التوقيت الزمني للزيارة يعكس مدى أهميتها، وقد جاءت بعد سلسلة من التحركات الإقليمية، أهمها التطبيع ومصالحات إردوغان.
حملت زيارة الأسد في طياتها عدداً من الرسائل الواضحة إلى من يهمه الأمر، وخصوصاً أنظمة الخليج.
ليس من الضروري الدخول مسبّقاً في تفاصيل المرحلة المقبلة، فكلام المرشد الإيراني، آية الله علي خامنئي، خلال استقباله الرئيس السوري بشار الأسد، يعكس بوضوح مضامين المباحثات التي أجراها الطرفان بحضور الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، إذ قال خامنئي إن "قادة بعض دول جوار إيران وسوريا، يجلسون ويقفون مع قادة الكيان الصهيوني، ويشربون القهوة معاً".
وكان ردّ الرئيس الأسد بدوره كافياً، إذ وصف، بصورة دقيقة وواقعية، المضمون والآفاق للتحالف الاستراتيجي بين البلدين، بحيث قال "إن ما يمنع الكيان الصهيوني من السيطرة على المنطقة هو العلاقات الاستراتيجية الإيرانية - السورية".
التوقيت الزمني للزيارة يعكس بدوره مدى أهميتها، وجاءت بعد سلسلة من التحركات الإقليمية، أهمها التطبيع العربي مع "تل أبيب"، ومصالحات إردوغان مع الإمارات و"إسرائيل" والسعودية، وقريباً مع مصر، وهي جميعاً معادية لسوريا وإيران، في درجات متفاوتة ولحسابات متباينة.
وتزامنت الزيارة أيضاً مع الضجة في تركيا، إعلامياً وسياسياً، فيما يتعلق بوضع اللاجئين السوريين، الذين قال عنهم إردوغان، في آخر تصريح متناقض له (الإثنين): "لن نرسلهم إلى سوريا إلّا برضاهم، ولن نُلقيهم بين أيادي القتلة وأحضانهم، وسنستمرّ في حمايتهم هنا وفي سوريا، وسنبقى هناك (في سوريا)".
تصريحات إردوغان هذه عدّها المراقبون "تحدياً منه للمعارضة في الداخل، وللأعداء في الخارج"، وفي مقدمتهم روسيا وسوريا وإيران، على اعتبار أنه لا يريد حل الأزمة السورية، في كل تبعاتها الداخلية والخارجية، وهو يُصرّ على أن يكون صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في تقرير مصيرها، كذلك في تقرير مصير مياه دجلة والفرات، التي يبدو أنها ستكون قضية المرحلة المقبلة، بعد تعبير الوزير الإيراني حسين أمير عبد اللهيان عن قلقه وقلق العراق من بناء السدود التركية على النهرين المذكورين.
فإردوغان يعرف جيداً أن موسكو منشغلة بالحرب في أوكرانيا، وأنها لن تستطيع التصعيد ضده في سوريا، بعد أن أغلق المضائق أمام السفن الحربية الروسية وهي في طريقها إلى سوريا، كما أغلق المجال الجوي التركي أمام الطائرات التي تنقل المعدات والعساكر إلى سوريا. ويرى إردوغان أيضاً في التوتر الإسرائيلي مع موسكو فرصته في الاتفاق مع "تل أبيب" على "القواسم المشتركة"، ليس فقط ضد موسكو، بل أيضاً ضد حليفتيها، إيران وسوريا، معاً. وإلّا فلماذا ضحّى إردوغان بـ"حماس" والإخوان المسلمين من أجل "إسرائيل" ومصر، التي هو على وشك المصالحة معها، بعد الاتفاق معها على مجموعة من التفاصيل الخاصة بالوضع في ليبيا، وعلى حساب الوجود الروسي هناك؟
تشجع واشنطن وبرلين وباريس ولندن على مثل هذه الحسابات، ما دامت تريد للغاز والبترول، بل حتى للطاقة الشمسية الليبية، أن تصل إلى أوروبا بأمان، كبديل للغاز والبترول الروسيين. ونجح الرئيس بوتين في استغلال هذا الملف في حربَيه الاقتصادية والنفسية ضد أعدائه في أوروبا، الأمر الذي أدى إلى خلل جدي في البيت الأوروبي بسبب اعتراض عدد من الدول الأوروبية على العقوبات الأميركية والأوروبية ضد روسيا، وهو ما انعكس على اقتصادات دول اوروبا بصورة أخطر.
هذه المعطيات والتطورات المحتملة قبل القمة الإسرائيلية – العربية وخلالها وبعدها، والتي يخطط لها الرئيس الأميركي جو بايدن الشهر المقبل، يبدو واضحاً أنها كانت سبباً مهماً في قرار الرئيس الأسد زيارة طهران بصورة مفاجئة، من أجل الاتفاق معها على مزيد من علاقات التحالف الاستراتيجي. ويفسّر ذلك قلق إيهود باراك وأمثاله من "النهاية الحتمية المحتملة لـ"دولة" إسرائيل قبل الاحتفال بالذكرى الثمانين لقيامها". وهو ما يعني انتقال الثنائي السوري - الإيراني من حالة الدفاع إلى موقع الهجوم ضد أيّ تحالفات إقليمية ودولية جديدة تستهدفهما، كما تستهدف لبنان واليمن والمقاومة الفلسطينية. وكل ذلك بدعم روسي غير معلَن بعد الفتور والتوتر في العلاقات بـ"تل ابيب" وأنقرة، اللتين تخدمان معاً واشنطن ولندن، بصورة مباشرة وغير مباشرة.
بمعنى آخر، حملت زيارة الأسد في طياتها عدداً من الرسائل الواضحة إلى من يهمه الأمر، وخصوصاً أنظمة الخليج، المعروفة بمواقفها المتناقضة بشأن علاقاتها بواشنطن وموسكو. فزيارة الأسد سبقت الزيارة، التي من المتوقع أن يقوم بها أمير قطر تميم آل ثاني لطهران، لينقل منها الرسائل الإيرانية (والسورية) إلى كل من باريس ولندن، اللتين سيزورهما بعد طهران، من دون أن يُهمل الاتصال بحليفه الاستراتيجي إردوغان، الذي وجد لنفسه حليفين جديدين (الإمارات و"إسرائيل") سيغار منهما تميم من دون شكّ. هذا بالطبع إن لم يكن لكل منهم دوره المعروف في السيناريو الأميركي، الذي بات يصطدم بصمود الثنائي السوري - الإيراني، والذي أثبت أخيراً أنه أكثر قوة بعد ثورة الشبّان الفلسطينيِّين، وصعود تيار المقاومة في لبنان، وصمود الشعب اليمني، وبعد فشل المشروع الأميركي - الإسرائيلي قريباً في أفغانستان، وهو مشروع مدعوم من الإمارات والسعودية وتركيا.
لا تعني كل هذه المعطيات أن الثنائي السوري - الإيراني لا يريد السلام والاستقرار إذا سعت من أجلهما الأطراف الأخرى بناءً على نيّات صادقة، وهو ما يفسر إصرار طهران على الحوار مع الرياض عبر الوسيطين العراقي والعُماني، وما سينتج منه من زيارة محتملة سيقوم بها الرئيس الإيراني لدولة خليجية، قد تكون الإمارات أو السعودية، وهي الخطوة التي ستشكّل المفاجَأة الأكبر بالنسبة إلى الجميع، وحينها سيرون "أي منقلب سينقلبون". وإلّا فالمواجهة ستكون حتمية وشاملة، وهذه المرة بوجود إيراني أكثر فعالية وقوة وتأثيراً في سوريا، مهما تكن التهديدات الإسرائيلية، التي قد يكون الرد السوري عليها أكثر فعالية بضوء أخضر روسي ما دامت موسكو في حاجة إلى دمشق في حربها الكونية ضد الحلف الأطلسي ومن معه إقليمياً ودولياً. وسيجعل ذلك من البحر الأبيض المتوسط ساحة استراتيجية بالنسبة إلى الروس، وسيكونون في حاجة إلى كل من سوريا وحزب الله في لبنان، من دون أن يتجاهلوا الساحة العراقية. ولإيران في جميع هذه الساحات دور وثقل ووجود، لا يمكن لأحد أن يتجاهلها، أو يتجاهل "أنصار الله"، حرّاس باب المندب.
قد يجعل كل ذلك من إيران حليفاً استراتيجياً لروسيا، والفضل في ذلك يعود إلى سوريا، بعد أن كانت تشكّل ساحة مفترضة للمنافسة بين الروس والإيرانيين، كما كان يراهن البعض. وأثبت الرئيس إبراهيم رئيسي سطحية هذا الرهان من خلال الزيارة الاستراتيجية التي قام بها لموسكو في الـ 19 من كانون الثاني/يناير الماضي. وكان ذلك قبل شهر من الحرب الأوكرانية التي غيّرت قواعد اللعبة السياسية عالمياً، والأهم إقليمياً، وهذه المرة لمصلحة قوى الخير والسلام. وما على هذه القوى، في هذه الحالة، إلّا أن تُتقن فنون كل اللَّعِب، وأن تبقى يَقِظَةً ما دام الرياء والخداع والغدر من سمات معظم أطرافها، وما بقي التآمر حالةً جينية لدى هذه الأطراف!