يبدو أن ما صرح به سيرجى لافروف وزير الخارجية الروسى فى لقائه مع نظيره البحرينى فى موسكو (الجمعة 2/7/2021) حول عودة سورية قريبة إلى جامعة الدول العربية لم تكن مجرد نبوءة أو توقع ولكن كانت أكثر من ذلك إذا أخذنا فى الاعتبار أن هذا التصريح جاء بعد أربعة أيام فقط من تصريحات مناقضة وردت على شكل تكليف أمريكى للدول العربية الصديقة أو الحليفة لواشنطن ورد على لسان أنتونى بلينكن وزير الخارجية الأمريكى فى المؤتمر الوزارى الموسع الذى عقد فى روما (الاثنين 28/6/2021) الخاص بسوريا طالب فيه بوقف أى جهود ترمى إلى تطبيع العلاقات العربية مع سوريا وعودة سوريا إلى جامعة الدول العربية، وزاد على ذلك مطالبة الدول العربية بالتوسع فى تطبيع علاقاتها مع كيان الاحتلال الإسرائيلى.
عندما أدلى أنتونى بلينكن بتصريحاته تلك طرحت العديد من التساؤلات حول مدى جدية نوايا واشنطن لفرض مشروع ما سمى بـ "السلام الإبراهيمى" الذى دشنته إدارة الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب من خلال اندفاعة التطبيع الإماراتى- البحرينى مع إسرائيل فى ظل أجواء تؤكد تعثر هذا المشروع لدرجة الحديث عن غيابه عن أدبيات الخطاب السياسى للإدارة الأمريكية وللخارجية الأمريكية، ووجود مؤشرات جديدة لتفكك رابطة هذا المشروع من خلافات سعودية – إماراتية آخذة فى الصعود وتقارب سعودى – عمانى عبرت عنه زيارة السلطان العمانى هيثم بن طارق آل سعيد للسعودية فى زيارة هى الأولى من نوعها للسلطان العمانى الجديد، أمس الأول الأحد (11/7/2021) وتخصيص مدينة نيوم لتكون مكان اللقاء بين السلطان العمانى والعاهل السعودى سلمان بن عبد العزيز، وهى المدينة التى تجسد رؤية ولى العهد السعودى محمد بن سلمان المستقبلية ومركز الحكم الجديد الذى ينافس مشروع مدينة دبى الإماراتية، بكل دلالات ذلك، وخاصة وجود فرص لتقارب سعودى- عمانى، يتوازى مع تقارب سعودى- قطرى، ما يعنى احتمال تشكيل محور خليجى جديد ليس على وفاق كامل مع محور "السلام الإبراهيمى" الإماراتى- البحرينى مع إسرائيل.
زيارة السلطان العمانى إلى مدينة نيوم ولقائه بالعاهل السعودى وولى عهده سبقتها تصريحات مهمة لوزير الخارجية العمانى بدر بن حمد بن حمود البوسعيدى أدلى بها لصحيفة سعودية تمهيداً لزيارة السلطان العمانى للسعودية أكد فيها أن بلاده "لن تكون ثالث دولة خليجية تطبع مع إسرائيل" مشيراً إلى دعم بلاده لعودة سوريا إلى الجامعة العربية.
الآن هل يمكن القفز خطوات فى التفكير والقبول بما ورد من تصريحات تخص العودة السورية القريبة إلى جامعة الدول العربية، الأمر الذى يعد تحدياً، وليس مجرد رفض لتعليمات وزير الخارجية الأمريكى أنتونى بلينكن بهذا الخصوص؟
يبدو أن هذا النوع من التفكير يمكن أن يكون منطقياً لأسباب كثيرة بعضها يخص ما يجرى من تطورات إقليمية وبعضها الآخر يخص جديد العلاقات الأمريكية- الروسية بعد قمة الرئيس الأمريكى جو بايدن مع نظيره الروسى الشهر الماضى فى جنيف .
التطورات الإقليمية كثيرة وخطيرة أبرزها بالطبع سحب الولايات المتحدة لجزء مهم من قواتها فى المنطقة بتبرير يقول أن الأولوية الآن لمواجهة الخطر الصينى وتركيز الوجود العسكرى الأمريكى فى جنوب شرق آسيا لهذا الغرض، إضافة إلى التداعيات الخطيرة المحتملة للانسحاب الأمريكى من أفغانستان واحتمالات سيطرة حركة طالبان على السلطة فى كابول .
تداعيات هذا الانسحاب تشمل الكثير من الملفات شديدة الأهمية منها مستقبل العلاقات الإيرانية مع أفغانستان، والدور الروسى المنتظر فى التعامل مع حكم طالبان هل احتواء أم صداقة أم صراع، ومدى قدرة تركيا على القيام بوظيفة حماية المصالح الأمريكية فى أفغانستان إذا أضفنا إلى ذلك مجئ رئيس إيرانى جديد للحكم فى طهران ينتمى إلى التيار الأصولى المتشدد الأقرب إلى المرشد الأعلى السيد على خامنئى والحرس الثورى الإيرانى، وتعقد مفاوضات فيينا الخاصة بالاتفاق النووى الإيرانى، وتجدد المواجهات العسكرية فى العراق ضد القوات الأمريكية. كلها ملفات تؤكد أن الإدارة الأمريكية للرئيس جو بايدن فى وضع شديد الصعوبة لدرجة لا تعطيه الفرصة لتأزيم العلاقة مع روسيا فى هذه الظروف فى الأزمة السورية.
أما ما يخص التطورات الدولية فالقمة الأمريكية – الروسية بين بايدن وبوتين فى جنيف كشفت أن الرئيس جو بايدن يحاول تخفيف احتقان العلاقات بين واشنطن وموسكو ، ويأمل فى خلق تنافس روسى- صينى يعرقل تقدم الصين فى المواجهة مع أمريكا. وهذه المحاولات يبدو أنها تضمنت تهدئة للأوضاع فى سوريا وبالتحديد تخفيف الأعباء الأمريكية فى سوريا، وأن واشنطن على استعداد لتقديم تنازلات لروسيا فى سوريا مقابل تقديم روسيا تنازلات لأمريكا فى ملفات أخرى، وهذا ما أكدته النتائج النهائية للمواجهة الدبلوماسية الروسية- الأمريكية الساخنة التى جرت فى مجلس الأمن على مدى الأسبوعين الماضيين بخصوص إصدار قرار دولى من المجلس يخص "إيصال المساعدات الدولية الإنسانية عبر الحدود" إلى سوريا، أى عبر المناطق الواقعة خارج سيطرة السلطة المركزية فى دمشق والخاضعة إما للمتمردين التباعين لتركيا فى شمال غرب الفرات، أو للمتمردين التابعين للأمريكيين فى شمال شرق الفرات.
فقد انتهت تلك المواجهة بصدور قرار توافقى بين واشنطن وموسكو أقرب إلى الموقف الروسى منه إلى الموقفين الأمريكى والأوروبى وحصر تقديم تلك المساعدات عبر معبر واحد بدلاً من ثلاثة على نحو ما كان يريد الأمريكيون هو معبر "باب الهوى" الخاضع للسيطرة التركية. واضح أن إدارة بايدن كانت تتلهف على موافقة روسية للاستمرار فى تقديم المساعدات الإنسانية عبر المعابر الحدودية حتى ولو كانت عبر معبر واحد، ليس هذا فقط بل أن القرار استجاب للمطالب الروسية وابتدع ما أسماه بـ "سياسة الانعاش المبكر" فى إشارة جديدة لاحتمال توسيع المساعدات وتوصيلها إلى كل الشعب السورى بل وإلى مشاريع أقرب إلى مشاريع "إعادة الإعمار" التى يرفضها الأمريكيون والأوروبيون باعتبارها "تطبيعاً" مع نظام الرئيس الأسد .
تطورات تؤكد كلها وجود حالة استرخاء أمريكية اضطرارية فى سوريا تحرص روسيا على استغلالها ليس فقط من أجل إعادة سوريا إلى الجامعة العربية ولكن أيضاً لتحقيق ما ورد على لسان ألكسندر لافرنتييف رئيس الوفد الروسى فى مفاوضات "الجولة الـ 16" ضمن إطار "مسار أستانة" الذى عقد على مدى يومين فى العاصمة الكاخزستانية (7-8/7/2021) بمشاركة روسية- إيرانية – تركية . ففى مؤتمر صحفى عقب نهاية تلك الجولة طالب لافرنتييف بوضع حد لاستخدام أساليب العقاب الجماعى بحق الشعب السورى مع ضرورة الحفاظ على سيادة سوريا ووحدة أراضيها وقال بالنص: "نأمل بشدة أن الوجود العسكرى المحدود للولايات المتحدة وبعض الدول الغربية فى شمال شرق سوريا، والوجود التركى فى شمال غرب سوريا يحمل طابعاً مؤقتاً، وسيتم سحب هذه القوات فى المستقبل القريب مع استقرار الوضع فى البلاد".
طموح روسى من المؤكد أنه سيبقى اختباراً لمدى جدية الإصرار الروسى على الفوز بسوريا تحدياً لواشنطن .