انتصرت فلسطين بشعبها ومقاومتها. وهذه حقيقة سيكون لها ما بعدها. ومن أبرز عوامل هذا الانتصار أن الشعب الفلسطيني توحّد في مواجهة شاملة ضد العدو، في كل فلسطين وعلى كل فلسطين. للمرة الأولى في تاريخ الصراع، سقطت الحواجز التي أقامها العدو الصهيوني وحرسها بقوة النار والقمع، وتوحد الفلسطينيون في الداخل، على جانبي ما يسمى «الخط الأخضر»، وعلى حدود المناطق (أ) و(ب) و(ج) في الضفة، بل وكاد اللاجئون أن يسقطوا الحدود بين الدول العربية والأرض المحتلة من جهتي الأردن والجنوب اللبناني. كما أسقطت معركة «سيف القدس» محاولات العدو حصر المقاومة في سجن غزة وعزلها عن دائرة الفعل السياسي والميداني في ما يجري في الضفة والقدس. ففرضت المقاومة نفسها كحامية للوجود وللحق الفلسطينيين على مساحة كامل الوطن. ومن الإنصاف القول إن النصر الميداني هو المقدمة وليس المنتهى. وبات لزاماً على الشعب الفلسطيني، بكل قواه ومكوناته، البحث عن حماية هذا الانتصار والبناء عليه. فلا شك في أن رعاة الكيان الصهيوني سيندفعون بشراسة للدفاع عنه وحمايته من الانهيار. وفي تاريخنا الطويل من الصراع مع هذا العدو شواهد على تدخل الغرب، خصوصاً الإدارة الأميركية، لقلب خسارة العدو الميدانية إلى مكاسب سياسية.
تثبيت الانتصار الفلسطيني يتطلب تعزيز العوامل التي أسهمت في صنعه أولاً، والبناء على التراكم الثوري والجهادي لشعبنا في صراعه الطويل مع العدو، ثانياً. إنّ الانتصار الذي تحقق هو حلقة أساسية ونوعية ضمن سلسلة حلقات هذا الصراع، وليس معزولاً عنها. أولى الخطوات التي يجب ترسيخها هي حماية المعادلة الجديدة التي أرساها شعبنا، والقائمة على أن الاعتداء والعدوان على أي جزء من فلسطين أو جزء من الشعب الفلسطيني اعتداءٌ وعدوان على الكل. لم يعد جائزاً السماح للعدو بالاستفراد بالضفة أو القدس أو غزة أو حتى بأهلنا الصامدين في الأراضي المحتلة عام 1948. أعادت معركة «سيف القدس« رصّ صفوف الشعب في كامل فلسطين، وأفشلت عقوداً طويلة من مشاريع العدو لتقسيمه. هذا إنجاز يتحمل مسؤولية الحفاظ عليه الكل الفلسطيني في الداخل والخارج. وإن كان وارداً بقوة أن تسعى حكومة الكيان جاهدة للانتقام من أهلنا في الـ 1948، وأن تسعى بكل الوسائل إلى إعادة فرض سيطرتها العنصرية البغيضة عليهم، فإنّ قوى شعبنا يجب أن تكون جاهزة ومستعدة لمواجهة ذلك. كما تتطلب حماية المعادلة الجديدة ترسيخ وحدة حقيقية بين القدس والضفة وغزة، والإبقاء على التواصل الشعبي والثوري قائماً مع أهلنا في الداخل المحتل، ومع شعبنا في مخيمات اللجوء في الخارج. من المهم أيضاً الحفاظ على روح المقاومة متأجّجة في أبناء شعبنا في كل مكان.
للمرة الأولى في تاريخ هذا الصراع، انتصرت الرواية الفلسطينية على الأكاذيب الصهيونية في قلب الرأي العام الغربي والعالمي لمصلحة قضيتنا. تميّز التأييد الشعبي العالمي مع قضية شعبنا، خلال هذه المعركة. بعبارة أخرى، كان الصوت الفلسطيني أعلى وأكثر صدى وفعالية وانتشاراً من الصوت الصهيوني، واستطاع زعزعة الاقتناع العالمي بأصل شرعية الكيان وحقه في الوجود، وهذا ما تنبّهت إليه الحكومة الصهيونية، ودق أجراس الخطر والإنذار لديها. هذا التحول جاء نتيجة جهود كبيرة وجبارة بذلها أفراد نجحوا في الاستفادة من وسائل التواصل رغم كل محاولات كتم الصوت الفلسطيني وخنقه. وغني عن البيان أن الحفاظ على هذا الزخم في المرحلة المقبلة مهم جداً، ويتطلب أداءً سياسياً مسؤولاً من كل القوى الفلسطينية. أيضاً لقد حسمت «سيف القدس» الجدل الفلسطيني الداخلي بشأن ملفات مزمنة، مثل: الوحدة والمصالحة والمشروع الوطني، أو هذا ما ينبغي أن يكون. عقارب الساعة لا تدور إلى الوراء. وكل محاولة تُبنى على أسس سياسية تكسرت في أتون المعركة ستكون مضيعة للوقت، وإمعاناً في تمييع النصر. بات مطلوباً اليوم، بقوة وأكثر من أي وقت مضى، البناء على نتائج ما حققته المعركة، عبر مقاربة سياسية ترسخ الوحدة بين أبناء الوطن الواحد. وإذ برهنت المواجهة الأخيرة أن القدس لن تكون عاصمة للكيان الصهيوني، وأن مشروع الضم سيواجه بقوة، من اللازم أيضاً ترسيخ هذه النتائج في معادلات سياسية جديدة تنهي الانقسام، وتعزز التواصل بين كل أبناء الشعب في كل الداخل وكل الخارج، وإعادة الاعتبار إلى حق اللاجئين من أبناء شعبنا في العودة إلى أراضيهم وبيوتهم التي أخرجوا منها. هذه كلها قضايا تحتاج لتثبيتها إلى وحدة داخلية وفق برنامج وطني موحد، على قاعدة الانتصار والمقاومة لا المفاوضات والمساومة. على السلطة أن تعيد حساباتها وتستعيد تموضعها في داخل الصف الوطني والخروج من مشروع التسوية، وأن تراكم على إنجازات المقاومة. لا ينبغي بحال تقزيم الإنجاز الكبير الذي تحقق باعتباره إنجازاً لخصم سياسي داخلي على حساب الصراع مع العدو الذي يستهدف الجميع.
خاض شعبنا الفلسطيني، بقيادة مقاومته، معركته دفاعاً عن المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس، نيابة عن الأمة العربية والإسلامية بأكملها. وعليه، النصر الذي تحقق هو، موضوعياً، نصر للأمة كلها، بشعوبها وحكوماتها، حتى التي تخلت منها عن فلسطين في لحظة ما. على المستوى الإقليمي، شكّل الانتصار فشلاً ذريعاً لمشروع التطبيع الصهيوني القائم على احتواء الأنظمة العربية وإعادة إنتاج النظام العربي وفق محور عربي ــ صهيوني في مواجهة إيران. يحتاج الشعب الفلسطيني إلى مجهود الجميع لكي يراكم على الانتصار، ويعيد بناء أرضه، وأن يحمي قضيته بأشقائه وإخوانه. لا ينبغي أن نسمح لجريمة التطبيع النكراء أن تتحول إلى نزاع بين الشعوب التي طبّعت أنظمتها مع الكيان الصهيوني والشعب الفلسطيني. لطالما أدرك شعبنا أن عدوّه الوحيد هو المشروع الصهيوني فوق أرض فلسطين. والغضب الشعبي من التطبيع لا ينبغي بحال أن يسوقنا إلى الوضع الذي سعى إليه العدو الصهيوني طويلاً، وهو عزل الشعب الفلسطيني عن محيطه العربي والإسلامي للاستفراد به والانقضاض عليه. بعد «سيف القدس» لن يدخل صهيوني واحد عاصمة عربية إلا مطأطئ الرأس ذليلاً، مكسور العنجهية والكبرياء. في اعتقادي أن الأنظمة المطبّعة ستكون لها مصلحة أكيدة في دعم الشعب الفلسطيني وصموده فوق أرضه. والمقاومة التي أفشلت التطبيع وهزمت أهدافه بصمودها البطولي، ستثبت معادلتها أكثر حين تجعل من كل العرب والمسلمين شركاء في هذا الانتصار، وحين تجعل يد الكيان الصهيوني هي السفلى في العلاقة مع الأنظمة العربية.
أياً يكن الأمر، ظهرت، قبل المعركة، بوادر استدارة عربية عن التماهي مع هذا المشروع الصهيوني، تمثلت في الحوار الإيراني ــ السعودي في بغداد، وإعادة الاتصال بين الرياض ودمشق. وغني عن البيان أن أي تقارب بين السعودية وإيران، وأي تقارب عربي ــ إسلامي مماثل، من شأنه أن يوفر شبكة أمان إقليمية للمقاومة، ويحمي ظهر قضية فلسطين، ويسهم في تعزيز صمود الشعب الفلسطيني. وعليه، من مصلحة المقاومة أن يتعزز الحوار الإيراني ــ العربي على أسس وركائز ثابتة ومستقرة. لا شك في أن انتصار مقاومة الشعب الفلسطيني يمهّد لزوال الكيان الصهيوني الغاصب، وعودة الأرض إلى أهلها وأصحابها، وعودة أهلها إليها. لكن دون ذلك مدة قد تطول وقد تقصر، وهي بحاجة إلى إدارة سياسية حكيمة هدفها ترسيخ النتائج الميدانية وتحويل الإنجازات العسكرية إلى مكاسب سياسية، لكي يأتي الانتصار متوّجاً بما يليق بدماء الشهداء، وجهاد المقاومين، وصمود هذا الشعب العظيم.