قصفت الطائرات الإسرائيلية قبل أيام مواقع في جنوب لبنان لأول مرة منذ عام 2014، وتوعدت "إسرائيل" باستمرار سياسة القصف وازدياده رداً على أي عملية فدائية ضدها تخرج من الأراضي اللبنانية، وأعلنت أن الدولة اللبنانية تتحمل كامل المسؤولية عما يجري في أراضيها، وبالتالي أدرك حزب الله أن "اسرائيل" رغم عدم جهوزيتها في الحرب المفتوحة معه وعدم رغبتها في ذلك، فإنها تسعى إلى تغيير قواعد الاشتباك على الجبهة اللبنانية، بحيث تسجل سابقة في قصفها بالطائرات لمواقع داخل الأراضي اللبنانية من دون أن يكون هناك رد من حزب الله، كما اعتقدت ذلك التقديرات الاستخباراتية للمؤسسة العسكرية الإسرائيلية.
فاجأ حزب الله "إسرائيل" بإطلاق أكثر من عشرين صاروخاً تجاه شمال فلسطين المحتلة، والأهم تبنيه هذا القصف ببيان رسمي صادر عنه، الأمر الذي أربك حسابات الاستخبارات الإسرائيلية التي قدمت تقديراً للمستوى السياسي مفاده أن حزب الله لن يستطيع الرد على القصف الإسرائيلي للداخل اللبناني، على ضوء حالة الانهيار الاقتصادي والخدماتي والفراغ السياسي في لبنان، وأن حزب الله حتى ولو أطلق بعض الصواريخ فإنه لن يتبناها بالشكل الرسمي وستبقى مجهولة المصدر. تدفعنا الفجوة ما بين التقديرات الاستخباراتية الإسرائيلية لطبيعة رد حزب الله، وبين ما قام به الحزب فعلياً، إلى البحث عن الأسباب التي تقف وراء قيام حزب الله في ذلك.
يدرك الجميع أنه طرأت خلال السنوات الماضية تغيرات أساسية أثرت على طبيعة الصراع ما بين حزب الله و"إسرائيل"، أهمها أن كلاهما باتا مدركين أنهما جزء من محورين متصارعين في المنطقة، فحزب الله يمثل رأس حربة محور المقاومة، و"إسرائيل" تعتبر نفسها ركيزة المحور الصهيو- أميركي التطبيعي في المنطقة، وبالتالي حسابات الاشتباكات اختلفت لدى كلا الطرفين.
يشعر حزب الله أن هناك خطة استراتيجية من قبل الحلف الصهيو-أميركي التطبيعي لمهاجمة لبنان سواء بشكل علني أو سري، وعلى مستويات متعددة، من أجل خلق حالة مفتعلة من الانهيار والفوضى داخل لبنان، الأمر الذي يؤدي إلى تدمير الأسس والمرتكزات التي يقوم عليها السلم الأهلي للمجتمع لبناني، وبالتالي خلق مستنقع جديد من الاقتتال الداخلي على غرار عشرية الدم في سوريا تستنزف قوة حزب الله وتدمر مقدراته، وتفتح الباب مجدداً لتنفيذ مخططات الحلف الصهيو أميركي في المنطقة، وأهمها إشغال محور المقاومة في اقتتال داخلي بعيداً من "إسرائيل" من جهة، ومن جهة أخرى استنزافه عسكرياً واقتصادياً وجماهيرياً حتى الاندثار.
ساهم فهم حزب الله لتموضعه الاستراتيجي كجزء هام داخل محور المقاومة في إيجاد استراتيجية دفاعية عن لبنان أولاً، وعن قوة المقاومة اللبنانية ثانياً، لكن خصوصية هذه الاستراتيجية الدفاعية أنها تعتمد على الهجوم، تحت عنوان "خير وسيلة للدفاع الهجوم"، ومن خلاله يسعى حزب الله إلى التحكم في إيقاع الاشتباك استباقياً مع "إسرائيل"، بمعنى أخذ زمام المبادرة بدلاً منها من أجل ضبط وتيرة الاشتباك من جهة، والدفاع من خلال الهجوم المدروس والمضبوط من جهة أخرى، خاصة مع إدراك "إسرائيل" أن حزب الله جزء من محور ممتد على جغرافية واسعة من السهل أن تتفجر بوجهها بشكل جماعي كما تجلى إرهاصات ذلك في أكثر من محطة، آخرها معركة "سيف القدس"، لذلك لا يمكن أن تجازف "إسرائيل" بالذهاب إلى حرب مفتوحة مع هذا المحور من دون تجنيد محورها الصهيو-أميركي التطبيعي في المنطقة. هنا تصطدم "إسرائيل" فعلياً بعدم رغبة الولايات المتحدة في تلك الحرب بسب حساباتها العالمية الباحثة عن الانسحاب من الشرق الأوسط بأقل الخسائر، أضف إلى ذلك أن "إسرائيل" لا تثق بأن مساندة دول التطبيع في الحلف الصهيو- أميركي في أي حرب مفتوحة ستكون ذات وزن مؤثر لصالحها، خاصة على ضوء تجاربها في المنطقة.
وفي السياق ذاته تجدر الإشارة إلى حسابات لاعب كبير آخر في المنطقة وهو الروسي، الذي أصدر إشارات لـ"إسرائيل" إلى أنه لن يقبل بحرب مفتوحة تؤثر على مصالحه في سوريا بشكل خاص وفي المنطقة بشكل عام.
وبالتالي تهدف صواريخ حزب الله والإعلان الرسمي عنها إلى تحديد وتثبيت قواعد الردع مع "إسرائيل"، والأهم قطع الطريق على مساعيها وحلفائها في فرض معادلات وقواعد اشتباك يصبح فيها لبنان بكامله مسرحاً لتنفيذ مخططاتها التخريبية في المنطقة، لذلك لا تسعى صواريخ حزب الله إلى حرب مفتوحة مع "إسرائيل"، ولكنها تحمل معها رسالة واضحة من حزب الله ومن خلفه أطراف محور المقاومة أنهم جاهزون للتصدي لأي محاولة لتغيير قواعد الاشتباك حتى ولو كان الثمن الذهاب إلى حرب إقليمية