نظَّر الكثيرون مع انهيار الاتحاد السوفييتي لسيطرة النيوليبرالية على باقي الأيديولوجيات السائدة آنذاك، بل اعتبرت الوحيدة القادرة على الإتيان بسعادة البشر، لكن أمراً ما كان يحاك سراً وعلناً حول يقظة أيديولوجيات ليست بالضرورة جديدة، وإنما بعضها انطلق من رحم النيوليبرالية وبيئتها المحببة. ومع انطلاق الألفية الثالثة كانت هناك قوى تتشكل لمواجهة القطبية الأمريكية الأحادية، وهذه المرة بأدوات ووسائل وأيديولوجية من نفس بيئة الليبرالية الجديدة، ويبدو أن كلاً من موسكو وبكين ومعهما حلفاء آخرين قادوا هذا الخيار.
طبعاً ليس ثمة مجال للمقارنة أو المقاربة بين العوالم الاقتصادية المنتشرة إبان الحرب الباردة، حيث كان الطغيان الاقتصادي واضحاً للمعسكر الرأسمالي وليبراليته الجديدة، ورغم ذلك استفاقت الصين على واقع أرادت تغييره، فاستحوذت على ما ساعدها في تزاوج نظامين متناقضين رأسمالي واشتراكي، وأثبتت براعة فائقة في تدبيج نظام فرض نفسه عالمياً دون صعوبات كما كان متوقعاً، حيث بدا هذا النظام جزءاً ومكوناً رئيساً من مكونات الليبرالية السائدة آنذاك.
في المقلب الآخر، كان حلف الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة، يعاود ترتيب تموضعه العالمي، إضافة إلى الأوروبي، وتحديداً في الخاصرة الروسية الرخوة في شرق أوروبا وشماله الغربي، ما اعتبرته موسكو تحدياً وجودياً قاتلاً، هذا العنوان العسكري الأمني كان يخفي وراءه حيزاً اقتصادياً لا حدود له، انطلاقاً من الواقع الصيني الذي اجتاح العالم دون مواجهة حقيقية، إلى جانب صحوة روسية لافتة، محاولة إعادة التموضع العالمي بنجاحات اقتصادية وازنة بعد خروجها من عباءة المؤسسات المالية الدولية، واعتماداً على قواعد إنتاجية صناعية لا ريعية، حينها بدأت بالتكتل في صور نمطية جديدة في النظام العالمي، واجهته التمرد على الهيمنة الأمريكية بأيديولوجية ليبرالية منافسة ولو بوسائل وطرق متباينة.
في المبدأ ليبرالية اعتمدت عصفاً ريعياً قام على أعمدة رأس المال العالمي كالشركات العابرة للدول، بأدواتها الريعية مثل الأسهم والحسابات الفلكية الورقية، والتي كانت بداية تداعياتها الأزمة المالية العالمية 2008، في مقابل أنموذج اقتصادي مدمج راعى لمحات اشتراكية مع تطوير نظم رأسمالية وازنة.
ومع الانتقال إلى النصف الثاني من العقد الأول في الألفية الجديدة، بدأت موسكو وبكين تتموضعان بقوة في مواجهة واشنطن إلى جانب دول أخرى أقل تأثيراً، ما دفع واشنطن إلى البحث عن وسائل مواجهة أكثر فعالية، فكان مشروع توسّع الأطلسي، الصدام الأول في جورجيا عبر اوسيتيا وأبخازيا.
ومن ثم شبه جزيرة القرم 2014 في أوكرانيا التي شكلت المواجهة المباشرة الأولى مع الغرب والولايات المتحدة.
قبل أيام بثت قناة روسية رسمية تقريراً مفاده، بأن ثمة صوراً تتشكل للانطلاق نحو حرب عالمية ثالثة عبر البوابة الأوكرانية، طبعاً التقرير ليس رسمياً ولا يعبّر عن وجهة نظر أو قرار رسمي روسي، لكن أن يبث في هذا التوقيت فله دلالاته الرمزية التي تؤشر إلى مقدمات مختلفة عن السائدة، لا سيما أن التقرير أتى بعد ضرب درة البحرية الروسية في البحر الأسود، المدمرة «موسكوفا» والذي فسر دخولاً أطلسياً مباشراً على خط الأزمة القائمة، وهو ما أشارت إليه موسكو تصريحاً لا تلميحاً.
ثمة من يستبعد نسبياً انطلاق حرب عالمية ثالثة، إلا أن التدقيق في خلفيات وأسباب انطلاق الحروب الكبرى والصراعات التي كانت تدور بينها، تشي بأن لا شيء مستبعداً في الحالة الأوكرانية، حيث بدأت تطفو على السطح عوامل أخرى وصوراً جديدة مقلقة؛ ثمة تصاعد في منسوب التوتير والصراع مع استعمال وسائل وأدوات جديدة أدخلت إلى ساحة الصراع، من بينها التسليح من بعض دول حلف الأطلسي لأوكرانيا، إضافة إلى دخول دول كانت حيادية في بداية الأزمة مثل فنلندا والسويد وبولندا وصولاً إلى دول وسط آسيا مثل كازاخستان.
الصراع في السابق كان بين أيديولوجيتين مختلفتين، أما الصراع الآن فهو بين ليبراليتين تحتضنان نفس البيئات الفلسفية، الليبرالية الحديثة بقسميها الريعي الذي تقوده الولايات المتحدة، والليبرالية الإنتاجية التي تقودها كل من موسكو وبكين، فهل تشكل هذه الوقائع خلفية لأزمة قائمة وشرارة لحرب عالمية ثالثة؟