ستبقى عيني لاترى غير وطني .. مهما اتهمتها العيون بأنها عنصرية ومنحازة .. فيمكنك ان تشكل مجموعة عدم انحياز من كل شيء .. حتى من النجوم .. الا في العيون والقلوب فانه لاشيء لديها يعرف بأنه عدم انحياز .. فالعيون والقلوب تنحاز وتنحاز لمن تحب وتهوى .. وعيني منذ ولدت منحازة لوطني دون تردد ولامجاملة ولا وجل من ناقد او متحضر او من جماعة الامم المتحدة والمساواة بين الأمم والاوطان .. فطالما ان وطني مقهور ومظلوم بين الامم فانني سأنحاز له ضد جميع الامم ..
ولذلك فان عيني تألمت وأصابها احمرار منذ أيام عندما عرضت الميادين برنامجا وثائقيا عن انطاكيا السورية التي نسبت الى الله وليس الى سورية بحجة الحديث عن الايمان والمؤمنين .. ولكن انطاكيا التي نسبت الى الله كانت تقدم في البرنامج على أنها مدينة تركية في اقليم هاتاي .. وكانت الكاميرا وكأنها تركز عمدا على الاعلام التركية الحمراء التي تريد ان تقول ان انطاكية مدينة تركية .. وكل مافيها يريد ان يقول انها عثمانية .. وكأن من أعد البرنامج من جماعة أبو محمد الجولاني وممن يؤمنون بالخلافة العثمانية وأراد عمدا ان يهديها للأتراك ويقوم بتتريكها بذريعة أنه لايقدم برنامجا سياسيا بل ثقافة دينية .. ثم بعد ذلك قيل لنا زورا وتضليلا ان انطاكيا هي مدينة الله .. كان هذا البرنامج فاشلا ورسالته مفخخة .. وكان مهينا الى حد كبير .. وشعوري فيه كان مثل شعوري وأنا أتابع ترامب وهو يقدم القدس والجولان هدايا لاسرائيل .. بل ويوقع الطابو أمام أعيننا ..
ولكن عفوا ياسادة .. ليس لله مدينة اسمها أنطاكيا .. ولايقدر الله ان يستملكها ويصادرها مني ومنكم .. فكيف للأتراك أن يأخذوها مني .. ؟؟ انها ليست مدينة الله .. بل ان العنوان الصحيح المغيب هو: انطاكيا مدينة سورية .. ومن يقدمها على انها مدينة الله فانه عليه ان يقول لنا: وماذا هي القدس اذا؟ هل القدس قرية الله؟ او قصر الله؟ ام مزرعة الله؟؟ أم أم …
من تعاتب عيني هنا؟؟ أتعاتب عيني الميادين ام تعاتب الاعلام السوري الذي كان يعلمنا في مدارسنا ان لواء اسكندرون سلخ منا بالقوة واننا سنسميه اللواء السليب ولكن ماذا فعلنا كي لاينسلخ اللواء من ذاكرتنا .. ؟؟ بقي اللواء خارطة فقط نرسمها ونرسم الخط المتقطع حوله كالأسلاك الشائكة .. ولكن لم ندخل اليه ولن نتعرف اليه ولم نقدم برنامجا من داخل اللواء .. ولم نقدم صورا للقرى السورية فيه ..
انني فعلا فوجئت وانا اتابع ذلك البرنامج على الميادين .. هذه أول مرة ارى فيها انطاكيا السورية التي كنت أقرأ عنها في كتب المدرسة القديمة .. وأين؟ عبر محطة غير سورية .. ظهرت انطاكيا مدينة عريقة .. جميلة الملامح القديمة .. فيها كنوز سورية عتيقة جدا .. ولكن على الفور قفز الى ذهني سؤال كان عليه ان يقفز او كان علي أن أتي به موجودا وهو: وماذا يفعل اعلامنا العزيز منذ عام 1939 غير البكاء على الخرائط والصور ؟.. كيف انظر الى أنطاكيا لاول مرة في حياتي لارى وجهها السوري وقد شوهته الوشوم التركية الحمراء؟ بل ويسميها البرنامج في الميادين عاصمة اقليم هاتاي وليس لواء اسكندرون .. ويقدم لنا حاكم انطاكيا او الوالي العثماني وكأنه يقدم برنامجا سياحيا رغم انه مثل اي اسرائيلي في الضفة الغربية او في اللد او الجليل .. لافرق على الاطلاق ..
ماهو هذا الشعور الذي يكون مخلوقا من الذنب والخجل معا؟؟ لأنني أحسست بالخجل والذنب وأنا أرى أنطاكيا مدينتما الرائعة وقد سلخت من اسمها السوري ونسبت الى الله .. وصارت مدينة الله .. وهي مدينتي ومدينة كل سوري .. ولكن العين غابت عنها ولم تر وجهها منذ 70 عاما .. لماذا لم يكن هناك كل عدة أشهر وثائقي او برنامح يحدثنا عن لواء اسكندرون وناسه وسكانه وتقاليدهم وعائلاتهم .. ويدخل في الشوارع وبين البيوت ويسجل كل شيء في ذاكرتنا كما نسجله عن فلسطين والقدس والجولان .. ؟؟ هل تكفي الخرائط كي لاتموت الذاكرة؟ ان الذاكرة القائمة على الخرائط تسمى الزهايمر الجغرافية … لأن العلاقة مع الواقع تتآكل ..والانفصال عن الحقيقة يحدث ..
اعلام الصحراء والنفط صار يسبقنا لدفن خرائطنا .. فمنذ فترة يقدم الاعلام الخليجي ذلك الخائن الوضيع حمد بن جاسم وكأنه أحد زعماء الامة وهو يلقننا الدروس عن الشرق من محفظته السياسية وكأنه جمال عبد الناصر القطري .. ومن جمله ماقاله ان الحضور الى جلسة مع الرئيس حافظ الاسد يعني محاضرة لسبع ساعات .. عن سورية القديمة التي قطعت أوصالها وعن تاريخ المنطقة وان سورية الكبرى تضم كل دول المنطقة .. وفي اشارة هذا الصعلوك القطري سخرية خفية من ان القادة والزعماء يفكرون بطريقة غير عصرية .. لانهم لاينسون أوطانهم القديمة .. اي على الناس ان تتعلم من القطريين كيف تكون الاوطان البراغماتية .. نصفها لاسرائيل ونصفها الاخر قواعد امريكية .. ومالها لشراء الاندية الرياضية واسطبلات الخيول وتمويل حروب اميريكا ..واعلامها عبري الهوى..
ماذا ينقصنا كي نثبت في عقول ابنائنا الحقائق ونثبت الأرض .. فالارض لاتموت بالتقادم ولا بالحقن المميتة الاعلامية .. وانشغالنا بفلسطين لايعني ان اللواء السليب ليس بمقام فلسطين فهو مثلها تقريبا في المساحة .. وكلاهما مقتطع من جسد سورية .. ولايعني انشغالنا بالقدس ان أنطاكيا أقل أهمية منها .. فكلاهما مدينتان مقدستان .. ولانحتاج لقهر الواقع السياسي الا ان نشعل الذاكرة كل يوم وكل شهر وكل سنة .. والا فلاتطلبوا من الاجيال القادمة ان تتذكر انطاكيا والقدس طالما ان انطاكيا صارت مدينة الله ..
نصيحتي لكم .. لاشيء يستعيد الأرض مثل الذاكرة .. ولاشيء يقتل قرارات الامم المتحدة وصكوكها سوى مايتعلمه صغارنا في المدارس ومايراه شبابنا في برامج التوعية الوطنية …ومايراه الناس العاديون في الدراما اليومية ..
قبل ان تذخروا بنادقكم .. ذخروا ذكرياتكم ومذكراتكم .. وقبل ان تهدر محركات دباباتكم لتحرير الجغرافيا .. يجب ان تهدر الارض وكل قطعة سليبة في دمنا وعروقنا واعصابنا وان نكتب اسمها على كل خلية في جهازنا العصبي .. وان نرسم اسمها كالوشم على ذراع الزمن ..
من جديد .. انطاكيا ليست مدينة الله .. بل هي مدينة سورية .. ولن نتخلى عنها .. حتى لله .. ليس انكارا او تحديا لله بل لأن الله ليس في حاجة الى مدننا كي نهبه اياها تملقا .. فهو خالق الكون كله ومالكه .. والله خلقنا كي ننتمي الى هذه الارض .. ويحب من يحب أرضه ويدافع عنها .. ولولا ذلك لما أعطى من يموت في سبيلها مقام الشهادة .. ولذلك فان انطاكيا سورية مثل فلسطين ومثل لبنان ومثل الاردن .. ويوما ما سنستعيد كل هذه الاراضي طالما انها تعيش في قلوبنا ..
انها عاصفة ضربتنا في القرن العشرين .. ولكن هذا القرن يجب ان يكون قرنا لتصحيح أخطاء القرن الماضي .. كل الاخطاء الجغرافية .. ولاأستثني خطأ واحدا .. ولكل قرن عواصفه .. فليكن هذا القرن هو موعد عاصفتنا ..