البيروقراطية Bureacratie هي أسلوب لتنظيم الأعمال والمهام الإدارية يرتكز على تقسيم العمل وتحديد المسؤوليات في المؤسسات تحديداً دقيقاً وفقاً لمبدأ الصلاحية التي تحددها الأنظمة والقوانين الإدارية.
ولايحمل مصطلح البيروقراطية معنى غير مستحب، إنما هو نسبة إلى كلمة Beuro اللاتينية التي تعني المكتب أو الديوان أو مكان تصريف الشؤون الحكومية، وقد يطلق الاصطلاح أحياناً على السلطة التنفيذية بمجملها إنها ترتكز على تسلسل السلطة، وقيام علاقة منظمة داخل المؤسسة، ومراقبة جماعية تستند إلى استعداد المرؤوسين للتقيد بالتعليمات الصادرة عن الهيئات العليا، وهي نسق من التفاعل الاجتماعي بين العاملين في المؤسسة.
والبيروقراطية تنظيم عام للمؤسسات يستهدف رفع مستوى الأداء الإداري إلى حده الأقصى بتنظيم السلوك الاجتماعي لصالح الفعالية الإدارية للمؤسسة.
والبيروقراطية ليست ظاهرة حديثة، بل وجدت منذ مراحل تاريخية سابقة في كثير من الدول الكبيرة مثل مصر القديمة، ورومة والصين وغيرها. واتساع هذه الدول وضخامة قواتها العسكرية، ومستوى التطور الاجتماعي والاقتصادي الذي حققته كان مرتكزاً أساسياً للتنظيم البيروقراطي.
ورأى ماكس فيبر أن التنظيم البيوقراطي وجد لدى الدول الكبيرة منذ القديم، وكان له أثر مهم في تطورها وتفوقها على الدول الأخرى إلا أن الاتجاه الواسع للعمل بالتنظيم البيروقراطي بدأ يبرز مع وجود النظام الرأسمالي وما رافقه من تطورات سياسية واقتصادية واجتماعية وعلمية تطلبت تعدداً في المؤسسات وتنوعها وتعقيداً في آلية العمل داخلها، فضلاً عن بروز النظام الاقتصادي الحر الذي أدى إلى التنافس الاقتصادي، وبروز المؤسسات والشركات الكبيرة التي بدأت تتخطى الحدود الجغرافية للدول.
رافق ذلك كله التطور العلمي والتقني الذي أوجد وسائل وأدوات معقدة تحتاج إلى درجة عالية من المهارة الفنية والاختصاص العلمي الدقيق وقاعدة من التنظيم الواسع.
هذه العوامل تطلبت إيجاد تنظيمات إدارية تستهدف ضبط عمل المؤسسة، وزيادة فعاليتها بما يمكنها منافسة غيرها من المؤسسات، ومواجهة المصاعب والعقبات التي تعترضها، واستيعاب التغييرات والتطورات القائمة، ودفع عمل المؤسسة إلى الأمام.
ولعل هدف البيروقراطية إدخال حكم الفعل إلى الناحية الإدارية باستكشاف أكثر الأساليب فعالية وتطبيقها في الواقع.
وفي المرحلة المعاصرة أخذت ملامح البيروقراطية تظهر في نواحي متزايدة من الحياة في المجالات السياسية والاقتصادية والعلمية والاجتماعية والمالية والمؤسسات العامة منها والخاصة.
السمات الأساسية للبيروقراطية:
البيروقراطية بصفتها أسلوب للتنظيم الاجتماعي لها من الخصائص والسمات مايميزها من غيرها. وقد حدد علماء الاجتماع هذه السمات بما يلي:
ـ توزيع الأعمال والمهام وتنظيمها بما يتفق وأهداف المؤسسة: وبما يؤكد أنها واجبات ومهام رسمية. وبرأي ماكس فيبر إن توزيع العمل توزيعاً واضحاً ومحدداً يسهل استخدام الخبراء والاختصاصيين دون غيرهم في الأمكنة المناسبة لهم، وكذلك تحديد مسؤولية كل منهم عن أداء واجباته بفاعلية. وهذه الدرجة العالية من الاختصاص أصبحت الآن جزءاً أساسياً من الحياة الاقتصادية والاجتماعية نتيجة للتطور العلمي الذي شهده المجتمع.
ـ التسلسل الهرمي للسلطة: ويرى (فيبر) أن كل وظيفة يجب أن تخضع لسلطة وظيفة أعلى منها وإشرافها، وكل موظف وفق هذا التسلسل الإداري مسؤول أمام رئيسه عن تنفيذ قرارات مرؤوسيه وأعمالهم. كما أنه مسؤول عن قراراته وأعماله. فالرئيس في المؤسسة له سلطة ما دونه، وهذه السلطة محددة بدقة بالأوامر الإدارية.
ـ خضوع المهام لمجموعة متناسقة من الأحكام والقرارات تستهدف ضمان أداء جميع الأعمال والمهام أداء متوافقاً ومعدلاً. وهذه المهام تحدد بدقة مسؤولية كل عضو في المسؤولية، كما تحدد العلاقات بين الأعضاء وتنظمها.
ـ قيام الموظف بأداء مهامه الوظيفية بصفة رسمية لا شخصية: يرى فيبر أن تصرف الموظف يخضع في النهاية للمصلحة العامة دون أي اعتبارات شخصية. وأن استبعاد المؤثرات والعوامل الشخصية شرط ضروري لفعالية أداء الموظف، ونجاحه في أداء المهام المطلوبة منه رسمياً.
ـ قيام التوظيف في المؤسسة البيروقراطية على أساس الكفايات العلمية والمهارات الفنية، ويصان الموظف من الطرد التعسفي وكما يقول فيبر «الوظيفة هنا وظيفة دائمة» ونظام الترقيات يتم على أساس الأقدمية أو الكفاية أو الاثنين معاً. فهذه الأسس تسهم في تنمية ولاء الموظف لمؤسسته، وتعزيز الروح الجماعية يبن أعضاء المؤسسة. وهذا بدوره يسهم في تقويه ارتباط الموظفين بمؤسستهم ويدفعهم إلى بذل جهود كبيرة لصالح المؤسسة.
ـ تكون قدرة المؤسسة التي تقوم على التنظيم البيروقراطي قادرة على تحقيق أعلى درجة من الفعالية إدارياً وفنياً. والبيروقراطية تحقق في النهاية أعظم قدر من فعالية المؤسسة كوحدة متكاملة.
وتوصل فيبر إلى أن الوظيفة الأساسية للبيروقراطية هي تهيئة الشروط الاجتماعية والاقتصادية والمعنوية التي تدفع كل عضو في المؤسسة إلى التصرف بطريقة فاعلة وإيجابية تمكِّن المؤسسة من تحقيق أهدافها المحددة.
وحدد فيبر مجموعة من الأسس والعوامل المساعدة الأخرى لدفع سير العمل في المؤسسات ذات التنظيم البيروقراطي، وهي الاستقرار في الوظيفة وإيجاد مقاييس محددة لجودة العمل والانسجام في المؤسسات والقدرة على تحمل المسؤولية وتقدير أداء الموظفين.
العلاقة بين البيروقراطية والديمقراطية:
إن ازدياد التنظيم البيروقراطي واتساع فعاليته في المجتمع حفزا الكثير من المفكرين والباحثين على دراسة العلاقة بينه وبين الديمقراطية.
وفي مقدمة هؤلاء فيبر الذي رأى أن هناك نوعاً من التكامل والتفاعل بين البيروقراطية والديمقراطية. فالبيروقراطية تنطلق من تركيز السلطة في أيدي عدد قليل من المسؤولين، وتحدّ من حرية الأفراد، تلك الحرية التي هي في الأصل من مرتكزات الديمقراطية.
لذا فالبيروقراطية تشكل خطراً على الحريات الديمقراطية. ولكنها في الوقت نفسه تقوم بوظائف مهمة في المجتمع الديمقراطي لا يمكن تجاهلها. بل يستنتج فيبر أن الديمقراطية لا يمكن أن تستمر ما لم تقرن بالبيروقراطية، ذلك أن البيروقراطية لا تستطيع تحقيق المساواة التامة في الوظائف وبين الموظفين، ولكنها لما كانت تشكل عاملاً أساسياً في التقليل من أهمية المركز الاجتماعي للفرد كالأصل واللون، فإن ذلك سيؤدي إلى تقوية الديمقراطية في المؤسسات.
فإذا كانت المساواة أمام القانون هي إحدى المبادئ الأساسية للديمقراطية وهذا يعني عدم التفريق بين شخص وآخر لأي اعتبار كان، فإن المساواة بين الجميع أمام القانون هي إحدى المرتكزات الأساسية للتنظيم البيروقراطي أيضاً.
وبرأي (فيبر) أن الأهداف الديمقراطية مستحيلة التحقيق في المجتمع الحديث مالم تضعها المنظمات البيروقراطية موضع التنفيذ.
وإذا كانت البيروقراطية في مفهوم ماكس فيبر عاملاً مساعداً على تحقيق الديمقراطية، فقد رأى فيها آخرون ظاهرة سلبية ووسيلة استخدمتها الرأسمالية لترسيخ سيطرتها. وكان كارل ماكس في مقدمة هؤلاء المفكرين إذ يقول: «إن جهاز الدولة الرأسمالية يحوِّل أهداف الدولة إلى أهداف مكتبية،ويحوِّل الأهداف المكتبية إلى أهداف للدولة.. وتجعل البيروقراطية من أهدافها الشكلية مضموناً لها.. ومن أجل ذلك تتناقض مع الأهداف الحقيقية».. وبعد ذلك نوصل ماركس إلى أن الجهاز البيروقراطي يتحول إلى أداة لممارسة السلطة من قبل الاحتكارات في غير مصلحة الجماهير. إذ يتحول نشاطه تدريجياً إلى هدف بحد ذاته، ويتحول هدف الدولة كما يقول ماركس «إلى هدف خاص هو السعي وراء مناصب أعلى ومراكز أفضل». وتحدث داخل هذا الجهاز البيروقراطي حركة ذاتية ليس لها أي ارتباط حقيقي بحاجات المجتمع. وبذلك يتحقق التباعد بين الدولة كجهاز بيروقراطي يعمل لمصلحة الطبقة الرأسمالية، وبين بقية الجماهير.
ويرى عالم الاجتماع الألماني روبرت مايكل أن ازدياد البيروقراطية في المجتمع المعاصر يؤدي إلى تحولها إلى نظام لسيطرة «النخبة على الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية». وأن الهيمنة «السياسية» نتيجة حتمية للنظام البيروقراطي. وهي متأصلة في بنية عمله وآليته. ورأى أن ازدياد البيروقراطية في المؤسسات الحديثة والمعاصرة أدى إلى تركيز السلطة في أيدي عدد قليل من الأفراد، الذين يتمتعون بالسيطرة على الجهاز البيروقراطي ويصير الهدف الأساسي لهؤلاء هو تعزيز موقعهم في السلطة على حساب المؤسسات.
ويرى المفكر الأمريكي روبرت.ك.ميرتون أن السلوك البيروقراطي يفتقر إلى المرونة، وهو دائم التروع إلى تحويل البيروقراطية من أداة ووسيلة إلى غاية وهدف. وعلى هذا النحو تتم عملية استبدال الهدف، ومن ثم يصير الشكل أهم من الجوهر. وبذلك تتحول عملية التنظيم البيروقراطي إلى غايات عقيمة في حد ذاتها بدلاً من أن تكون وسائل ناجعة للوصول إلى الأهداف المحددة. وعندها تكون النتيجة الوقوع فيما لانهاية له من الأوراق والملفات والمعاملات والإجراءات وتتحول إلى «روتين» يعيق عمل المؤسسات وطبيعة أدائها.
توصل الكثير من المفكرين والباحثين إلى أن حاجة المجتمع الحديث والمعاصر إلى التنظيم البيروقراطي تحمل في طياتها مقدمات للقضاء على الديمقراطية ومن ثم عرقلة مسيرة تطور المجتمع، ورأى هؤلاء ضرورة إيجاد الوسائل الديمقراطية المناسبة للسيطرة على البيروقراطية، وتحويل هذه الوسائل إلى عوامل دافعة لفعالية الديمقراطية في إطار البيروقراطية، وبما يحقق عملية التوازن بين متطلبات البيوقراطية والديمقراطية.