قمة موسكو بين الرئيسين بشار الأسد وفلاديمير بوتين ليل الإثنين 13 أيلول الجاري مهمة للغاية، ودعوني أعطي بعض المؤشرات على أكثر من جانب:
أولاً: الجوانب الشخصية:
كثيراً ما حاولت وسائل الإعلام الغربية والنفطية إظهار أبعاد شخصية في العلاقات السورية- الروسية، والبناء عليها لسيناريوهات وهمية ضمن إطار الهجوم المستمر على السياسات الروسية، والتشكيك في علاقات التحالف القائمة بين دمشق وموسكو.
هنا سأشير إلى أمرين:
تهنئة الرئيس بوتين للرئيس الأسد بعيد ميلاده الذي صادف قبل أيام من الزيارة (11/9/2021) والروس يهتمون جداً بهذه المناسبات الشخصية، فالتهنئة بعيد الميلاد تعبير عن العلاقة الشخصية، والاحترام العالي.
تركيز الرئيس بوتين في حديثه للرئيس الأسد على التهنئة بالانتخابات الرئاسية التي أكدت كما قال بوتين حرفياً «أن السوريين يثقون بك، وبالرغم من كل الصعوبات، والمآسي التي شهدتها السنوات السابقة، فإنهم يعولون عليك في عملية العودة للحياة الطبيعية».
هنا يرسل بوتين رسائل دولية، ولمن يعنيهم الأمر في كل مكان بأن:
الرئيس بشار الأسد الرئيس الشرعي للجمهورية العربية السورية بإرادة شعبه، وليس بدعم روسي كما دأبت وسائل الإعلام الغربية والمعادية على الترويج له طوال السنوات الماضية. وهذا الملف يجب أن يغلق لأن الشعب السوري حسمه.
إن الشعب السوري يعول على الرئيس الأسد في عملية العودة للحياة الطبيعية، أي إن الرئيس الأسد هو مفتاح المستقبل لسورية، كما كان عاملاً حاسماً في الثبات والصبر، وقيادة الجيش والشعب لمكافحة حرب عالمية فاشية على بلاده.
هذا يعني أن على القوى التي حاربت الرئيس الأسد طوال عقد من الزمن أن تتعاطى مع هاتين النتيجتين لأنهما واقع فرضه الشعب السوري بإرادته داخل سورية وخارجها، وليس واقعاً فرضته روسيا على أهمية الدعم الروسي، فكل نظام سياسي أو رئيس لا يحظى بدعم شعبه والقواعد الاجتماعية الواسعة لا يمكنه أن يستمر، وهو ما كان يتحدث عنه الرئيس بشار الأسد طوال السنوات الماضية، وتجربة الولايات المتحدة في أفغانستان تثبت لها قبل غيرها أن تصنيع الرؤساء وتنصيبهم بقوة أجنبية سينهاران حين خروج هذه القوات وأشرف غني يعدّ نموذجاً، وجيشه نموذج آخر في حين أن الرئيس الأسد قاد جيشه لسنوات عشر بدعم شعبه ضد حرب عالمية حقيقية وفاشية، وحقق الانتصار، إذاً هذه الأسطوانة المشروخة انتهت، وأعتقد أن ملك الأردن عبد اللـه الثاني قال ذلك لـ«سي إن إن» قبل فترة، والرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون وصل إلى هذه النتيجة عندما اعتبرها على مضض أمراً واقعاً! وهي أمر واقع بإرادة السوريين أحب ذلك أم لم يحب.
ثانياً: في المضمون والأهداف:
الاجتماع المغلق بين الرئيسين استمر 90 دقيقة، وهو ما يدل على أهمية الملفات التي تم بحثها، وأعقب ذلك لقاء موسع انضم إليه وزير الخارجية السوري فيصل المقداد ووزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو لمدة 45 دقيقة، وغياب لافروف كان بسبب سفره إلى نيويورك.
انضمام وزير الدفاع الروسي شويغو يؤشر إلى أن الملفات الساخنة التي بحثت كانت مكافحة الإرهاب، إذ يبدو أنه جرى تقييم الوضع ما بعد إنهاء الإرهاب في درعا، والمرحلة الجديدة القادمة حيث تتجه الأنظار نحو إدلب، وتعنت النظام التركي في عدم تنفيذ الاتفاقات مع موسكو، ومحاولة التنصل منها، وشراء الوقت، والكذب، وهو أمر أعلنه لافروف قبل أيام حينما قال: «إن تركيا لن تنفذ التزاماتها»! وأعقبت ذلك غارات روسية سورية لضرب معاقل الإرهابيين في إدلب.
المؤشر الآخر، هو ما قاله الرئيس بوتين من أن المشكلة تكمن في القوات الأجنبية الموجودة في مناطق معينة من البلاد، من دون قرار من الأمم المتحدة ومن دون إذن من الرئيس الأسد، ما يتعارض حسب كلام الرئيس بوتين بشكل واضح مع القانون الدولي ويمنع الرئيس الأسد من بذل الجهود لإعادة وحدة البلاد، والمضي قدماً في طريق إعادة الإعمار.
كلام بوتين هنا موجه: للاحتلال الأميركي شمال شرق سورية، والاحتلال التركي الداعم للإرهاب، والذي لديه مشروعه الخاص شمال غرب سورية.
واضح أن المهمة القادمة بعد درعا، هي إدلب والعمل على إنهاء هذا الملف تدريجياً عبر فرض فتح طريق M4 لربط إدلب مع اللاذقية وحلب، وإنهاء وجود التنظيمات الإرهابية، مقابل جهد تركي مكشوف لعزل المحافظة تمهيداً لفرض الضم كأمر واقع، وهو ما سوف تحبطه دمشق وموسكو عبر التسويات أو العمل العسكري.
تأتي هذه الزيارة أيضاً قبل لقاء روسي أميركي مرتقب في جنيف بين نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي فيرشينين، وممثل الرئيس الروسي ألكسندر لافرينتييف مع مسؤول الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي الأميركي بريت ماكغورك، حيث سيبحث الملف السوري بالتفصيل بين الجانبين مع تسريبات حول اقتراب أميركي أكبر نحو القراءة الروسية للوضع في سورية، لكن لا يزال هناك تشكيك روسي في النيات الأميركية بشأن تقسيم سورية والاستمرار في دعم المشروع الانفصالي شمال شرق سورية، ما يتطلب وضع سيناريوهات للمواجهة في تلك المنطقة خلال المرحلة القادمة، وخاصة أن هناك مؤشرات على ذلك منها أن ماكغورك نفسه من مؤيدي الفدرلة، وما يسمى بالمشروع الكردي «كوردستان الكبرى» أو «إسرائيل الثانية» في القرن الحادي والعشرين، لأن هذا المشروع لا علاقة له بمظالم ثقافية أو حقوق مواطنة أو قضايا تنموية يمكن حلها بالحوار الداخلي في سورية، ذلك أن إسرائيل وواشنطن ليستا بوابتين لحل ما يسمونه مظالم تاريخية.
كما تأتي هذه القمة على خلفية تحولات جيوسياسية كبيرة تمثلت بالانسحاب الأميركي من أفغانستان، وما رافقه من لغط كبير، وتراجع واضح للهيبة الأميركية، مع اجتماع عمّان الرباعي، وقمة بغداد، والأهم ما سرب من تصريحات نقلاً عن مسؤول خليجي كبير نقلته وكالة «رويترز» وكتب عنها المحرر الدبلوماسي في «الغارديان» باتريك وينتور حيث يرى هذا المسؤول أن:
عودة طالبان هزة أرضية مدمرة ستؤثر في مسار الشرق الأوسط لسنوات قادمة.
لا ثقة بطالبان وتصريحاتهم تغيير في التكتيك.
الانسحاب الأميركي تراجع عن «عقيدة كارتر»، أي استخدام القوة للدفاع عن مصالح أميركا في الخليج.
توقيع اتفاقية الدفاع بين السعودية وروسيا إشارة إلى مرحلة «ما بعد عصر الكربون» أي اعتماد دول الخليج على تنويع مصادرها الأمنية بعيداً عن الولايات المتحدة.
تسريع الحوار السعودي الإيراني.
في ضوء هذه التحولات الكبرى لما سماه المسؤول الخليجي «ما بعد عصر الكربون»، يمكن قراءة قمة الرئيسين الأسد وبوتين، وملاحظة أن المرحلة القادمة ستركز على إخراج القوات الأجنبية المحتلة، والاستمرار بمكافحة الإرهاب في إدلب حتى استعادة الدولة السورية كامل سيادتها على أراضيها، فالمعادلات الإقليمية والدولية تتجه لخدمة هذا الهدف الإستراتيجي، ويترافق ذلك مع تركيز سوري روسي على التعاون الاقتصادي والثقافي الذي يفترض أن يشهد انطلاقة واضحة المعالم لإعادة ضخ الدم في شرايين الاقتصاد السوري، ولكن الأساس والطريق هو إنهاء الاحتلال ومكافحة الإرهاب، وإذا كان البعض يشكك باستمرار في نيات موسكو فتأتي لقاءات الرئيسين لتؤكد أن العلاقات بين البلدين صحيح أنها تقوم على المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة، ولكنها محمية برؤى وأهداف ومبادئ مشتركة أيضاً.
قديماً قال رئيس وزراء روسيا الأسبق الراحل يفغيني بريماكوف: «إن روسيا الاتحادية لا يمكنها إلا أن تكون في الشرق الأوسط، ولا أريد أن يتكون انطباع لدى أياً كان بأنها تنوي الذهاب من هناك»، وهذا ما يريده بوتين والرئيس الأسد، فوجود روسيا مصلحة سورية لبناء عالم متعدد الأقطاب في المرحلة القادمة في «عصر ما بعد الكربون».