بقلم: الدكتور نبيل طعمة ✅
استعرض مقالات الكاتب | تعرف على الكاتب 14-10-2021 - 4317 دعونا نلقِ نظرةً على عالم اليوم، فماذا نرى؟ أزمات متلاحقة متراكمة، آخذ بعضها برقاب بعض، لا يجدُ أحدنا لها مخرجاً، وكلما وجدَ حلاً ظنَّ منه الخلاص، انتهى إلى أزمة، أو دخل في أزمات، وحيث بلغ العالم اليوم مسيره، نجد أن الحضارة بقيت حيث هي في طريقها، الماضي الذي يتعلق به هذا العالم من دون استثناء. كانت هناك أمم، ومن بينها كانت الأمة العربية، التي عوّلت عليها شعبها بإيمان لا مثيل له، لكن الذي حصل بعد أن كانت قريبة من نهوضها، جُرَّت إلى صراعات، أخذت بها إلى الحياة المادية وصناعة آليات أكبر منها، حيث حلمت بمستوى مرتفع لهذه الحياة ومتطلباتها، فكان من جرائها ثورات عقائدية فكرية سياسية وشعبية، أطاحت بكل المفاهيم الجامعة، وأهمها مفهوم الأمة، ليتحول أبناؤها إلى ماديةٍ تقضم أهداف الإنسان وقواعد سلوكه، دون إدراك من الواقع، وإنكار لجميع القيم الأخلاقية التي تربّت عليها، ووصلت إلى درجات من الضعف، تشبه الموت في العواطف والمشاعر الإنسانية، وإلى نظم حكم لا تقيم وزناً إلا لتحقيق الأهداف المادية، ما أظهر شكلاً جديداً لهذه الأمة، التي علا فيها صوت الانقسام والتشرذم نتاج استنادها إلى ما ذكرت من أشكال فلسفية أو سياسية مستوردة، وأهمها شرذمة الفكر الديني وضرب لغته الجامعة، ما ولّد أنظمة للحكم تؤيد ذاك التشرذم، الذي اعتبر من خصائص هذه المرحلة، إضافة إلى تفعيل النزعات إلى الشعوبية وخلق تيارات متباعدة أو متعارضة، وهذا أدى إلى استحكام الأزمات في مجالات تكوين الأمة ونمو الاقتصاد وتدمير الأخلاق؛ أي أعدمت هذه الحالة شخصية الأمة، وأعلنت انتهاء دورتها. الأمة وجدان أبنائها، ومن يتخلَّ عن الأمة يتخلَّ عن وجدانه، ويخرج من إنسانيته، وجليٌّ أن مشاريع الوحدة انتهت، أو غدت بعيدة المنال أمام استمرار ما يجري، إلا أن الرسالة الخالدة للأمة يجب أن تبقى، وأن تتعزز بقوة وإيمان، لأنها صبغة الكل، لذلك نجد أن جميع الشعوب والأمم تبحث عن جامع لامع، يمسك بزمام أمورها، يقودهم إلى إدراك ما يَسمون إليه لاستنهاض وإيقاظ مشاعرهم التي تستمدُّ عناصرها من تراثهم النوعي، حيث يعتبرونه مفتاح حلٍّ لأزماتهم، يبدأ من واقعهم، يسير بهم إلى مستقبلهم. وصل هذا القائد ونهض من بين أبنائهم، وشرع في نشر الحلول، لكن وللأسف كانت الأمة غير مستعدة للنهوض، وأكثر من ذلك أنها حاربته بكل ما أوتيت من قوى، باللاوعي الذي يستند إلى التخلف، وبالوعي الموجه من قوى تهاب نهضة هذه الأمة، لأن نهوضها يعني نهوضاً للحضارة الإنسانية أمام مغريات الحداثة المادية التي يطلقون عليها حضارة الحاضر، وما هي إلا سيطرة مادية واستغلال للشعوب والأمم، ولكي ينجح هذا كان عليها القيام بشرذمة الشعوب ومنع قيامة أممها، وهذا ما يحدث مع الأمة العربية التي منبعها سورية التاريخية، والباقي منها بحكم موقعها الإستراتيجي الممتاز بالنسبة للعالم، وما حملته ماضياً إلى الغرب من تراث وأديان ومبادئ وأفكار ومعارف وأخلاق، فهي مركز إشعاع الأمة ونواة قيامة العالم العربي الإسلامي، كانت في المبتدأ منها، فخافوا الخبر الذي تنبعث أشعته على الأمة وعليهم، وخصوصاً في موضوعي العروبة والقومية، ومعهما حددت معالم الشخصية العربية وخصائصها وعناصر رسالتها، هذا التأسيس الذي يمنع من الانحراف عن الجادة العربية القوية، ويستعيد مَنْ وقع فيه بتأثير التبعية أو بسبب الظروف الخاصة. وقعت الأمة في حالة كارثية عندما ابتعدت عن سورية العروبة والإنسان، ووجدت نفسها أمام فراغ فكري، استغله الغرب، وأخذ يضخ فيه، لأنها لم تقدر على ملئه من ثقافتها وروحها وأخلاقها، فحدث الذي لم يكن في الحسبان، وها نحن اليوم ومع نهاية الذي جرى، أرى أننا قادرون، بل الأقدر من هذه الأمة، على إنقاذ رسالة الأمة، من خلال التقدم لتحفيز الوعي الذاتي المطلوب، ولإحداث الوعي في أهمية رسالتها، وهذا يتم من خلال عمليات جذرية ومتلاحقة، للخروج مما أُريدَ لهذه الأمة الوصول إليه. أعود مرة ثانية لأقول: إن شرقنا العربي تمثله سورية، حيث جرى ذاك الاتصال الإعجازي بين السماء والأرض، بين عالم المادة وعالم الروح، وبه تمَّ تأسيس الدعوات الإنسانية الكبرى، وظهور أنبل الأفكار الإلهية والوضعية مع رجالات نادرة، حيث أرى من خلالها أنها قادرة في هذا الزمن الممتلئ بالرداءة، أن تنقذ الأمة المعذّبة الحائرة، وأن تعيد إليها ألقها وحضورها.
لا يوجد صور مرفقة
|