يستحوذ مفهوم التقدم على اهتمامات المفكرين في العلوم الاجتماعية عامة، وفي علم الاجتماع خاصة، فهو يأخذ موقعاً مفصلياً في دراسات علماء الاجتماع، وخاصة المعنية منها بقضايا التغير الاجتماعي، ويتجلى ذلك في دراسات ماركس وتوكفيل وسبنسر ودُركهايم وفيبر وغيرهم.
ومع التباين الملحوظ في اتجاهات التحليل الاجتماعي لمفهوم التقدم بين الباحثين الاجتماعيين، يمكن تلمُّس قواسم مشتركة بين أعمالهم، الأمر الذي يدعو إلى ضرورة التمييز بين الخطوط العامة التي ينطوي عليها هذا المفهوم، وبين الخصوصيات المتعلقة بكل اتجاه من اتجاهات التحليل الاجتماعي التي أخذت بدراسته. فمن الناحية الأولى انتشر استخدام هذا المفهوم بقوة طيلة القرون الثلاثة الأخيرة (الثامن عشر، والتاسع عشر، والعشرين)، إذ كانت ملامح التطور الاقتصادي والاجتماعي واضحة في المجتمع الأوربي، بالموازنة مع مجتمعات بلدان العالم الثالث التي اتصفت بقدر كبير من التخلف وعدم القدرة على مواكبة عمليات التطوير الواسعة التي تشهدها الدول الصناعية الأوربية. في الوقت الذي كانت جهود الباحثين في العلوم الاجتماعية مبينة على مماثلة الظواهر الاجتماعية للظواهر الطبيعية، وبتحليل مجموعة الأعمال العلمية التي سادت في تلك الفترة، يلاحظ أن استخدام مفهوم التقدم اقترن باستخدام مفهومين أساسيين آخرين، هما مفهوم التطور الذي أخذ بالانتشار إثر المقارنة بين مستويات التطور الاجتماعي بين البلدان المختلفة، ومفهوم الحتمية الذي شاع استخدامه في العلوم الطبيعية أولاً ثم في العلوم الاجتماعية لاحقاً.
ومع الفروق القائمة بين مفهومي التطور والتقدم، فإن عدداً من الباحثين يأخذ بعدم التفريق بينهما، ذلك أن مفهوم التطور يشمل الكائنات الحية غير الإنسانية، ولا ينطوي بالضرورة على الإرادة في التحسين، فهو نتيجة تلقائية لعمليات طبيعية تتصف بالطابع القانوني، ومثال ذلك التطور في الكائنات الحية من كائنات بسيطة وأقل نضوجاً إلى كائنات أكثر تعقيداً ونضوجاً، كما تذهب إلى ذلك نظريات التطور. أما التقدم فينطوي على البعد الغائي، والإرادي، ومثاله التقدم الملحوظ في المجتمعات الإنسانية التي تهدف إلى غايات محددة، تعد بمنزلة الأساس الذي تقوم عليه الأفعال وأنماط السلوك التي يمارسها الإنسان.
ومع ذلك يرتبط مفهوم التقدم بمفهوم التطور الاجتماعي ارتباطاً وثيقاً، فهو يعني بالنسبة إلى معظم علماء الاجتماع انتقال المجتمع من مرحلة تتصف بالبساطة إلى مرحلة أكثر تعقيداً، إذ تنمو إمكانية تلبية الحاجات بشكل أفضل، وتتسع دائرة الخيارات المتاحة للفرد ضمن التنظيم الاجتماعي. وفي هذا المستوى التحليلي يلاحظ أن المفهومين ينطويان على الدلالة نفسها، غير أن الأمر سرعان ما يختلف مع تباين اتجاهات التحليل الاجتماعي بين الباحثين والمفكرين.
في تحليلات أوغست كونت وهربرت سبنسر ودُركهايم وغيرهم من علماء الاجتماع، يُستَخدم تعبير التطور على نحو أوضح من مفهوم التقدم، وفيه يلاحظ أن المجتمع الإنساني ينتقل من البساطة إلى التعقيد، ومن الارتباط الآلي إلى الارتباط العضوي، ومن إمكانية استقلال الأجزاء عن بعضها بعضاً إلى ضرورة ارتباطها بعضها ببعض. وغالباً ما يترتب على عملية التطور هذه نمو ملحوظ في الإمكانات التي يتمتع بها المجتمع، وتنوع كبير في الحاجات التي توفرها عملية التطور، إضافة إلى أن ظروف الحياة الاجتماعية تصبح أكثر غنى. إن المجتمع الإنساني ينتقل وفق هذا التصور من طور إلى طور من خلال عمليات النمو التي تحدث في مكونات التنظيم الاجتماعي عموماً.
أما في التحليلات الماركسية، فيلاحظ أن الأمر يختلف، فتعبير التقدم هو الأكثر استخداماً، ذلك أن مراحل التطور الاجتماعي (المشاعية البدائية، العبودية، الإقطاعية) ليست أطواراً ينتقل المجتمع من أبسطها إلى أكثرها تعقيداً، بل هي مراحل نوعية تختلف كل منها عن الأخرى بمستوى تطور قوى الإنتاج فيها وشكل علاقات الإنتاج السائد، وتأتي كل منها إثر تغيرات كمية واسعة تصيب المرحلة السابقة عليها. إن المجتمع الإنساني وفق هذا التصور يتقدم خطوة تلو الخطوة، ومرحلة تلو المرحلة، حتى يصل كمال تقدمه في المجتمع الشيوعي.
كما يختلف مفهوم التقدم أيضاً عن تعبير التغير الاجتماعي الذي يستخدم في الدراسات الاجتماعية، للدلالة على ظهور معالم التغير في الواقع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي الذي يعيشه السكان، كالتغير الملحوظ في طبيعة الروابط الاجتماعية من حيث شدتها، ودرجة انتشارها، والتغير في بنية الأسرة والروابط الاجتماعية ضمنها، والتغير في الضوابط الاجتماعية للسلوك الإنساني، والتغير الملحوظ في القيم الأخلاقية وغيرها. ويكمن الفرق بين مفهومي التغير والتقدم، في أن الأول لا ينطوي على أي بعد قيمي أو حكم أخلاقي، بينما يتضمن التعبير الثاني (التقدم) حكماً بأن المرحلة التالية هي أفضل من المرحلة السابقة، من حيث طبيعة الحاجات المتاحة أمام الفرد، ومن حيث قدرة الإنسان على التحكم بالظواهر الطبيعية.
إن مفهوم التغير ينطوي على بعد إيجابي أحياناً، وبعد سلبي أحياناً أخرى، تبعاً لزاوية الرؤية التي يأخذ بها الباحث، فانحلال منظومة روابط القربى في التنظيم العشائري مثلاً، وانتشار القيم المادية للحكم على أنماط السلوك، هو تغير اجتماعي، ويتفق كل علماء الاجتماع على ذلك، أما عدّه تقدماً أو تخلفاً فتلك مسألة أخرى. فالنظريات الاقتصادية ومنها الماركسية تجد في ذلك تقدماً، لأنه يأتي في سياق الانتقال من مرحلة إلى أخرى، وفي سياق التطور الملحوظ في قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، والتي تترتب عليها تغيرات في منظومة العلاقات الاجتماعية بين الأفراد، وفي منظومات السلطة والسياسة والدين وغيرها.
ولكن الأمر يختلف بالنسبة إلى النظريات البنيوية على سبيل المثال، فالتغير هنا يمس أنماط التفاعل وأشكال العلاقات، كما يمس بالدرجة الأولى الرموز الثقافية التي يعتمدها الناس معايير للحكم على أنماط سلوكهم، وانحلالها يعني اضطراب أشكال السلوك وغياب اللغة الثقافية الواحدة، مما يجعل أهداف الأفراد متباينة ومتباعدة في كثير من الأحيان. فالتغير هنا يقود إلى التخلف لأنه يبعثر القوى، ويشتت الطاقات، ويجعل المجتمع أقل قدرة على إنتاج الخبرات.
ومع انتشار مفهوم التقدم، أخذ ينتشر إلى جانبه تعبير التقدمية، الذي يراد به الإشارة إلى الجهود والأعمال التي تحاول تفسير مظاهر التغير الاجتماعي الواسعة في ضوء الرؤية التقدمية، ووضع الظواهر المرافقة لهذا التغير في المراحل التاريخية التي تناسبها في سلم التطور الاجتماعي. وبرغم ذلك فإن النموذج الذي كان يعتمد في التقييم والحكم على سلامة الظواهر جاء مختلفاً بين الباحثين، فهو التجربة الشيوعية بالنسبة إلى معظم الماركسيين الذين أخذوا بدراستها، وهو المجتمع الغربي بالنسبة إلى العدد الكبير من علماء الاجتماع الغرب (آرون، وروستو وغيرهما). وبذلك صارت التقدمية مذهباً فكرياً، يحاول تقويم مظاهر التغير بأبعاده المختلفة وتحليلها في ضوء الرؤية التقدمية. وقد صارت الحركة التقدمية تضم أعداداً كبيرة من المفكرين والاجتماعيين والسياسيين في مختلف بقاع العالم، ولها ميادينها في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة وفي مختلف مجالات النشاط الإنساني.