من الزيادة في دخلها القومي في مدة زمنية معينة تسعى غالباً لتذليل مشكلات اقتصادية خاصة بها ولتحقيق رؤية أو أهداف اجتماعية ترغب فيها. وعليه، فعند إعداد البرامج الاستثمارية في البلدان النامية توجه الدولة اهتمامها للاستفادة المثلى من عناصر الإنتاج الأساسية والموارد الاقتصادية المختلفة، وغالباً ما تتصدى للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية الرئيسة الخاصة بها ولتذليل الاختناقات الناتجة عن ذلك. وينعكس ذلك كله على طبيعة «المعايير» الاستثمارية الواجب اعتمادها فتختلف «المعايير» الملائمة بين حالة وأخرى ومن زمن إلى آخر. لذلك، فإن البحوث الاقتصادية، ولاسيما المتعلقة منها بمشكلات التنمية، زاخرة «بالمعايير» المقترحة. فتنبرغن J.Tinbergen يتكلم على ضرورة إخضاع معيار الربحية إلى قياس إضافي يتعلق بمدى فائدته الاجتماعية، ويقدم تشينري H.B.Chenery طرائق لاحتساب «الإنتاجية الحدية الاجتماعية» ويضيف في محاولات أخرى معيار المردود من القطع الأجنبي للمشروع الجديد، ويحاول إيكوس R.S.Eckaus إدخال مسألة «التكثيف التقني» للمشروع، ويبحث كالينسون وليبنشتاين W.Galenson & H.Leibenstein في طبيعة المشروع الصناعي الجديد وحجمه وأثره في بقية الاستثمارات وانعكاس كل ذلك على المردود الاقتصادي العام ويوصيان بالاستثمار في المشروعات التي تتمتع بنسبة عالية من رأس المال المستثمر إلى اليد العاملة ويرجحان الأخذ «بمعيار الحاصل الحدي لإعادة الاستثمار» magrinal reinvestment quotient، أما نوركسه R.Nurkse فينطلق من ظاهرة بطالة العمال ورخص اليد العاملة في البلدان النامية ليعتمد «معيار» تحريك اليد العاملة الفائضة واستثمارها في بناء الأصول الرأسمالية الثابتة. ويثير آخرون مثل شيتوفسكي T.Scitovsky موضوع الوفور الخارجية external economies للمشروع الجديد ويوضحون اختلاف هذا الأثر الاقتصادي الإيجابي بين استثمار وآخر، ويتكلم هيرشمان A.Hirschman على الترابطات الأمامية والخلفية لكل استثمار linkage effects وآثارها الواسعة في حركة التنمية. وثمة محاولات مماثلة كثيرة تتعلق بعوامل تنموية متنوعة، إلا أن للاستثمار في البلدان النامية طبيعة ودوافع وانعكاسات تختلف عمّا له في البلدان المتقدمة اقتصادياً. ثم إن لكل من البلدان النامية أوضاعها الخاصة وخصائصها المميزة، وهنالك تغاير في الأهداف السياسية والاقتصادية والاجتماعية بين بلد وآخر من تلك البلدان أو اختلاف في أفضلياتها. كل ذلك مما يجعل من المتعذر تحديد «معيار» استثماري أوحد يصلح لأي بلد وكل زمن ولكل مرحلة من مراحل التطور. أنواع الاستثمارات إضافة إلى النوعين الرئيسين للاستثمار اللذين ينطلقان من الجهة التي تملك أصولهما، وهو الأمر الذي تمت الإشارة إليه آنفاً عند الكلام على «الاستثمار العام» و«الاستثمار الخاص» بشقيه الفردي والجماعي، فإنه يمكن أيضاً التفريق بين أنواع الاستثمارات وفقاً لعدد من الخصائص الأخرى. فهناك «استثمار تلقائي» autonomous investment و«استثمار مستحث» induced investment. فالأول هو الذي يتقرر بصورة مستقلة عن المؤثرات الاقتصادية القائمة كمستوى الدخل العام أو معدل الاستهلاك، وهو غالباً ما يتقرر نتيجة إيجاد سلعة جديدة أو استحداث طرائق وأساليب إنتاجية غير تقليدية أو يكون ناجماً عن متغيرات اجتماعية أو نفسية أو سياسية غير مرتبطة بصورة مباشرة بالمعطيات الاقتصادية. أما «الاستثمار المستحث أو المحرّض» فهو الذي يعتمد كلياً على الأوضاع والعوامل الاقتصادية القائمة والمتوقعة والذي يقدم عليه المستثمر بدافع المنفعة المادية المباشرة. ومن الممكن التفريق بين أنواع الاستثمارات وفقاً للمدة الزمنية للاستثمار، وهو أمر اعتباري يختلف بين قطاع وآخر، فهناك استثمارات آنية تؤتي أكلها في بضعة أشهر كناتج الموسم الزراعي الواحد أو تركيب آلة منتجة من بضع قطع سبق أن تم تصنيعها أو استيراد جهاز يوضع مباشرة في التشغيل الإنتاجي، وهناك استثمارات قصيرة الأمد يراوح زمنها بين عام واحد وثلاثة أعوام (ويصل أحياناً إلى خمسة أعوام) كإشادة بناء أو استصلاح أرض أو تأسيس مصنع أو إقامة مرفق، وهناك استثمارات طويلة الأمد يراوح زمنها بين خمس وعشر سنوات (وأحياناً أكثر) كمشروعات التشجير وإنتاج الأخشاب أو إقامة السدود المائية الضخمة أو برامج استحداث تقانات جديدة بما في ذلك من أعمال البحث العلمي والتصميم ثم التطبيق العملي إنتاجياً. كذلك يمكن التفريق بين أنواع الاستثمارات وفقاً للقطاع الإنتاجي الذي يجري فيه الاستثمار، كالاستثمارات الزراعية أو الصناعية أو العقارية أو الخدمية أو التقنية. ثم إنه يمكن أيضاً التفريق بين أنواع الاستثمارات تبعاً لدرجة المجازفة التي يقدم عليها من يتولى الاستثمار، وهنا غالباً ما يكون عائد الربح مرتبطاً طردياً بدرجة المخاطرة. والمجازفة تكون على أنواع، فهناك دائماً خطر عدم القدرة على تحقيق معدل الربح المنشود، وهذا أمر له أبعاده عندما يكون رأس المال أو جزء منه مديناً. وهناك خطورة الإفلاس التام وضياع رأس المال. ثم إن المجازفة في وجه المخاطر يمكن أن تكون لأسباب اقتصادية أو فنية تتعلق بالمشروع نفسه أو تكون نتيجة لأوضاع ومتغيرات اقتصادية عامة خارج نطاق المشروع وإذ ذاك لا يكون للمستثمر أية قدرة للتأثير فيها، مثل انعكاسات التقلبات والدورات الاقتصادية أو سياسات الدولة وإجراءاتها الجديدة أو تبدلات السوق العالمية أو الحالات الطارئة من كوارث وحروب وغيرها.. ثم إن بعض المجالات تتصف بوجود خطورة كامنة فيها كصناعة الكيمياويات السامة أو الملتهبة أو كإشادة منشآت في أماكن خطرة مثل منصات حفر آبار النفط في أعالي البحار وغيرها. لذلك كله فإن من يقدم على استثمارات كهذه لا يرضى بالحد المتوسط من عائدات الربح بل يكون مستوى أرباحه متناسباً مع درجة خطورة مجازفته. كذلك يمكن التفريق بين أنواع الاستثمارات تبعاً لكونها «مباشرة» أو «غير مباشرة». فالأولى هي التي يجريها صاحب المال بنفسه، بيد أنه إذا كانت ادخاراته قليلة أو درايته محدودة أو أحواله مانعة فإنه يلجأ للاستثمار «غير المباشر» وذلك بشراء أسهم في مشروعات استثمارية جديدة أو بالاشتراك في برامج استثمارية جديدة حيث يكون للمشروع أو للبرنامج إدارة متخصصة ترعى حسن تنفيذه وتشغيله وتقوم بتوزيع أرباحه السنوية على المساهمين. وفي المجتمعات الرأسمالية، حيث توجد أسواق للأسهم وللأوراق المالية وحيث توجد أعداد كبيرة من الشركات التي تقوم بطرح أسهمها في تلك الأسواق لم يبق باستطاعة المدخر العادي أن يعرف السبيل الأفضل للاستثمار أو أنواع الأسهم التي تلائم حالته وتفي بغرضه. إذ إن متابعة دقائق تقلبات أسواق المال وتطورات أوضاع الشركات المختلفة والكثيرة بات يحتاج إلى أجهزة متخصصة ذات دراية عالية لتتمكن من الإحاطة بالتفاصيل ومواكبة سرعة حركة المتغيرات. لذلك ظهرت «شركات الاستثمار»، ومؤسسات مالية ومصرفية متخصصة، وجرى استحداث «صناديق استثمار»، و«برامج استثمارية» مستقلة أو مرتبطة ببيوتات مالية، وباتت كل هذه المؤسسات ومثيلاتها تؤدي للمستثمر العادي الخدمات التي يحتاج إليها والتي يكون غير قادر على القيام بها بنفسه. وبات بعض هذه المؤسسات يطرح أسهمه الخاصة للبيع فيقدم المستثمر على شرائها فتقوم المؤسسة بدورها باستثمار الأموال المتاحة بشراء أسهم أخرى لشركات مختارة ومتنوعة من أسواق الأسهم والأوراق المالية. وإضافة إلى كل هذه الأنواع من الاستثمار فإنه يمكن التفريق بين أنواع الاستثمارات وفقاً للدوافع الخاصة للمستثمرين. فحين يندفع بعضهم للاستثمار من أجل زيادة دخولهم العادية والدورية بهامش إضافي يتأتى من ربح الاستثمار، يقوم آخرون باستثمار ادخاراتهم متوخين الأمان إن كان في وجه الطوارئ أو متطلبات الشيخوخة أو لاستباق آثار التضخم ومنع تلاشي قيم ادخاراتهم مع الزمن، ثم هناك من يستثمر عن طريق الاشتراك في المشروعات السكنية وثمة من لا يستثمر إلا بالوسائل التي تضمن له جاهزية ماله سائلاً عند أول طلب. كذلك توجد دائماً فئة من المستثمرين تتصف استثماراتهم بالمغامرة الهادفة إلى الثراء السريع. وأخيراً، يمكن التفريق بين أنواع الاستثمارات تبعاً لمورد رأس مالها، فهناك استثمارات داخلية تتولد من ادخارات تنشأ داخل البلد المعني وهنالك استثمارات خارجية تنشأ نتيجة لتحويل رؤوس أموال من بلد أجنبي أو من جهة خارجية إلى البلد المعني لتستثمر فيه فتنعكس نتائجها على دخله القومي. والاستثمار الخارجي يمكن أن يتم إما بوساطة الحكومات فيكون رسمياً وإما بوساطة أفراد أو شركات فيكون خاصاً. الاستثمار والتوظيف إذا كان ما تقدم يمثل عرضاً موجزاً عن ماهية «الاستثمار» بالمفهوم الاقتصادي، فإن هناك استعمالاً آخر لهذه الكلمة وهو الاستعمال الشائع الذي يتناقله الناس فالشخص العادي غالباً ما يطلق عبارة «استثمار» على أي عمل يحرك فيه رأس مال لديه فيعود عليه هذا التحريك بزائدة أو بفائض فوق رأس ماله الأصلي. ولما كان علم الاقتصاد قد حدد مفهوم «الاستثمار» وبيّن طبيعته وخصائصه بوجه دقيق، فإن المعنى الشائع للاستثمار هو أقرب ما يمكن لأن يطلق عليه مصطلح «توظيف». إن الفرق الجوهري بين «الاستثمار» و«التوظيف» يكمن في نوعية الأصول التي تمتص المال المدخر (أي ذلك الجزء من الدخل الفردي الذي لا ينفق على الاستهلاك). فإذا أنفقت الادخارات الفردية على بناء أو تكوين أصول ثابتة جديدة وأدت إلى زيادة حقيقية في الإنتاج فهي «استثمار»، أما إذا جرى استبدال الادخارات بأصول قائمة غير جديدة فهي بالمفهوم الاقتصادي تؤلف استثماراً ويمكن أن يطلق عليها اسم «توظيف». وهكذا فإن التوظيف لا يعدو كونه استبدالاً برأس مال معين رأس مال من نوع آخر سعياً وراء نفع مالي غالباً ما يتمثل بفائض فوق رأس المال السائل الذي جرى استبداله، ويمكن أن يؤول النفع إلى صاحب المال فور إجراء التوظيف أو أن يتقاضاه على دفعات طول المدة الزمنية للتوظيف وذلك وفقاً لطبيعة الأصول التي جرت مبادلتها. فمثلاً، إن إشادة بناء أو مرفق جديد يعد استثماراً، أما شراؤه بعد ذلك من شخص آخر فيعد توظيفاً. كذلك، فإذا ما قام شخص بشراء قطعة أرض من شخص آخر فإن عمله يعدّ توظيفاً، أما إذا أقدم الشخص نفسه على استصلاحها أو على زراعتها أو على تطوير إنتاجها أو تحسينه بأية طريقة كانت فإن عمله يصبح استثماراً. كذلك هو الأمر في حال شراء آلة إنتاجية معينة أو مصنع كامل، فإذا أقدم شخص على شراء آلة قديمة أو مصنع قائم فإن عمله لا يعدّ استثماراً بالمفهوم الاقتصادي بل هو توظيف لا يعدو كونه تبادلاً في الملكية. وقياساً على ذلك، فإن شراء أسهم أو سندات لا يعدّ استثماراً إلا إذا كانت هذه الأسهم أسهماً جديدة (أي لمؤسسات محدثة)، أما إذا كانت أسهماً قديمة فتعدّ توظيفاً، لأنها انتقلت من يد مالك يرغب في اقتناء مال سائل عوضاً عنها إلى يد مالك لديه رغبة في اقتنائها بمقابل مال سائل يملكه وهي لا تؤدي إلى زيادة حقيقية في الإنتاج العام. وتعدّ الآن أسواق الأوراق المالية والقطاع المصرفي في المجتمعات الرأسمالية بمنزلة الأقنية التي تتم بوساطتها معظم عمليات الاستثمار والتوظيف. توابع الاستثمار ومسألة النمو يتأثر حجم مجمل الاستثمار، في أي بلد في مدة زمنية محددة، باعتبارات واسعة ويعتمد على عوامل أكثر تعدداً من مجرد اعتماده على حافز الربحية (أو المنفعة الاجتماعية) للاستثمار على الرغم من أهميتها. كذلك ففي المنظور الكلي يتعذر عزل عملية الاستثمار الواحدة عن توابعها وفصلها عن الحركة الاقتصادية العامة للبلد المعني سواء أكان ذلك في المدة الزمنية المحددة أم في الدورة الاقتصادية الواحدة أم على مرور الزمن. ففي الدرجة الأولى التي هي الأهم يعتمد حجم مجمل الاستثمار على المستوى العام للدخل أو الإنتاج العام وعلى التغيرات التي تطرأ على مستوى الدخل. كذلك فثمة عوامل إضافية كثيرة لها أثرها الكبير في الاستثمار «كتوقعات المستثمر» والتطورات التقنية، ودرجة تطور الأسواق المالية والمؤسسات المصرفية، وأخيراً، وليس آخراً، سياسات الدولة وإجراءاتها. فالإنفاق الاستثماري غالباً ما يتأثر بعوامل خاصة تنطلق من توقعات المستثمر وترقباته مع أنها قد تكون نفسية بحتة وغير قائمة على أسس موضوعية. فالتبدل في الحالة النفسية وفي توقعات المستثمر الواحد أو مجموعة من المستثمرين، حتى عندما يكون ذلك قائماً على أسس خاطئة كإشاعة مثلاً، قد ينتشر ويعم السوق أحياناً ويؤثر سلباً أو إيجاباً في عملية الاستثمار برمتها وفي وضع الإنتاج العام. ويتأثر الاستثمار أيضاً بالتطورات التقنية وبالابتكارات الجديدة إذ تؤدي غالباً إلى ووفرٍ في عناصر الإنتاج أو إلى توسيع في آفاق العمل أمام المستثمرين أو تقود إلى خلق حوافز ربح جديدة. ثم إن الاستثمار يعتمد أيضاً على مواقف الدولة وإجراءاتها سواء أكان ذلك على صعيد سياستها المالية أم النقدية أم الجمركية أم الإدارية بما في ذلك درجة التسهيلات والدعم والحماية التي قد توفرها الدولة أو قد تحجبها. وأخيراً، يتأثر الاستثمار بنشاطات مؤسسات التمويل وبفعالية الأقنية التي تنتقل من خلالها الادخارات لتمويل الاستثمار. بيد أن أهم العوامل المؤثرة في حجم الاستثمار هو مستوى الدخل العام. إذ هناك علاقة ارتباط مباشرة وراسخة بين الدخل والاستثمار ينتج عنها أنه إذا حصلت أي زيادة في الاستثمار من أجل توسيع الطاقة الإنتاجية القائمة يكون ذلك نتيجة لتغير في معدل الإنتاج وبصورة مستقلة عن المستوى المطلق للإنتاج العام، وبغض النظر عن كون هذا المستوى القائم كبيراً أو محدوداً، وعليه فإن عملية الانتقال من مستوى إنتاج عام إلى مستوى آخر أعلى منه يتطلب زيادة في الإنفاق الاستثماري الهادف إلى توسيع الطاقة الإنتاجية القائمة.. ذلك كله لأن حجم الاستثمار متعلق بمستوى الدخل عن طريق الفائض الإنتاجي المتاح للاستثمار، فالزيادة في الدخل تعني زيادة في هذا الفائض، الأمر الذي يؤدي إلى زيادة في الاستثمار، ولأن الزيادة التي تحصل في الفائض (أو الربح) تدفع الجهة المستثمرة لأن تتوقع مزيداً واستمراراً في تدفق هذا الفائض، كما أن الزيادة في الفائض تعطي المستثمر قدرة أكبر على التمويل الذاتي[ر] الذي يؤدي تكاثره إلى استمرار في تطوير الطاقة الإنتاجية. وتنشأ من هذا السياق الظاهرة المعروفة في الاستثمار «بمبدأ المسرّع أو المعجل» acceleration principle الذي تتحدد بموجبه العلاقة بين نسبة التغير في مستوى الدخل أو الإنتاج العام ومعدل الإنفاق الاستثماري، إذ إن التغير (زيادة كان أو نقصاناً) في مستوى الدخل أو الإنتاج العام يؤدي إلى تغير موازٍ في معدل الإنفاق الاستثماري. ولما كان إنفاق الدخل يتم إما على الاستهلاك وإما على الادخار (الذي يفترض أن يتحول مباشرة إلى استثمار) فإن ما لا يتم استهلاكه من الدخل في مدة زمنية معينة يكون مهيأ للاستثمار. فإذا ما جرى إنفاقه على بناء مصنع جديد مثلاً، فإن هذا الإنفاق الأولي يطلق سلسلة إنفاقات لاحقة متداخلة. فهو يزيد أولاً دخل عمال البناء الذين يزيدون إنفاقهم على المشتريات من تجار المفرق، وهؤلاء يقومون بزيادة إنفاقهم على المشتريات من تجار الجملة الذين يبادرون إلى زيادة حجم طلباتهم من المصانع التي تتفاعل وتزيد إنتاجها لتلبية طلباتهم فتتوسع وتزيد عدد عمالها وغير ذلك، وهذا ما يرفع حجم كتلة الأجور ويولد مزيداً من الطلب الاستهلاكي ومن الإنفاق الاستثماري المقابل فيستمر الدخل العام بالتزايد. وإن هذه الصورة هي بمثابة تشبيه للحركة المتتابعة التي تتولد عن الإنفاق الاستثماري الأصلي والتي تؤلف ظاهرة أخرى من ظواهر الاستثمار معروفة «بمضاعف الاستثمار» investment multiplier. إذ إن الزيادة في الإنفاق الاستثماري لا تزيد مجمل الدخل العام بمقدار يساوي حجمها فقط، بل عدة أضعاف ذلك. ومع أن القوى الناتجة عن «المسرع» و«المضاعف» تنطلق من اتجاهين مختلفين فإنها تتفاعل وتصب في ملتقى واحد، فتولد حركة متعاظمة تؤدي إلى تسارع في نمو الدخل القومي. فزيادة الإنفاق الاستثماري تزيد الدخل القومي بوجه مضاعف كما أن زيادة الدخل القومي تقود إلى الزيادة في الاستثمارات (إذا تلاءمت المعطيات والمتغيرات الاقتصادية الأخرى) والعكس صحيح أيضاً. إذ إن تقليص الاستثمار يؤدي إلى تباطؤ في الحركة الاقتصادية وتراجع في الدخل القومي كما أن التناقص في الدخل يقود إلى تدن في حجم الاستثمار. ولا بد من الإشارة إلى أن آثار الزيادة التي تتركها حركة الاستثمار الواحدة على الاقتصاد القومي تتلاشى مع انتهاء مدة زمنية معينة، ولاسيما إذا لم يجر في الوقت نفسه حركة إيجابية في بقية المعطيات والمتغيرات الاقتصادية المؤثرة في عناصر الإنتاج وفي الموارد والطاقات الإنتاجية بوجه عام، أي في الحالة النظرية «الساكنة». إلا أنه في الواقع وفي المنظور الزمني الأطول أي في «الحالة الديناميكية» حيث تكون المعطيات الاقتصادية في حالة تغير مستمر يؤثر بعضها في بعض، فإنه يصبح للاستثمار حينئذ قوة متشعبة ذات حركة تصاعدية تؤدي إلى تزايد في الدخل القومي مع مرور الزمن. بيد أن هذا التزايد لا يكون بالضرورة خالياً من التقلبات. الاستثمار والتقلبات الاقتصادية إن زيادة الإنفاق الاستثماري بنسب معينة (أو تناقصه) يؤدي إلى زيادات في الدخل القومي (أو تناقص) بنسب أكبر وفقاً لآثار «مضاعف الاستثمار» ثم إن الحركة تنمو نتيجة ترابط العلاقة بين «المسرع» و«المضاعف». لكن هناك تقلبات عامة في الحركة الاقتصادية مردها إلى أن الإنفاق الاستثماري لا يستمر بالتزايد على وتيرة واحدة في المدة الزمنية التي هي أطول لأسباب مختلفة وكثيرة منها ما هو نتيجة للمتغيرات الاقتصادية ومنها ما قد يعزى إلى تبدلات تقنية أو إلى تطورات ديموغرافية أو إلى تحولات اجتماعية أو إلى أسباب سياسية كآثار الحروب في الاستثمار مثلاً أو إلى عوامل طبيعية كتأثير المناخ في الاستثمار والدخل الزراعي وما لهذا من انعكاس على بقية القطاعات. ويكثر حدوث التقلبات الاقتصادية وتقوى حدتها في الدول ذات النظام الاقتصادي الحر أو الرأسمالي لأن اقتصاد تلك الدول يعتمد بصورة رئيسة على قوى السوق، في حين تكون التقلبات في الدول ذات الأنظمة الاقتصادية الموجهة تكون قليلة وتواجه بإجراءات أكثر صرامة من قبل حكوماتها إضافة إلى أن الأنظمة الموجهة تعتمد على التخطيط الاقتصادي والاجتماعي الذي يهدف إلى تحقيق نمو مستمر وخال من التقلبات. وتأخذ التقلبات الاقتصادية في الدول الرأسمالية نمطاً دورياً معيناً، وأحياناً تتصف حركتها بالسرعة والحدة وتعم آثارها السلبية وينجم عنها أضرار اقتصادية واجتماعية واسعة كما حصل في أثناء الكساد الاقتصادي الكبير والشهير الذي ابتدأ عام 1929 والذي وصلت نسبة البطالة في أثنائه في الولايات المتحدة إلى 25% من مجموع القوى العاملة فيها. وتشير الشواهد الإحصائية إلى تعاقب الدورات الاقتصادية[ر. الأزمات والدورات الاقتصادية] في الدولة الرأسمالية في القرنين الماضيين على نحو منتظم تقريباً، وقد لوحظ أن الدورة الاقتصادية العادية في الولايات المتحدة مثلاً تتطلب من ثلاث إلى خمس سنوات لتأخذ مداها، وهنالك دورات أخرى أطول أمداً. وتتصف التقلبات بزيادة شبه متماثلة في سرعة حركة كل الفعاليات الاقتصادية سواء أكان ذلك في كسب الدخل أو إنفاقه أو في الإنتاج السلعي عامة أو في تشغيل القوى العاملة أو في المبادلات التجارية كافة، ويواكب كل ذلك ارتفاع في المعدلات العامة للأسعار، إلا أنه بعد نقطة معينة ينقلب الأمر وتبدأ الحركة بالتباطؤ محدثة تقلصاً عاماً مشابهاً في جميع المجالات. وأحياناً يتلاحق التوسع والتقلص بقدر من الانتظام الزمني وبوجه انسيابي وهي حالة تعرف «بالدورات». فالرابطة بين الاستثمار والإنتاج العام لها علاقة تتصف بأثر تصعيدي بفعل أثر «المضاعف»، كما سبقت الإشارة. إذ إن زيادة الدخل تؤدي إلى زيادة الإنفاق الاستهلاكي وإلى زيادة في المبيعات التي تقود إلى مزيد من الإنتاج. وعند وجود نسبة من البطالة فإن ذلك يخلق فرصاً جديدة للتشغيل، الأمر الذي يؤدي إلى خلق دخول جديدة ومزيد من الاستهلاك الذي يقابل بزيادة في الإنتاج من خلال زيادة الاستثمار. وهذه الحركة ليست الوحيدة. بل هناك حركة موازية أقوى تنطلق من زيادة الاستثمار بهدف دعم حجم المخزون الاستثماري من آلات وأصول منتجة، وتلجأ الشركات إلى المؤونات التي اقتطعتها سابقاً من الأرباح لزيادة توسعاتها هذه كما تلجأ إلى الأسواق المالية لطرح أسهم جديدة، مما يحفز الأفراد على الادخار والاستثمار فيها. وبنتيجة اشتداد التنافس بين الشركات تنخفض نسب أرباحها فينخفض حافز الربح لدى المستثمرين من جهة وترتفع مخاطر الاستثمار من جهة أخرى فيتقلص إنتاج السلع المعمرة والأصول المنتجة ويتباطأ نمو الدخل من جديد. وإذا كان هذا هو الحال بوجهه المبسط، فإن هنالك جملة عوامل متداخلة مشابهة تغذي التقلبات الاقتصادية داخل البلد المعني. وإضافة إلى ما تقدم، لا بد من الإشارة إلى أن عوامل السوق العالمية وأوضاع التجارة الخارجية والتنافس بين الدول المختلفة تؤدي إلى تقلبات داخلية في الكثير من الدول، ولاسيما تلك التي يتصف اقتصادها باعتماده الكبير إما على الاستيراد أو على التصدير. ومن الجدير ذكره أن السلطات الاقتصادية في أي بلد تحاول جاهدة تخفيف آثار التقلبات الاقتصادية إما بوساطة التخطيط الدقيق أو عن طريق السياسات النقدية والمالية والضريبية الملائمة أو الأنظمة الإجرائية الفعالة، وذلك وفقاً لطبيعة النظام الاقتصادي القائم في البلد المعني. الاستثمار في الجمهورية العربية السورية إن للاستثمار في سورية أصالة وتاريخاً عريقاً جداً تعود شواهده إلى بضعة آلاف من السنين. فالتكوين الرأسمالي أو بناء الأصول الثابتة هو سمة من السمات القديمة لسكان سورية تلازمت في مراحل معينة مع مبادرات فردية خلاقة وفعالة، الأمر الذي أفسح في المجال لبناء أمجاد حضارية شامخة في الأزمنة القديمة والحديثة. وعلى أثر التحول الاشتراكي الذي شهده القطر أوائل الستينات أصبح القطاع العام القطاع الرئيس في الاقتصاد القومي وباتت معظم عملية تكوين الأصول الثابتة تتم فيه. بيد أنه أبقى للقطاع الخاص فعاليات كثيرة. وبرز قطاع مشترك توزعت ملكيته بين الدولة والأفراد، ونشط القطاع التعاوني الذي تعود بداياته إلى ما يزيد على نصف قرن. وتقوم الدولة اليوم بإدارة الاقتصاد العام وضبط مساره عن طريق أجهزتها ومؤسساتها المختلفة ضمن هيكل من التشريعات والأنظمة النافذة التي يجري تطويرها باستمرار والتي تغلب عليها صفة التوجيه الاقتصادي. وتقوم الدولة ببرمجة الاستثمارات العامة باعتماد «خطط خمسية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية» وقد بلغت الاستثمارات العامة في الخطة الخمسية الخامسة (1981 - 1985) ما نسبته 79.6% من مجمل استثمارات سورية، في حين بلغت نسبة استثمارات القطاع الخاص والتعاوني والمشترك 20.4%. وقد حوفظ على النسب نفسها في الخطة الخمسية السادسة. ويحتل قطاع الزراعة والري المكانة الأولى في تكوينات الأصول الثابتة في القطاع العام ويليه قطاع المرافق العامة ثم القطاع الصناعي. أما فيما يتعلق بالقطاع الخاص والتعاوني فمعظم استثماراته تتم في القطاع العقاري أولاً ثم قطاع الزراعة الإنتاجية والصناعات التحويلية والخدمات المختلفة. ومع أن القطاع المشترك كان ناشطاً في السياحة منذ أواسط السبعينات، فإنه دخل في مجال الزراعة للإنتاج النباتي والحيواني بعد صدور المرسوم التشريعي ذي الرقم (10) لعام 1986 الذي أجاز له ذلك. ومع أن اهتمام الدولة متجه في الدرجة الأولى نحو إرساء القطاع العام، فثمة تسهيلات كثيرة لتشجيع الاستثمار في القطاعات الأخرى. إذ تمنح الدولة إعفاءات ضريبية للمشروعات الخاصة الجديدة، الصناعية منها، والسياحية والخدمية، إضافة إلى أن معظم الإنتاج الزراعي معفى من الضرائب أيضاً. كذلك تقوم الدولة برعاية الإنتاج المحلي وحمايته من منافسة السلع الأجنبية البديلة عن طريق أنظمة التجارة الخارجية التي تحد من الاستيراد. ثم إن الدولة تعطي الجمعيات التعاونية مزايا كثيرة منها إعفاءات ضريبية متنوعة وإعانات مالية ومادية واستثناءات تشجيعية. وإن الدولة توفر للقطاعات الثلاثة: الخاص والتعاوني والمشترك، خدمات مصرفية كثيرة منها القروض المتنوعة والتسهيلات الائتمانية من خلال عدد من المصارف المتخصصة التي تملكها. فهناك مصرف زراعي ومصرف صناعي ومصرف عقاري ومصرف تجاري ومصرف للتسليف الشعبي توفر قروضاً للقطاع الحرفي ولأصحاب المهن. وإن القطاع المصرفي الذي يتطور ويتوسع بصورة مستمرة هو القناة الرئيسة التي تتحول من خلالها الادخارات الخاصة إلى استثمارات منتجة. أما القطاع العام، فبالإضافة إلى استفادته من الخدمات المصرفية، فإنه يتمول ذاتياً أو عن طريق خطط الدولة وميزانيتها العامة. وإن الدولة جادة في تذليل معوقات الاستثمار وفي دعم مسيرة التنمية الاقتصادية المستقرة والمستمرة وأصدرت لهذا الغرض قانون الاستثمار الصادر بالقانون رقم 10 تاريخ 4/5/1991، الذي يهيئ الفرصة والمناخ الملائمين للمستثمرين السوريين والعرب والأجانب للقيام باستثماراتهم على أسس واضحة ويضمن لهم إعفاءات ضريبية لمدة سبع سنوات من تاريخ وضع مشروعاتهم في الإنتاج، إضافة إلى تسهيلات أخرى من حيث أنظمة الاستيراد والتصدير وكذلك تحويل أرباحهم إلى الخارج.
لا يوجد صور مرفقة
|