موجة أخرى ستعصف بالمنطقة العربية..رياح الشّرق تهبّ باتجاه الغرب..حصاد الإرهاب وموسم الهجرة إلى بؤر جديد تتوفّر على شروط تمكين جيوبوليتيكي للإرهاب في انتظار تنزيل المخطط البديل..فأمّا الشّرق فقد رمى له ترامب بقشرة موز للإلهاء: صفقة القرن التي تغدو وتروح على طاولة الجدل والتشويش..وهذا طبيعي في مرحلة سيناريو الإرغام..فشل المشروع الأمريكي في الشرق الأوسط ..هربت حقول الغاز والنفط لأنّ قلاعا في المنطقة ظلت صامدة وهناك لاعبون جدد في المنطقة لكن برسم التحالف الاستراتيجي كروسيا والصين وإيران ودول بريكس كل يحبك انخراطه في التحالف إيّاه حسب ما تمليه حدود المصلحة..وإذن لا بدّ من تعويض الخسارة..شمال أفريقيا التي تعيش هي الأخرى على شفير من المشاكل القابلة للاستعمال..مشكلات سياسية واجتماعية وبيئة ممتدة لا تخلوا من بؤر الإرهاب الذي وجد له خلفية في منطقة الساحل وجنوب الصحراء..اليوم ليبيا ملتهبة وأوراق كثيرة مختلطة في هذه المعركة..حراك مدني في الجزائر وآخر في السودان أطاحا برئيسين لكن لا زال الحراك مستمرا فيما العسكر يدبّر المرحلة الانتقالية بحثا عن صيغ جديدة في الإقناع..في تونس لا شيء حاسم وهي واحدة من مخرجات الربيع العربي حيث النزاع اليوم على هذا الميراث بين محاور جديدة في الشرق الأوسط والخليج..صراع بين محور المقاومة ومحور ما سمّي بالاعتدال الحليف للمشروع الأمريكي..وصراع آخر بين المحور التركيالقطري والمحور السعوديالإماراتي..الخريطة ممزّقة، هنا توافق بينما هناك نزاع..يتخاصم المحوران داخل ليبيا حدّ الاصطفاف ويتوافقان في سوريا..نحن أمام معادلة من مجهولين تقتضي قراءة أبعد مدى..القراءة الاستعجالية لما يجري بناء على النمط السابق خطأ منهجي..هناك تغيير في المخطط وهناك أيضا عمل تحت ضغط الزمن الجيوبوليتيكي الذي لم يعد في صالح الأطراف الأساسية في النزاع..هناك أشكال من الفشل منتهاها أن تعيق تنفيذ برامج الجهة الأخرى لكن ثمة أشكال من الفشل تشكل خطرا استراتيجيا على أطراف أخرى لأنها رهنت نجاحها الجيوستراتيجي بمصير هذه الخطط بينما بعض المحاور ربطت وجودها بنجاح هذا المخطط..وفي نهاية المطاف سنجد أطرافا تواجه النهايات بمزيد من التصعيد لأنّ المسألة تتعلّق بنتائج كارثية وفي مثل هذه الحالة هي مضطرة للتصعيد إلى آخر رمق..نتحدث عن حالات انتحار تنتظر دولا فضّلت الحل عبر استراتيجيا ربح الوقت والاصطفافات غير المحسوبة العواقب..
تتكرر نمطية احتواء الأزمة على الرغم من التحولات التي تطرأ على الخطط..هناك حراك عادة تقدحه مشكلات اجتماعية أو سياسية..أطراف منظمة بشكل أقوى داخل المجتمع المدني تركب الحراك..يتدخل الجهاز العسكري ويبدأ تدبير المرحلة الانتقالية..في السودان كما في الجزائر حصل الأمر مع فارق في التقدير..ويستمر الحراك في أوّل مرة يتم الطعن والتشكيك في محتوى بيان المجلس العسكري..في المجتمع المدني دائما هناك تفاوت في نفوذ وقوة التنظيمات..فالتنظيم الأقوى والموصول بالقوى الخارجية عادة ما يحتوي مكاسب الحراك..كما في الطرف الآخر تبقى المؤسسة العسكرية هي الأقوى تنظيما وهي الضّامن..والأمر سيتكرر في ليبيا إن استطاع حفتر السيطرة على طرابلس نهائيا..يمكن معرفة مؤشر الاصطفاف من خلال موقف المحاور المذكورة مما يجري اليوم في السودان والجزائر وليبيا..بعضهم اصطف يمينا وبعضهم يسارا وبعضهم ينظر من بعيد في انتظار نتائج المعركة..
لا أحد يملك في كل هذه الفوضى الجديدة تقديم رؤية حاسمة بناء على طبيعة الإصطفافات..ففي ليبيا مثلا هناك من يتحدث عن وجود أجندة لدى المشير حفتر لإشعال المنطقة وهو مشروع أمريكي فرنسي مدعوم من قبل الإمارات ومصر، بينما في أدبيات الجيش الوطني الليبي هناك تحضيرات للقضاء على ما يسمونه بالإرهاب الذي ترعاه حكومة الوفاق المدعومة من قبل ميليشيات المقاتلة (القاعدة سابقا) منذ فترة، فخطاب الحسم مع الإرهاب ظلّت ثابتا من ثوابت الجيش الليبي..يصعب التحليل من خلال مؤشّر الاصطفاف وحده، فالمقاتلة الذين يتهمون حفتر بالتواطؤ مع فرنسا هم أيضا تمكنوا من طرابلس بدعم قديم من فرنسا ساركوزي ومبعوثه برنار هنري ليفي، كما أنّ طيارين أمريكيين مرتزقة يتوجدون في مصراتة لفائدة تحالف السراج والمقاتلة والأمر يتعلق تحديدا بطيار أمريكي مرتزق من ولاية نيو جرسي هو فريد شرودر المتزوج من صينية قدم منذ ثلاث سنوات عن طريق شركة غليسادا الأوكرانية المتخصصة في تغيير قطاع الغيار للطائرات براتب 15 ألف دولار، وكما تقول المصادر فلقد شارك في غارات جوية ضد الجيش خلفت مؤخرا ضحايا بغريان وطرابلس....فقضية الاصطفاف لا سيما في ليبيا وجب قراءتها خارج استحقاق التحالف الجاري في الشرق الأوسط..وهو أمر تحيط به الكثير من التفاصيل ليس ها هنا مجال الخوض فيها..ومنها على سبيل المثال لا الحصر أنّ هناك من بين الميليشيات المسيطرة على طرابلس من يمثل جسرا لرفد مناطق التوتر بمزيد من مقاتلي السلفية الجهادية بل منهم أيضا وهو يقاتل حفتر من يسهل إرسال مقاتلين إلى اليمن..هناك تعقيد تحالفي مختلف..
لكن ما هي فرص إنقاذ ليبيا لا سيما حين باتت التوافقات غير المكتملة عنصر تأزيم للوضع؟..اليوم يبدو أن المشير حفتر عازم على اقتحام طرابلس معقل المقاتلة، وهناك دول تؤيده في هذه المعركة وهناك دول متوجسة نظرا لطبيعة التحالفات..روسيا فيما يظهر مع التهدئة لكنها منذ لقاء حفتر مع الروس بموسكو وهناك ما يشير إلى أن روسيا تؤيد حفتر في هذه الحرب..ولا يوجد اليوم في ليبيا مخرج ثالث بعد أن فشلت كل محاولات الوفاق..لقد انتهت الصيغة الأخيرة باختيار السراج الذي أتى على يخت إيطالي إلى السواحل ولم يستطع الدخول إلا بعد أن دخل في صفقة مع جماعة عبد الحكيم بلحاج وما سميّ بالثوار حيث عمودهم الفقري جماعة المقاتلة، وفي هذا الإطار ثمة تسريبات مفادها أن السراج سحب من مصرف ليبيا المركزي مبلغ قدره 2.000.000.000 دينار ليبي قدمت حسب مصادرنا "كاش" لميليشيات المقاتلة مقابل التعاون معه ضدّ الجيش.
وخلال كل المحاولات التوافقية السابقة كان هناك تواطؤ على استبعاد جماعة البرلمان والجيش الوطني..وكان لا بدّ أن تتفجّر بنية هذا التوافق الهشّ على المدى القريب، وهذا ما حصل حيث التحول الكبير في حسابات الأطراف..يبدو اليوم المشير حفتر عازما على حسم المعركة التي يتواجد فيها بالميدان ومعه عشرات الآلاف من الجيش الوطني المدعوم من البرلمان..الحالة التعبوية داخل صفوف الجيش الوطني الليبي كبيرة وتحالفاته مع القبائل على درجة من الأهمية.. كما في الطرف الآخر يوجد عتاد عسكري لا يستهان به وتحالف ميليشيات كبرى في طرابلس والزنتان ومصراتة والزاوية..كم يحتاج من الوقت لكي يتوحد الشعب الليبي على قرار ومن يا ترى يمكنه أن يقود الشعب إلى الموقف الصحيح؟
يبدو أنّ الأيام القادمة ستكشف عن وضع مختلف داخل ليبيا..الدعوة إلى التهدئة في انتظار المؤتمر القادم تتطلب مزيدا من الأوراق التي ستحسم فيها المعركة، هذا هو منطق السياسة والحرب..لا يوجد في ليبيا أي ضامن غير مؤسسة الجيش الوطني بينما الباقي تحالفات ميليشياوية آبية ومعرقة للانتقال إلى حالة الدّولة..وبؤر لتصدير الإرهاب إلى مناطق التّوتّر حسب ما تكشف عنه الكثير من الوثائق والمصادر الميدانية..حتى الآن لا يوجد في العمق إلاّ جهتان أساسيتان في معركة تصطف حولها تشكيلات بعناوين مختلفة: الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير حفتر والمقاتلة الليبية بزعامة عبد الحكيم بلحاج وقيادات من شيوخ السّلفية الجهادية متحالفين مع حكومة الوفاق بقيادة السراج الضعيفة من دون دعم المقاتلة، نتحدث عن 12 ميليشيا تسيطر الآن على طرابلس، حيث تبدوا المعركة اليوم معركة وجود..هذا هو الواقع من دون مبالغة ..ليبيا قد تصبح بؤرة لأوراق دولية وإقليمية ستلعب من جديد في المنطقة..