بقلم: محمد طعيمة
استعرض مقالات الكاتب | تعرف على الكاتب 13-03-2020 - 1222 حتى هذه اللحظة، تستعيد أنقرة في إدلب ما أجبرت على التوقف عنه قبل مائة عام.. نهب الأثار العربية، وربما تفعلها غدا في ليبيا.. إن تمكنت، كما فعلت لثلاثة قرون مع دول مثل مصر، ولأربعة مع الشام والحجاز. بعد تلكؤ تجاوز القرن، أقر مجلس الشيوخ الأمريكي، 13 ديسمبر الماضي، ما أعتبره مجلس النواب في 3 نوفمبر 2019، إبادة للأرمن ارتكبتها الدولة التركية، ضمن مروحة مجاذر لم يسلم منها شعب طاله احتلالها أو غزوها. ضربة موجعة تلقاها "الساعون لاستعادة الخلافة العثمانية" تارة و"الحالمون بإحياء العالم الطوراني" تارة و"الواهمون بسمو العرق التركي" ثالثة. كلها أوجه لعملة زائفة، لم تعرف أبدا غطاءا حضاريا يمنحها قيمتها المُدعاة، كما يغطي الذهب أو احتياطي العملة الصعبة العملات الوطنية. ضربة موجعة، خلفها جهد ودأب شعب صغير، مدعوم بشتات صنعه البطش العثماني. لم نتعلم منه كعرب كيف نمأسس "مأسينا" التي أفرزتها "قرون الجهل الثلاثة" كما وصفها عميد الأدب العربي، طه حسين، أو "عهد الانحطاط الفكري" وفق تعبير صاحب العبقريات، عباس العقاد. "مأسينا" على يد سلاطنة الإستانة لم ترحم مجالا في حياتنا، من حق الحياة والوطن إلى تاريخنا ذاته. فإضافة لدموية ثقافة "الخازوق" التي استندت لها حملات الأرمن، للعرب مذابح متنوعة.. طالت حضارتنا و"دماغ" قطاعات منا. الصدام أساسه "همج".. كما وصفهم ابن إياس في كتابه "بدائع الزهور في وقائع الدهور"، مقابل سياق ثقافي جذوره تمتد لبدايات التاريخ، تنوعت مكوناته على طول خريطة الأمة.. فأثرته، مبدعا ما عُرف بالحضارة العربية الإسلامية. في كتابه "شروط النهضة" قارن المفكر الجزائري مالك بن نبي بين التجربتين العثمانية واليابانية في عهد "ميجي". فالأولى لم تعي ان الحضارة ليست "جمعا وتكديسا" بل "بناءٌ ذو أسس وقواعد" كما فهمتها الثانية. يجزم بن نبي أنه "لا يمكن تصور تاريخًا بلا ثقافة"، وأن عالم "ما بعد القرن الثاني عشر"، في منطقتنا، "شهد انحطاطًا متماديًا ومنه الانصراف عن قوة الحضارة إلى القوة العسكرية". و"تركيا بلا تاريخ أو هوية، قمة الضياع الحضاري، تغير جلدها أكثر من مرة، كغراب يقلد مشية الطاووس"، وفق الراحل جمال حمدان، عالم الجيوساسي العربي الأبرز، الذي اشتبك مع المسألة التركية في أغلب مؤلفاته. رأها.. "طفيل حضاري، بلا جذور جغرافية، انتزعت من الاستبس كقوة شيطانية مترحلة، واتخذت لنفسها من الأناضول وطنا بالتبني، بلا حضارة، استعارت حتى كتابتها من العرب". عجز حضاري عن البناء، مع قوة عسكرية ولدت موجات من "التكديس". احد تعريفات "الحسد/الحقد" انه "اعجاب سلبي من عاجز"، كانت صدمة حضارية "عكسية" حين استقدموا كمرتزقة في العهد العباسي، وبعدها حين فرت قبائل منهم من همجية قبائل أخرى منهم في وسط غرب آسيا، أمام "نفائس ما عرفها آباؤهم ولا أجدادهم"، كما مفردات ابن إياس. في كتابه "مفاكهة الخلان في حوادث الزمان" يرصد المؤرخ الدمشقي المعاصر للغزو العثماني، شمس الدين الصالحي، افتتان "ملك الروم".. السلطان سليم، بعمارة مساجد وقصور وحمامات عاصمة الشام، حتى أنه خرج منتصف ليلة 17 رمضان 923 هـ إلى المسجد الأموي "ليتأمله" وتفقد نفائسه، خاصة ضريحي النبيين يحيى بن زكريا وهود، والمنارة الشرقية. وبعد خمسة أيام "خرج إلى قبة يلبغا متفرجاً"، ثم إلى منطقة الربوة الأثرية.. و"تفرج بها". تذكرنا علاقة "ملك الروم" بالأثار العربية بـ "حالة" الإسرائيلي، موشى ديان، افتننان ونهب، معا، للخزين الحضاري للأراضي التي احتلها، لا فرق بين فلسطين والجولان وسيناء. سرق ألاف القطع اقتناها وتاجر في بعضها. وفي السادس من نوفمبر 2015 عرض ورثته في صالة "كريستيز" ما عُرفت بـ"مجموعة موشي دايان"، كلها عربية. سار "موشي" على "مدقات" اللص العثماني. دخل السلطان سليم القاهرة في 26 يناير 1517، ومكث فيها ثمانية أشهر، بطش خلالها بتنوع علومها وفنونها. رجاله خلعوا رخام قصور قلعة صلاح الدين، والأخشاب المزخرفة والبلاط، وعواميد أواوينها السماقية، والأسقف المزيكة، وما بها من سيوف ودروع وملابس سلاطين المماليك، ووثائق دولتهم". و"الآثار النبوية الشريفة التي كانت محفوظة بـ"طوبقو سراى". وخيمة المولد مقر احتفالات الدولة الدينية، و"كانت حديث الناس في فخامتها وقبتها الشامخة، لم يعمل مثلها أبداً"، كما وثق ابن اياس. ننقل عنه "انفتحت للعثمانية كنوز الأرض بمصر، نهب القماش والسلاح وكل شىء فاخر". ومن المدارس والمساجد انتزعواالمصاحف والمخطوطات والمشاكي والكراسي النحاسية والشمعدانات والمنابر، والكتب النفيسة من المدرسة المحمودية والمؤيدية". جمع سليم العملات ذات الوزن الكبير من الذهب والفضة، واستبدل بها أوزاناً خفيفة". ومن البيوت اغتصب رجاله "الأثاث الثمين ونفائس ومجوهرات، خلعوا ألواح الرخام وواجهاتها الخشبية المزخرفة، والشبابيك الحديد والطيقان والأبواب والسقوف". وقدر ابن اياس ما نهب من تحف مصرية، تعود لمختلف العصور بـ"حمل أكثر من ألف جمل".. "نقلت إلى عاصمة ملكه". وتواصل النهب الحضاري طوال قرون الاحتلال السوداء، فمثلا المخطوطة التي نجت من "حوادث الزمان ووفيات الشيوخ والأقران" لشهاب الدين ابن الحمصي احمد بن محمد بن عمر الانصاري، موزعة بين ثلاثة أجزاء في مصر وبريطانيا وتركيا.. والأخيرة تحمل ختم "مكتبة سوهاج" عام 1701. كان سليم يعي ما يفعله، يدمر حضارة. والنهب، على بشاعته، أخف ضررا من "التجريف البشري الحضاري" الذي طال النخب الفنية والإدارية والحرفية، أو ما عرفناه فيما بعد بـ"الطبقة الوسطى/الكتلة النشطة".. كريمة المجتمع، حاملة تراثه وقاطرته. يتابع ابن اياس أن العثمانيين «طلبوا أعيان قضاة، شافعية ومالكية وحنفية وحنابلة، قادة جيش وشرطة، وكبار رجال دولة، ونصارى من كتاب الخزانة والمباشرين، وتجار الوراقين والشَرب والباسطية وخان الخليلي، وجماعة البردوارية والرسل وطائفة من المصانع ومن البنائين والنجارين والمرخمين والمبلطين والحدادين وغير ذلك من المعلمين، حتى جماعة من اليهود، وعينوا منهم جماعة يسافرون إلى اسطنبول كتبوا أسماءهم في قوائم وألزموا كل منهم بضامن يضمنه"، ومن يرفض يعاقب كما "خوزقة" شيخ البنائين. يرصد رحيلهم يوماً بيوم، معتبرا أنها "من أبشع الوقائع المنكرة التي لم يقع لأهل مصر قط مثلها في الزمان". حصل لهم "الضرر الشامل وبطلت خمسين صنعة لم تعد تعمل". ما حدث للمحروسة تكرر بصورة أقل في باقي الأقطار العربية، وإن ظلت سوريا ضحية لثلاث موجات من النهب، الأولى مع احتلال سليم لها، والثانية مع هزيمة أنقرة في الحرب العالمية الأولى وانسحاب الأتراك حاملين ما عرف بـ"الطمائر الذهبية العثمانية"، والثالثة ما زالت مستمرة، فوفق توثيق اليونسكو تنشط التنظيمات الإرهابية في نهب أثار شمال سوريا ونقله إلى تركيا، وضمن التوثيق.. أن مواقع أدلب الأثرية تتجاوز الـ400، نصفها تلال أثرية، وأن متحفها أفرغ تماما. وفي 13 ديسمبر 2019، كشف الأثري السوري، صلاح سينو، المتخصص في رصد تعديات الآثار، لقناة الخبر، عن اختفاء نُصب "الأسد البازلتي الكبير"، المكتشف عام 1956، من تل عين دارة الأثري في مدينة عفرين. مستندا إلى صور جوية سبقت وتلت الإحتلال التركي للشمال السوري، وتحويل "الجبهة الوطنية للتحرير" العميلة لأنقرة، للموقع إلى منطقة عسكرية مغلقة، محذرا من أن النهب العثماني قد طال أثار أخرى. في المقابل، متاحف تركيا تتباهى بحصاد سرقة تراكمنا الحضاري، الذي يسبق بقرون نشأة دولتها. متحف الآثار الإسلامية، به 45 ألف قطعة غالبيتها لا علاقة لها بأرضهم، فالاناضول كانت مسيحية شرقية حتى بداية القرن الـ 13 م. ضمنها 15 ألف مخطوطة عربية، بها أصبحت اسطنبول من مراكز مخطوطاتتنا دوليا، وقبلة للباحثين ومعهم عشرات ألاف السياح سنويا، "يدفعون" لمشاهدة ألاف التحف الخشبية والخزفية والزجاجية والمعدنية.. "العائدة لبلاد العهد العثماني" حسب الدعاية التركية! ينافسه في خزين النهب متحف اسطنبول بمتاحفه الثلاثة التي تتجاوز معروضاتها المليون قطعة "من معظم العصور والحضارات حول العالم" وفق موقعه! الأول "الأثري" خصص لتراكمات منطقة الأناضول ومحيطها، والثاني "الشرق القديم".. ومما يتباهى به لوحة مقتطعة من بوابة عشتار البابلية العراقية وتوابيت كنعانية شامية وقطع سورية وفلسطينية. الثالث "الإسلامي" يتفاخر بـ"خزائن عملات إسلامية وغير إسلامية ومكتبة لذخائر المؤلفات العربية"! ثالث مجمعات النهب العثماني مقرها متحف توب كابي، مخصصة لأثار الرسول، سرقها سلاطين الترك طوال قرون الانحطاط، من بغداد ودمشق والقاهرة والمدينتين المقدستين إسلاميا.. مكة ويثرب. درتها ما اغتصبه السفاح فخر الدين، أخر المحتلين العثمان لمدينة النبي فيما سماه "قطار الأمانات المقدسة" 1917، حاملا 390 قطعة نفيسة: مصاحف أثرية، سيوف الصحابة ومفاتيح الكعبة، مجوهرات وشمعدانات ذهبية، لوحات مرصّعة بالألماس، مباخر وغيرها. أقيمها 30 أثرا لخاتم الأنبياء: بُردته، سيفه، خصلة من شعره، مكحلته، نعله، عمامته، عصاته، رايته الحمراء خلال فتح خيبر، خطاباته إلى الملوك، أثر قدمه على حجر.. اغتصب من قبة الصخرة فى القدس. وقبلها "المصحف العثماني"، احدى النسخ التي ترواحت بين أربع وسبع، حسب الروايات، وخُطت في عهد الخليفة عثمان بن عفان، وكانت في القاهرة حين احتلها سليم خان، وكان يقسم عليها سلاطنة المماليك وولاتهم وكبار رجال الدولة. وتتباهى الدوحة بحصولها على صورة منه. مع أضغاث العثمانيين الجدد، واستعادة "الخلافة الوهمية" كما توصيف الكواكبي، أحيا رجب طيب أردوغان "روحية اللص الحضاري"، منتحلا نسب مبتكرات علمية إسلامية لم يجدوها حين احتلالاتهم للأراضي العربية. 24 مايو 2008 افتتح "متحف اسطنبول لتاريخ العلوم والتقنية في الإسلام"، وهو مشروع اقترحه وخططه ورعاه احد أبرز مؤرخي العثمانيون الجدد، فؤاد سزكين، توفي في 30 يونية 2018 عن 94 عاما. كان تلميذا مباشرا لعدنان مندريس، أول تجارب الإسلامين في حكم انقرة، لجأ إلى ألمانيا 1960، وكرمته عواصم عربية بارزة متجاهلة "تطويعه" التاريخ لصالح الرواية العثمانية. المتحف "يُجير" كامل التاريخ العلمي الإسلامي لاسطنبول كـ حاضرة للمسلمين! بدأ بـ 700 نموذجا لاختراعاتنا العلمية، طوال ألف عام، غالبيتها ابتكرها علماؤنا قبل أن تولد فكرة تركيا! ونفذها لحساب أنقرة معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية بجامعة فرانكفورت، الذي عمل به "سزكين"، على أن تضاف نماذج جديدة سنويا. وبالمتحف مئات المخطوطات العلمية لعلماء العرب، أصلية ومستنسخة. مشروع أخر خطط له سزكين وأردوغان، متحف إسلامي جديد في بورصة، تعهد الثاني بتنفيذه عقب رحيل الأول. من محيط "بورصة" انطلقت جحافل جده عثمان لتتريك الأناضول. هو يتحرك وفق مخطط منضبط، والطبيعي أن يرتد همجيا حين تعرية لصوصيته، هو وأسلافه. فلم يأت الشيخ عبدالله بن زايد، وزير خارجية الإمارات، بجديد حين نقل منتصف ديسمبر 2017، "تويتة" لطبيب عراقي تٌذكر بسرقة السفاح فخر الدين لأثار الرسول. الواقعة موثقة تاريخيا، ودفاع الأتراك بأنها اُخذت على سبيل "الامانة والحماية من الغزاة" حجة سارق ضبط متلبسا، فالأمانات والمنهوبات البديهي أن ترد لأصحابها. و"الغزاة" لم تعرف المدينة منهم عبر تاريخها غير أسلافه، والقوات التي كانت تحاصرها لطرد العثمانين الذين وصفوا بـ "ألمانَ الإسلام" منها.. عربية، وحلفاؤها هم من انقذوا الإستانة من جيوش محمد علي وابنه إبراهيم. ما أوجع أردوغان هو زخم اكتسبته "الواقعة التاريخية" بإعادة "شخصية مؤثرة دوليا" بثها، ما منحها انتشارا أوسع.. زاده أردوغان "بذكائه". غير ان من يبحث عن جدل تويتة "سرقة الأثار النبوية" سيفاجأ بأن "الرواية العثمانية" هي الأكثر انتشارا! خلفها ترويج "الجزيرة" ودوائرها ومواقع بالعربية تمولها تركيا. رواية استلبت دماغ مثقفين عرب، ما زالوا غرقى في أكذوبة "الخلافة الإسلامية العثمانية"، وان السفاح "نمر إسلامي" دافع عن "مدينة الرسول" امام "غزو صليبي إنجليزي". وضمنهم صحافيون، صناع رأي عام، في جرائد ومواقع سياستها التحريرية "مدنية"، وملاكها "علمانيون". في حين غابت المخطوطات العربية، بعضها لضحايا مباشرين للسفاح. فقد العثماني الجديد أعصابه أمام تويتة، فماذا لو مأسسنا منظومة لفضح روحية اللص الحضاري التي لم تتوقف، ولوضع مخطط قومي لإستعادة تراثنا المنهوب. ولنا في الأرمن، الشعب الصغير، وفي شعوب استردت أثارها التي نهبها المستعمر.. أسوة حسنة.
لا يوجد صور مرفقة
|