ْالحكم الذاتي (autonomy = self government) صيغة سياسية وقانونية، يكون فيها الحكم منتقصاً لجهة السيادة، في إطار إقليم وتجمع سكاني معين. والحكومات التي تمارس الحكم الذاتي تكون ذات صلاحيات مقيدة. سواءً أكان هذا التقييد يعود لسبب خارجي عنها، مثل هيمنة دولة على كيان سياسي، أم بسبب تبعيتها لسلطة مركزية، في إطار اتفاق قانوني ودستوري، يحدد اختصاصات الحكومة ويحوز رضا السلطة المركزية.
وقد استخدمت هذه الصيغة، كأحد الحلول السياسية لأوضاع بعض شعوب المستعمرات، أو كحل عملي لبعض الحالات، إذ تراعى أوضاع الشعوب أو الأقليات ذات الأصول الثقافية والحضارية المتميزة في الدول الاتحادية.
ويحمل هذا المصطلح مدلولاً متبايناً، فبينما يعني في نظر القانون الدولي، أن يمارس شعب ما حكماً ناقص السيادة في ظل سلطة استعمارية تتحكم بالسيادة والعلاقات الخارجية، فهو من وجهة نظر القانون الدستوري يعني، أن يمارس شعب ما، إدارة شؤونه الذاتية على إقليمه، في ظل الدولة الاتحادية(الفيدرالية)، التي تتمتع بالسيادة والشخصية الدولية الواحدة.
ويعد مصطلح الحكم الذاتي، أحد مفرزات المرحلة الاستعمارية، التي قادها فكر المركزية الأوربية، المؤسس على نزعتي «التفوق العنصري»، ورسالة «الرجل الأبيض»، والذي قدم المسوغات لتبرير احتلاله الاستعماري، بالاستناد إلى ذرائع حضارية، مفادها أن تقدمه الحضاري يفضي إلى نقل الشعوب المتخلفة إلى مرحلة التقدم. وقد اتخذت السيطرة الاستعمارية أشكالاً مختلفة ومتطورة، وفق المراحل التي آلت إليها الصراعات بين القوى الاستعمارية ذاتها، من جهة، وبين كفاح الشعوب للتحرر من هيمنتها من جهة أخرى، وتبلورت نظم السيطرة الاستعمارية في أشكال الحماية[ر]، والتبعية[ر]، والانتداب[ر]، والوصاية[ر]، وهي جميعها نظم تصادر السيادة الخارجية للإقليم المستعمَر، وتُفقده شخصيته الدولية بدرجات مع اختلاف في نظم إدارة الشؤون الداخلية لهذه المستعمرات.
الحكم الذاتي في القانون الدولي:
بعد الحرب العالمية الثانية، أنشأت دول الحلفاء المنتصرة، هيئة الأمم المتحدة وبديلاً لعصبة الأمم. وفي إطار معالجتها لشؤون الأقاليم المستعمرة من قبلها، أو الأقاليم التي كانت تخضع لاستعمار الدول المهزومة (ألمانيا، إيطاليا). برز مصطلح الحكم الذاتي بوضوح، إذ أصبح هدف ومسؤوليات الدول الاستعمارية، تأهيل شعوب المستعمرات للحكم الذاتي. ولهذه الغاية فقد استحدثت الأمم المتحدة نظام الأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي[ر].
الحكم الذاتي من وجهة نظر القانون الدستوري:
استقر فقه القانون الدستوري، بصدد الحكم الذاتي على أن الدويلات (الولايات) الأعضاء في الدولة الاتحادية، تحتفظ بنوع من الاستقلال في إدارة شؤونها، فلها دستورها، وهيئاتها التشريعية والتنفيذية والقضائية الخاصة بها. وتملك تعديلها ضمن الحدود المقررة في الدستور الاتحادي. وقد تعددت نماذج الدول الاتحادية في العصر الحديث. كما في الولايات المتحدة التي تضم 50 ولاية يتمتع كل منها باستقلال ذاتي كامل. وتملك دستورها الخاص، ولها هيئاتها التشريعية والتنفيذية والقضائية، بما لا يتعارض مع الدستور الاتحادي. كذلك الهند وسويسرا وكندا. ويتجاوز عدد الدول الاتحادية التي يبرز في ولاياتها الحكم الذاتي ثلاثين دولة وهي في تزايد مستمر. وكان دستور الاتحاد السوڤييتي السابق، يمثل نموذجاً للدولة الاتحادية التي تتمتع فيها الدويلات الأعضاء بالحكم الذاتي ذي الطابع السياسي والدستوري. وكانت الدولة الاتحادية تتألف من 15 جمهورية مستقلة، ولكل منها دستورها، وهيئاتها التشريعية والتنفيذية والقضائية، كما لها الحق بسن القوانين في المسائل التي لا تعدّ من اختصاص الدولة المركزية.
وبجانب الجمهوريات، هناك جمهوريات ذات استقلال ذاتي وعددها تسع عشرة، تحتفظ بتقاليدها ومدارسها وثقافتها ولغتها الأصلية، كما توجد أقاليم مستقلة استقلالاً ذاتياً ضمن الجمهوريات تحت تأثير عوامل ثقافية واقتصادية.ويتخذ أسلوب توزيع الاختصاصات والصلاحيات بين السلطة المركزية الاتحادية والدويلات الأعضاء التي تمارس الحكم الذاتي أحد أسلوبين:
أحدهما: أن يحدد الدستور الاتحادي على سبيل الحصر الشؤون التي تدخل في اختصاص السلطات المركزية، ويترك ما عداها لاختصاص الدول الأعضاء. وبذلك يعد اختصاص الاتحاد هو الاستثناء، والأصل هو اختصاص الدويلات، وهذا الأسلوب جرى تطبيقه في الولايات المتحدة والاتحاد السوڤييتي وسويسرا.
ثانيهما: أن يحدد الدستور الاتحادي الشؤون التي تخضع لاختصاص الدويلات التي تمارس الحكم الذاتي، ويبقى ما عداها من اختصاص الدولة الاتحادية. وبهذا النموذج، يصبح اختصاص الاتحاد هو الأصل واختصاص الدويلات هو الاستثناء، وبموجب دساتير الدول الاتحادية تكون مواطنة الفرد عائدة للدول الاتحادية.
التمييز بين اللامركزية الإدارية والحكم الذاتي والدولة الاتحادية
تختلف ممارسات التنظيم السياسي لسلطات الدولة في المجتمع، باختلاف التركيب الهيكلي لشكل الدولة، سواءً كانت دولة بسيطة ذات نظام إداري لا مركزي، أو دولة اتحادية مؤلفة من اتحاد عدة دويلات تمارس استقلالاً وحكماً ذاتياً، في إطار شخصية دولية واحدة. ويتميز الحكم الذاتي هذا عن اللامركزية الإدارية بأمور جوهرية أهمها:
1- الوحدات الإدارية المستقلة في الدول البسيطة التي تتبع نظام اللامركزية الإدارية في شؤونها الداخلية. تقوم على أساس وحدة التشريع في جميع أجزائها مهما تعددت هذه الوحدات أما الحكم الذاتي في الدويلات الاتحادية فتتعدد فيها التشريعات، إذا رن لكل منها هيئتها التشريعية وقوانينها الخاصة.
2- لكل دويلة عضو في الاتحاد، دستور خاص بها، أي إنها تتمتع بسلطة ذاتية واستقلال دستوري يختلف في مدى الصلاحيات بين دولة وأخرى، ويترتب على ذلك أن الدويلة تتمتع بسلطات مستقلة ليس في مجال الإدارة فحسب، كما في نظام اللامركزية الإدارية، بل في مجال التشريع والقضاء، ولا تملك السلطة الاتحادية تقييد اختصاص الدويلة العضو أو إلغاءه إلا بتعديل الدستور الاتحادي الذي تشترك فيه الدويلات.
3- تنفرد الدويلات باختصاصات، اختصها بها الدستور الاتحادي، وتمارس هذه الاختصاصات من دون أي رقابة من السلطة الاتحادية، أما الوحدات الإدارية اللامركزية، فإنها تخضع لرقابة السلطة المركزية.
وتتعدد صور الحكم الذاتي، تبعاً لمدى الصلاحيات الممنوحة لسلطاته. فحين تتوسع وتشمل صلاحيات دستورية وتشريعية وقضائية، وتتمتع بنوع من الاستقلال في إدارة شؤونها الداخلية وممارسة جزء من السيادة الخارجية الذي يعدّ نوعاً من أعمال السيادة. يمكن تسميته حكماً ذاتياً أو استقلالاً ذاتياً سياسياً، أما حين تتقلص الصلاحيات وتقتصر على الطابع التنفيذي والإداري مع بعض الصلاحيات التشريعية المحدودة، فإنه يسمى حكماً ذاتياً إدارياً، يقترب من اللامركزية الإدارية في الدول البسيطة مع بعض التوسع.
الحكم الذاتي الفلسطيني
قدمت اتفاقية أوسلو الموقعة بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل في 13/9/1993م، وملحقاتها، نموذجاً لصورة الحكم الذاتي الإداري وحلاً مرحلياً في إطار السعي لاتفاق نهائي حول القضية الفلسطينية. وقد اختزل مصطلح الحكم الذاتي، قضية صراع مصيري بين الأمة العربية والصهيونية العالمية، ذات بُعد تاريخي وقومي.
وفقاً لهذه الاتفاقية، ولاسيما المادة 6 فقرة 2. نَقَل الاحتلال الإسرائيلي إلى سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني، الصلاحيات في المجالات الآتية: التعليم والثقافة والصحة والشؤون الاجتماعية والضرائب المباشرة والسياحة، على رقعة محدودة من الأرض تشمل قطاع غزة وأريحا. والأراضي التي قد تعيد قوات الاحتلال انتشارها فيها مستقبلاً. فالصلاحيات الممنوحة ذات طابع تنفيذي وإداري تتعلق بقطاعات خدمية، وعلى رقعة محدودة من الأرض الفلسطينية.
وقد أضحت المادة 5 من اتفاق القاهرة الملحق بأوسلو لعام 1994. تلك الصلاحيات كما يأتي:
1- تشمل صلاحيات السلطة الفلسطينية كل الشؤون التي تدخل في نطاق اختصاصها الإقليمي والوظيفي والشخصي.
وقد حددت المادة ذاتها، أن الاختصاص الإقليمي يشمل قطاع غزة ومنطقة أريحا. باستثناء المستوطنات ومنطقة المنشآت العسكرية، ويستثنى من الولاية على الأشخاص الإسرائيليون في المنطقة الخاضعة للحكم الذاتي.
2- تخول السلطة الفلسطينية في حدود صلاحياتها سلطات ومسؤوليات قانونية واشتراعية وتنفيذية وقضائية.
وقد قيدت المادة 6 من الاتفاقية ذاتها، حدود صلاحيات السلطة وفق ما يأتي: «لا يكون للسلطة الفلسطينية أية صلاحيات أو مسؤوليات في مجال العلاقات الخارجية الذي يتضمن فتح سفارات أو قنصليات.. أو ممارسة وظائف دبلوماسية».
وقد أقرت الاتفاقية، باستمرار تولي إسرائيل مسؤولية الدفاع والأمن. وذلك كما ورد في المادة 8 من اتفاقية القاهرة المشار إليها إذ جاء أن «تنشئ السلطة الفلسطينية شرطة فلسطينية قوية .. لضمان النظام العام والأمن الداخلي الفلسطيني في قطاع غزة وأريحا.. وتستمر إسرائيل في الاضطلاع بمسؤوليات الدفاع ضد التهديدات الخارجية بما فيها المسؤولية عن حماية الحدود المصرية، وخط الهدنة الأردني والدفاع في مواجهة التهديدات الخارجية من البحر والجو …».
من الواضح أن الحكم الذاتي الفلسطيني ينطوي على الملامح الآتية:
1- يقتصر على ممارسة بعض الصلاحيات المحدودة، من الناحية الإقليمية والوظيفية. وهي صلاحيات ذات طابع تنفيذي، تفتقر إلى الصلاحيات الدستورية أو التشريعية أو الأعمال التي تعد من أعمال السيادة.
2- لم يصل الحكم الذاتي الفلسطيني، إلى مرحلة الدولة ناقصة السيادة. لأن مثل هذه الدولة تبسط سلطتها على إقليم محدد المعالم والحدود، ويعترف لها القانون الدولي ببعض الحقوق والواجبات وهذا لا يتوافر للسلطة الفلسطينية، التي بسطت سلطتها على جزء من الشعب الفلسطيني.
وقبلت أن تضع حقها بالأرض الفلسطينية، موضع تنازع ومفاوضات مع الاحتلال الإسرائيلي. علماً بأن الاتفاقيات المتتالية التي تنظم الحكم الذاتي اكتسبت صفة المعاهدات الدولية وهذه لا تتم إلا بين أشخاص القانون الدولي مما يثير تساؤلاً عن المركز القانوني للسلطة الفلسطينية في أراضي الحكم الذاتي.
3- إذا كان الحكم الذاتي، وفق ما استقر عليه فقه القانون الدولي العام، يفضي إلى حق تقرير المصير والاستقلال في دولة ذات(إقليم وشعب وتنظيم سياسي) معترف بها دولياً، فإن الحكم الذاتي الفلسطيني، غير واضح المعالم، ويغرق في المجهول، في أثناء مباحثات الوضع الدائم، الذي لم تشر الاتفاقات جميعها إلى دلالات محددة، حول أهداف المفاوضات فيما يتعلق بالقدس واللاجئين، والمستوطنات، والترتيبات الأمنية، والحدود، والأرض.
بل إن المعطيات والمؤشرات جميعها تفضي إلى أن ما قد ينبثق عن المفاوضات بين طرفين. أحدهما قوي ويمتلك كل أوراق الضغط، وطرف ضعيف لا يملك أي قوة ضغط فعلية - سوف تنتهي إلى التفريط بالسيادة و حق تقرير المصير والاستقلال والدولة، ولاسيما أن المفاوضات تجري خارج إطار الأمم المتحدة والمواثيق الدولية، ورعاية أمريكية فعلية. ولسوف يصبح حق تقرير المصير والحقوق القومية والتاريخية للشعب الفلسطيني، خاضعة لإرادة المحتل وما يمنحه لاحقاً.