حالما انتهى الرئيس الأمريكى تقديم ما يسمّى بصفقة القرن، بأسلوبه النرجسى المتعالى، وصافح بحرارة اليد المجرمة الملطّخة بدماء ألوف الضحايا الفلسطينية، حتى بدأت ردود الفعل من مختلف الجهات الرسمية العربية.
ما لفت الانتباه والتساؤل هو قول بعض تلك الجهات الرسمية بأن لديها بعض الملاحظات والاعتراضات على مكوّنات تلك الصفقة، لكنها مع ذلك تثمّن الجهد الذى بذله الرئيس الأمريكى.
فى العادة لا يقول الإنسان بأنه يثمّن جهد أحدهم إلا إذا ذكر تفاصيل ذلك الجهد من أفعال حسنة وأهداف نبيلة. ولذلك كان لابدّ من طرح السؤال التالى: خلال الشهور التى سبق الإعلان عن صفقة الظلم للضحية والانحياز للجلاّد، قام الرئيس الأمريكى بإعطاء كل مدينة القدس لتكون عاصمة أبدية للكيان الصهيونى وأتبع ذلك بنقل سفارة بلاده إلى القدس دون مراعاة لحقوق الفسطينيين فى القدس أو أى اهتمام لاعتراضات العرب المسلمين والمسيحيين والعالم الإسلامى برمّته، بل واعتراضات أجزاء كبيرة من هذا العالم.
ثم أتبع ذلك، وبعجرفة قلّ نظيرها، باعتبار الجولان، الجزء المحتل من الأرض العربية السورية، جزءا متمما للكيان الصهيونى. ثم أوقف مساهمة أمريكا فى ميزانية الأونروا التى تقوم بخدمات اجتماعية وإنسانية لستة ملايين فلسطينى طردهم الاحتلال الصهيونى من أرضهم وشرّدهم فى معسكرات وبؤس المنافى وخارج وطنهم. لم يشعر هذا الرئيس حتى بوخزة ذنب وهو يحرم أطفال المخيمات من التعليم، ويحرم كبار السّن من أبسط الرعاية الصحية.
وما إن انتهى من تلك الخطوات التى تتناقض مع كل شرعية دولية وحقوق إنسانية وعشرات القرارات التى اتُخذت فى مجلس الأمن والهيئة العامة للأمم المتحدة حتى انتقل إلى الاعتراف بشرعية بناء المستوطنات الصهيونية من قبل عتاة الصهيونية على أرض فلسطينية إضافية جديدة منهوبة فى الضفة الغربية من فلسطين العربية.
وبعد ذلك مباشرة دعا إلى ضمّ غور الأردن، أى حوالى ربع الضفة الغربية، إلى الكيان الصهيونى.
وتوّج كل ذلك بإشادته الدائمة بقرار يهودية الكيان الصهيونى المحتل دون أن يذكر ولو بكلمة واحدة مصير مليونين من الفلسطينيين العرب القاطنين فى الجزء الفلسطينى المغتصب عام 1948، ولا مصير أربعة ملايين ونصف المليون القاطنين فى الضفة الغربية وغزة، مع أنه يعرف جيدا أن هذا القرار سيعنى فى المستقبل اعتبار كل فلسطينى فى الكيان اليهودى ليس مواطنا وإنما مقيما من خلال إعطائه بطاقة إقامة مؤقّتة.
نعود الآن للسؤال المطروح: هل كل تلك الأفعال الحقيرة المافويّة التى قام بها هذا الرئيس الصهيونى العقيدة والانتماء المطلق هى الجهود التى أشار إليها البعض بالتثمين والتقدير؟ أم أن تلك الجهات تعتبر تلك الخطوات الظالمة الإجرامية بحق اثنى عشر مليون فلسطينى هى خطوات صادقة مدفوعة بنيّة إنسانية؟
لكن ما إن صدمنا بقضية التثمين تلك، التى تطرح ألف سؤال وسؤال عن علاقات عربية ــ أمريكية مشبوهة، حتى طرح البعض مسألة ما يسمّى بالمفاوضات الفلسطينية ــ الصهيونية.
منطق هذا البعض أن هناك العديد من مكونات صفقة القرن التى لديهم اعتراض عليها أو أنها غامضة وتحتاج إلى معرفة تفاصيل أكثر بشأنها، مع أن الولد الصّهر كوشنر قد تفاخر بصبيانية تليق بتجّار العقارات المبتدئين، بأن الصفقة تتكون من ثمانين صفحة، وبالتالى فهى مفصّلة إلى أبعد الحدو. منطق هؤلاء أنه لابّد من العودة للمفاوضات.
مرة أخرى نطرح على هؤلاء السؤال التالى: منذ ارتكاب حماقة أوسلو، بحسن نيّة على الأغلب، تفاوض الفلسطينيون شهرا بعد شهر، وسنة بعد سنة، ولمدة تزيد عن الرُّبع قرن، وقدّموا تنازلات مجحفة بحق قضيتهم الوطنية، لكن الجانب الصهيونى، مدعوما بصورة مطلقة عمياء من قبل النظام الأمريكى المتصهين بامتياز، ظلّ يطالب بالمزيد المزيد من التنازلات حتى جعل اتفاقيات أوسلوا جثّة عفنة والتنازلات الفلسطينية المستّمرة، بضغوط هائلة من الأعداء وبعض الأهل المخدوعين، فضيحة أخلاقية لم ير العالم مثل قبحها وحقارتها قط.
وهكذا نجح البعض، من حيث لا يدرون على الأغلب، فى الإضافة إلى خنجر الصفقة المسموم المعبّر عن أبشع الظلم والتوحّش الهمجى الحيوانى، إضافة إدخالنا فى أجواء التلاعب بالتعابير السياسية الغامضة المحيّرة التى ذكرنا اثنين منها على سبيل المثال.
ما يوجع القلب أن جهات أمريكية، رسمية ومدنية كثيرة، تعامل مع هذه الصفقة بشكل أكثر فهما لسوءاتها وبتعاطف أكثر إنسانية مع الشعب العربى الفلسطينى، ضحية الكيان الصهيونى الإجرامى وضحية الانعطاف الصهيونى الأصولى من قبل نظامهم السياسى.
ألا تستطيع أنظمة أمتن، أن تتعامل ولو مرة واحدة بعقلانية ورزانة أخلاقية تجاه قضايانا الكبرى، دون ارتكاب لهذا الخطأ أو ذاك؟
موقع جريدة الشروق