سنوات طوال تؤرق القضية الأوكرانية روسيا و قيادتها و خلال هذه السنوات كان العمل على أوجه لاستهداف روسيا من البوابة الأوكرانية، ناهيك عن الغزو الغربي الأوروبي ثقافياً و اقتصادياً و استقطاب الأوكرانيين المتعصبين الذين لا تروق لهم روسيا. اذ وصل الغرب و على رأسهم أمريكا لما يريدونه هناك مما استفز الروس و أوقظ الدب من سباته القلق.
لابدّ من قراءة تاريخية دقيقة وثيقة للموقف هناك بعيداً عن بروبغندا الطرفين لكن بالاحتكام للعقل و المنطق نرى تماماً أن الكل يعرف أن حرباً في أوكرانيا ستنطلق لا محالة و ساسة العالم المخضرمين يعرفون ذلك جيداً ، و لمّح بعض القادة لمثل هذه المواضيع في أكثر من موقف، الولايات المتحدة و بريطانيا و فرنسا و تركيا كانوا على علم كامل و يعدّون العدة لمحاصرة روسيا بصواريخ الناتو، و سمعنا كثيراً امتعاظ الروس من هذا الحراك و محاولتهم تفادي هذه الكارثة بالحوار لكن ضعف الرواية الإعلامية الروسية و الانغلاق الروسي الثقافي و ضعف الإعلام الروسي و الماكينة الإعلامية الروسية في مواجهة الدعاية الأوروبية و الأمريكية و الآلاف من وسائل الإعلام المرئية و المسموعة و المقروءة و انتشارها و سيطرتها على العالم كله، زد على ذلك تبني الكثير من دول العالم للرواية الغربية و التغريد في سربها.
1- تاريخ العلاقات الأوكرانية الروسية:
مع انهيار الاتحاد السوفييتي و استقلال أوكرانيا عن روسيا و ما تبع ذلك من مفاوضات لتسليم السلاح النووي و ثلث المنظومة السوفييتية النووية في اوكرانيا هي للاتحاد الروسي و خشيةً من روسيا بوقوع أوكرانيا بيد الغرب و التي بدأ الغزو الثقافي الغربي و استمالة الشعب نحو أوروبا و نعيمها و ديمقراطيتها و حريتها المزعومة و فعلاً كانت الأماني الأمريكية تتحقق شيئاً فشيئاً بطريقة ناعمة و تقدم خجول حتى اسقاط حليف موسكو، اضافة للتطورات التي شهدتها اوكرانيا و أهمها استعادة القرم و انفصال دونباس و دونيستك بدعم روسي لحماية أمنها القومي.
أستشاط الغرب غضباً و تحركت المشاعر التركية حيال القرم و بدأ فصل المؤامرات العلنية. أفلام غربية كثيرة تنبأت بحرب أوكرانيا و المسلسل التلفزيوني الأوكراني الذي كان بطله زيلينسكلي الذي كان بدوره الرئيس البطل الذي يخوض الحرب و ينتصر و ينقذ البلاد لم تكن نبوءة و لا صدفة بل خطة غربيةً محكمة تماماً للوصول إلى نقطة اللاعودة فإما انضمام أوكرانيا للناتو أو حرب مستعرة روسيّة تدمر أوكرانيا و تضعف روسية و تشغلها لعقدٍ من الزمن.
وصول زيلينسكي للحكم و انقياده للغرب كان خدمةً تاريخيةً للغرب فهو شاب غير ناضجٍ سياسياً ممثل كوميدي ناجح محبوب لمتابعيه لكنه وصل بنتيجة الانتخابات إلى الرئاسة و هذا إن دل على شيء يدل على مستوى الضياع الثقافي و السياسي الذي وصل إليه الشعب في أوكرانيا التي كانت معروفة بساسة أذكياء من اليهود المتمرسين لكن الثقافة الغربية الجوفاء و صناعة المجتمعات الفارغة المفككة و ضرب الأفكار الوطنية و الفكر السياسي الحقيقي بدعوات الديمقراطية و الليبرالية و استقطاب الشعب بالرفاهية الغربية و الديمقراطية المزعومة التي كان حرم منها زمان الاتحاد السوفييتي أدى إلى ما نراه اليوم.
بينما تركيا منذ عام ٢٠١٦ لم يغمض لها جفن و سعت لتقاربٍ سياسي و اقتصاديّ مع كييف و مؤخراً بدأت بسريةٍ تامةٍ جداً و منذ ما يزيد على ٣ أعوام نقل إخوان مصر و سورية بالتواصل مع جمعية الرائد التي يرأسها سران عريفوف و الذي يرأس الجمعية حالياً و كان يستقطب لها الشباب المسلم و العربي من الدارسين في أوكرانيا إلى صفوفها في خطوة لخلق نواةٍ لعمل جهاديّ محتمل هناك لضرب روسيا. مع أنه لا توجد تقارير إعلامية علنية تدعم هذه الرواية لكن وقائع انتقال المسلحين السوريين من فصائل المعارضة السورية للقتال هناك عبر تركيا يثبت تماماً هذه الإدعاءات، وانسحاب أمريكا من الاتفاقيات المشتركة مع روسية و أهمها منع انتشار الأسلحة النووية تعد مؤشرات مهمة على طموحات أمريكا و الناتو نشر درعها الصاروخي على أسوار روسيا و في فنائها الخلفي على تحت عين و سمع الجميع و لقد قرأ بوتين الرسائل جيداً و أدرك محتواها بدقةٍ متناهية.
2- قصّ أجنحة روسية و سلخ حلفائها من الجيران:
لعلنا تابعنا بدقة الحرب الأذربيجانية الأرمنية و قضية استعادة قرة باغ و هي أول الخطوات الميدانية لتهديد روسية فاستقطاب تركيا و إسرائيل لأذربيجان و فكرة الخريطة التركية التي سميت بالوطن التركي التي قدمها أحد حلفاء أردوغان السياسيين هديةً له و التي وصلت حدودها لروسيا، تظهر أن هناك مايتم طبخه في دهاليز السياسة الأوروبية و التي سارعت تركيا كشفه قبل أوانه وانضمام اذربايجان إلى الحلف التركي الإسرائيلي بعيداً عما يهوى الروس و باشنيان المرتمي بالحضن الأمريكي خسر قضيةً و تاريخاً و حرباً و شرف أمةٍ ناضلت هناك ، و تخلى عنه الأمريكان و أسعفه الروس بوساطتهم الميدانية لكن حضور الروس لايعني أنه حليف لهم و إنما مرغمٌ بعد تخلي الأمريكان عنه و تسليمه لقمةً سائغة لأذربايجان و حليفها. لكنه لم يعتبر و لعلنا نراه قريباً في أنقرة لعقد اتفاقٍ مع تركيا نسمع همساته الخجولة هنا و هناك.
أما اذربيجان و ارمينيا وهما خارج دائرة الحلف الروسي. الخطوة التالية ضرب استقرار بيلاروسيا و محاولات مدعوة غربياً لا سقاط رئيسها، لكن الحزم في التعامل و إدراك الساسة لحقيقة الموقف أخمد نار الاحتجاجات هناك و قد بدأت الحرب الإعلامية على الرئيس البيلاروسي و وصفه بالدكتاتور المستبد العميل لروسيا المعادي للديمقراطية الذي أرهب الشعب و قمع الحريات. لكن مع تأييدنا لظاهر القول هناك إلا أن خفايا و خلفيات ماحدث لا يعلمها الشارع البسيط الذي لا يعي مدى خطورة الموقف و كل المحاولات المعارضة كانت مدفوعةً بالعمالة الغربية التي لاتحمل نوايا وطنية قومية همها الوطن.
و فعلاً يقيّم الجميع زعيم بيلاروسيا بأنه دكتاتور لكنه جنّب بلاده مستقبل أوكرانيا التي تدفعها على مذبح الاحلام بالانضمام للناتو و الاتحاد الأوروبي دفاعياً. محاولة انقلاب العصابات الكازاخستانية و تخريبها الذي وأدته روسيا سريعاً في مهده كان دليلاً ثانياً على أن الغرب بدأ الحرب على روسيا بدون أن يطلق رصاصة واحدة من سلاحه و إنما الحرب كانت من كلاشينكوف إلى كلاشينكوف و فعلاً اظهرت نتائج الحال بعد هروب بعض رجال الأعمال المتورطين بالأحداث إلى أوكرانيا و اعترافهم بارتباطهم بفرنسا. و بعد هذه الخروقات في الخط الروسي باتت السياسة الغربية تشكل خطراً وجودياً حقيقياً لتجد روسيا نفسها وحيدة في مواجهة المحور الغربي و قدراته السياسية و الإعلامية القذرة و يقف معها عسكرياً بعض التشكيلات البيلاروسية و الشيشانية و يدعمها إعلامياً الصينيون و الباكستانيون و الهند بحذر و العملية الخاصة الأوكرانية فُرِضت على الروس بواقعية لأنه إما التسليم للأمر الواقع و هي فقدان أوكرانيا و تحولها لجزء من الناتو بعد أن كانت بالأمس القريب جزءً من الخارطة السوفييتية أصبحت اليوم خنجراً غربياً أمريكياً يدمي الشعب الروسي و يهدد أمنه و هواءه و مستقبله و وجوده و حديث بعض الهواة السياسيين عن أنه على بوتين احترام إرادة الأوكران في اختيار مستقبل بلادهم و حلفائهم يتجاهل مدى الجهل السياسي الذي يسود المجتمع المسحور بالحضارة و الرفاهية الأوروبية ، و أحلام التحول لبلدٍ أوروبي ينطق الإنكليزية و يذوب بالثقافة الغربية و تستضيف ملاهيه الليلية سهرات الأوروبيين و أموالهم و يسافر الأوكراني بلا قيود و لا سمات دخول إلى كل انحاء أوروبا مروراً بروما و جنيف و بريطانيا و باريس.لقد أراد الأمريكيون الحرب و جروا روسيا لها لأن دول أوروبا سترتعب من القوة هناك و التي لا تقدر جيوش أوروبا منفردة مواجهتها و هنا تترسخ التبعية لأمريكا فيهرع الغرب للإرتماء بالأعتاب الأمريكية ذليلاً صاغراً يستجدي الحماية و يدفع الكثير لشراء السلاح الأمريكي الثقيل لتقوية ترسانته و التخويف الدائم للغرب من الفزاعة الروسية حالها حال إيران و دول الخليج. لقد كان من الممكن أن لا تحدث الحرب أبداً بمجرد تعهد أمريكا بعدم دخول أوكرانيا للناتو لكنها لم تفعل عمداً لضمان نشوب الحرب هناك و تكبيل روسيا بسلة من العقوبات تدمرها اقتصادياً و تعزز الحرب الباردة الثقيلة.
الحرب لم و لن تكون حلاً أبداً و كل الحروب خاسرة مهما كانت النتائج لكن لم يكن أمام بوتين سواها حلاً لضمان أمنه و أمن بلاده وسيتحمل بوتين العزلة و العقوبات و محاربة المرتزقة من أوروبا و سورية و بعض الدول الأخرى إضافة لجيش أوكرانيا و سيصل لحل يضمن أمنه و قد وصل الرجل في عمليته الخاصة إلى مرحلة اللاعودة فإما أن يدافع عن خياراته و رؤيته للأحداث على غرار الرئيس السوري ليثبت بعد سنوات مدى صحة موقفه أو أن يُهزم إلى الأبد و يعيش العزلة و الوحدة التي تعاني منها كثير من الدول كفنزويلا و كوبا و سورية و غيرها.. فلا تقوم بعدها للروس قائمة و يغرق العالم بمزيدٍ من الفوضى صاغراً ذليلاً عند أقدام أمريكا و الصهيونية العالمية. و لانهاية قريبة لهذه الحرب لأن قوافل السلاح و حسابات المساعدات تتزايد و لا شيء سوى حرب و دماء و فاتورة من الدماء من الطرفين لكن الدفاع عن أمن البلاد يستحق الكثير فلو لم تكن الحرب اليوم لكانت على أبواب موسكو غداً و مسألة أسلحة الردع لم تعد تردع أحداً فقد أصبحت فزاعةً للزينة. و سيكون لهذه العملية الخاصة نتائج كبيرةً على الساحة الدولية إذا ما كتب لهذه العملية النجاح.
3- تأثير العملية على الشرق ؛ سورية و المفاوضات النووية:
على المستوى السوري ستشهد الأوضاع نتائج سلبية كبيرة تهدد الأزمة السورية و سنرى تأخراً و بطءً في العملية السياسية و ربما إذا تعالت أصوات أنقرة و موسكو نشهد تحركاتٍ عسكريةً من بعض الفصائل للضغط على روسيا في سورية و هذا ما نستبعده على الأقل خلال هذه الفترة. انسحاب بعض القوات لاسيما القوات المقاتلة و طياري سلاح الجو في حميميم يمكن استغلاله إعلامياً من قبل الغرب لكن روسيا مدركة تماماً أهمية القاعدة البحرية المتوسطية السورية في الحرب و مستقبل العمليات فيما لو حدث تغيّر في العمليات و دخل لاعبون جدد على الساحة لكن على إسرائيل اتخاذ حساباتها جيداً فصديقها غاضب و ممتعض و ربما تغيرت الأولويات و لم تعد المشاعر الصهيونية الداعمة لكييف تهم بوتين في سورية و هذا ما ستكشفه الأيام القادمة. ولابد لسورية في هذه الأيام من تعزيز علاقاتها الإقليمية و أهمها العلاقات السورية الإيرانية لتفادي النتائج الإقتصاديةَ و السياسية لهذه العملية على الساحة السورية.
4- الاتفاق النووي الإيراني
من أشد المتأثرين بهذه الحرب و ذلك لأن الذهن الأوروبي و الرأي العام مشغولٌ تماماً بأوكرانيا ، لكن أمريكا و حلفاؤها يرون بالاتفاق فرصةً ذهبية لتعويض النفط و الغاز و الاستفادة من نتائج الاتفاق النووي بهذا الإطار. و إغلاق صفحة الاتفاق النووي و طيها إلى الأبد بلا خوف من امتلاك إيران لسلاح نووي و الاتفاق قادمٌ قادم والسبب تمسك الإيراني بموقفه الثابت وعدم تنازله عن اسس الاتفاق فستوصله للاتفاق شامل ومنصف طويل الأمد يحمي مستقبل ايران و يدخلهم ملاعب الكبار رغم الهجمة الاعلامية التي باتت مكشوفة.