قبل الحرب في اوكرانيا وعليها ، كانت سوريا ساحة صراع . بعد الحرب الاوكرانية إحتدم الصراع فيها وعليها . لماذا ؟
قبل الحرب في اوكرانيا ، كان عنوان الصراع في سوريا قضية فلسطين وما تفرّع عنها من تداعيات وإنعكاسات بعد زرع "اسرائيل" في قلب الوطن العربي ، ومحاولة اميركا وحلفائها فرض أحلاف سياسية وعسكرية لحماية"اسرائيل" ومنابع النفط في بلاد الرافدين والخليج ، ومواجهة الاتحاد السوفياتي في صراع الأقطاب الدوليين على المصالح والمواقع والنفوذ في شتى أنحاء العالم .
بعد الحرب الاوكرانية ، إكتسب الصراع في سوريا وعليها أبعاداً إضافية ، لعل أبرزها محاولة اميركا وبعض حلفائها الإقليميين توظيف الساحة السورية ومكامن الغاز في باديتها وساحلها على الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط ، كما مكامن الغاز في بلاد الرافدين ، في المشروع الاميركي الرامي الى توفير مصدر بديل لدول اوروبا يغنيها عن الغاز الروسي الذي يغطّي لا أقلّ من 40 في المئة من حاجاتها.
لسوريا دور إضافي ، غير نفطها وغازها ، في مخطط اميركا المناهض لروسيا. انه موقعها الجغرافي الإستراتيجي الذي يتيح لمنتجي النفط والغاز في ايران وبلاد الرافدين (وحتى في بلدان الخليج اذا شاءت) إستخدام انابيب نقل هذه المواد الإستراتيجية عبر اراضيها الى شواطيء البحر المتوسط ومنها الى العالم. من هنا ينبع حرص اميركا على ان تبقى سوريا متاحة لها ولحلفائها في مجال إنتاج النفط والغاز ونقلهما الى اوروبا وسائر انحاء العالم.
حلفاء اميركا الاقليميون ، "اسرائيل" ومصر وقبرص واليونان ، كانوا أسبق منها في إستشراف أهمية دور نفط وغاز الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط كما دور سوريا في نقلهما الى اوروبا والعالم، فكان ان عقدوا اتفاقاً بشأن الإنتاج والنقل في الحوض المذكور.
تركيا ، وهي كبرى الدول الإقليمية والعضو في حلف شمال الأطلسي وصاحبة المصلحة في الإفادة من نفط وغاز الحوض الشرقي للمتوسط ، أدركت هي الاخرى دور سوريا ، منبعاً لهذه المواد الإستراتيجية وجسراً لنقلها الى سائر أنحاء العالم ، فأولت بلاد الشام اهتماماً مبكراً بها. فقبل نحو ثلاث سنوات وقف الرئيس التركي رجب طيب اردوغان في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة حاملاً بين يديه خريطة لسوريا رسم عليها خطاً افقياً طويلاً محاذياً للشريط الحدودي مع بلاده يمتد نحو 430 كيلومتراً وبعمق لا يقلّ عن 30 كيلومتراً داخل الأراضي السورية ، من محافظة ادلب في شمالها الغربي وصولاً الى محافظة الحسكة في شمالها الشرقي.
مخطط اردوغان كان ، وما زال ، يرمي الى تحويل تلك المساحة الى"منطقة آمنة" مقضومة ومضمومة الى الاراضي التركية لتوطين اكثر من ثلاثة ملايين من اللاجئين السوريين. غير ان مخطط اردوغان اصطدم بمقاومة سورية شملت الحكومة والشعب معاً ، وكذلك برفض قاطع من روسيا ما ادى الى تجميده وإقرار إتفاق بين موسكو وأنقرة يقضي بالاتي:
- فرض خطوط تماس بين تركيا والمنطقة المحتلة من سوريا ومراقبتها من قبل عناصر من القوات الروسية.
- عزل التنظيمات الإرهابية التي تتمركز وتنشط ، بإشرافٍ من القوات التركية ، على يعض المناطق في محافظة ادلب التي تسيطر عليها "هيئة تحرير الشام" الموالية لتركيا.
- قيام روسيا بإبعاد بعض الفصائل الكردية السورية عن الشريط الحدودي الذي تحتله تركيا داخل سوريا.
- بإرتفاع وتيرة الصراع السياسي الداخلي في تركيا مع إقتراب موعد الإنتخابات الرئاسية التركية المقررة في حزيران/يونيو2023 ، وتراجع مردود الإقتصاد التركي نتيجة الأزمات المالية والنقدية وتدهور قيمة الليرة التركية إزاء الدولار الاميركي ، وازدياد حدّة الشعور العنصري لدى الأتراك ضد اللاجئين السوريين والمطالبة تالياً بترحيلهم ، وتفاقم الإشتباك بين تنظيم "قسد" المناوىء لتركيا وتنظيم "داعش" المدعوم مداورةً من اميركا ، والمناوىء لكل من تركيا وسوريا فضلاً عن الكرد السوريين المناوئين للحكومة المركزية في دمشق... إزاء ذلك كله، اقدم اردوغان على إحداث تغييرات جذرية في مخططاته عموماً وإزاء سوريا خصوصاً ، وذلك على النحو الآتي :
- إعتماد سياسة الترحيل التدريجي للاجئين السوريين وذلك بمنع الذين ذهبوا الى مناطق بلادهم في شمالها خلال العطلات من العودة الى تركيا.
- إقامة مشروعات سكنية وتجارية في منطقة الشريط الحدودي الذي تسيطر عليه تركيا ودفع اللاجئين السوريين الى الإقامة فيه بحيث يكونون شريحة موالية لها اذا ما اضطرت يوماً الى الإنسحاب من سوريا.
- دمج مختلف الفصائل المسلّحة العاملة في شمال سوريا وغربها ووضعها تحت إمرة زعيم "هيئة تحرير الشام" ابو محمد الجولاني الموالي لتركيا.
- محاولة التوفيق بين قوات "قسد" الكردية وتنظيم "داعش" المدعوم من اميركا لتحقيق غرضين(أ) تصليب الجبهة المعادية لحكومة دمشق المركزية. (ب) التفاهم مع اميركا على إستغلال حقول النفط في محافظتي الحسكة ودير الزور السوريتين بمعزل عن حكومة دمشق.
- التنسيق مع اميركا في كل ما من شأنه استغلال مكامن الغاز في شمال غربي العراق ومكامنه في بادية الشام والساحل السوري على الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط بما يؤدي مستقبلاً الى توفير مصدر للغاز لاوروبا بديلاً من الغاز الروسي الذي تسعى اميركا لإقناع اوروبا بالإستغناء عنه.
- إعادة النظر بعلاقات تركيا المتعكّرة مع مصر والامارات العربية المتحدة و"اسرائيل" ، ولاسيما مع السعودية. فقد تجاهل اردوغان التوتر والاحتقان بينه وبين ولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان عقب إنكشاف ملابسات اغتيال الإعلامي السعودي جمال الخاشقجي سنة 2018 في القنصلية السعودية في اسطنبول، فشدّ رحاله الى السعودية لإداء مناسك العمرة وبالتالي حصر ثمرات تخليه عن مسألة محاكمة قتلة الخاشقجي في تركيا والموافقة على نقل ملف القضية الى الرياض ، ولم تتضح بعد ثمرات العناق الحار بين اردوغان وابن سلمان مساء وصوله الى السعودية ، ولاسيما في حقول التجارة والإستثمار والقضايا الاقليمية.
الى ذلك كله ، كان اردوغان قد دشّن عملية إعادة النظر بعلاقاته الاقليمية بدعوة الرئيس الاسرائيلي الى زيارة تركيا والاعلان عن عزمه زيارة "اسرائيل" في المستقبل القريب. على ان الخطوة الاكثر دلالة (وخطورة) هي قيامه بمنع قادة المقاومة الفلسطينية من حركة "حماس" من دخول تركيا إرضاءً لـِ "اسرائيل".
كل هذه التطورات والتنازلات تشير بوضوح الى أن كلاًّ من اميركا وتركيا و"اسرائيل" ما زالت جادة في معاداة سوريا وإستخدام ساحتها في صراع محموم ضدها ومن اجل حماية قواتها فيها ومصالحها السياسية والامنية والاقتصادية في مختلف دول الشرق الاوسط ، ولاسيما في وجه روسيا التي دخلت اميركا معها في طور جديد من الحرب الناعمة التي تزداد خشونةً بعد إندلاع الحرب في اوكرانيا وعليها.