... درج الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي على شن هجوم منظم منذ بعض الوقت على الجزائر وإن كف الحديث عنها مباشرة فإنه يتناولها من خلال انتقاد الهجرة والمهاجرين أو الإسلام والمسلمين؟ ..واللافت أنه كلما صعّد من لجهته العدائية تجاه هذا البلد انخفض صوت المسؤولين فيه دون أن يتضح معنى هذا الصمت هل هو تكتيكي؟ أم اضطراري ؟ أم أن الامتناع عن الرد هدفه تفويت الفرصة على الرئيس السابق لاستخدام الجزائر في صراعاته الداخلية في فرنسا؟..بداية لا بد من الإشارة إلى عناوين حملة ساركوزي الجزائرية، علما بأنها لم تبدأ من هذه الأيام فهي مستمرة منذ سنوات حكمه الأولى حيث جرب في العام 2010 أن يعيد النظر في «اتفاقيات إيفيان» التي أنهت 130 عاماً من الاستعمار الاستيطاني الفرنسي...لا سيما البند الذي أقر في العام 1968 وأكد وجوب معاملة الجزائريين في فرنسا معاملة المواطنين الفرنسيين إلا في الحقوق السياسية، أي يتساوى الجزائري مع الفرنسي في كل شيء ما خلا الترشح والاقتراع في الانتخابات وتبوؤ المناصب السياسية...والواضح أن هذه المعاملة الخاصة أدت إلى تمركز جالية كبيرة من الجزائريين في فرنسا بات يحسب لها ألف حساب وباتت نظراً لتضامن أفرادها تشكل كتلة ضاغطة في المجتمع الفرنسي وقادرة على الدفاع عن مصالح الجزائر...فشل ساركوزي في فرض إعادة التفاوض حول هذه النقطة، وكان الرئيس الأسبق فاليري جيسكار ديستان قد فشل هو أيضاً في العام 1975 في إعادة 30 ألف لاجئ جزائري سنوياً إلى بلادهم مع فارق أن السبعينات كانت مدججة بالمشاعر السيئة بين الجزائريين والفرنسيين وبالتالي كان جيسكار يريد إرضاء معسكره اليميني الذي خرج مهزوماً من مشروع الجزائر الفرنسي رفقه أكثر من نصف مليون من الأقدام السود الفرنسيين فضلاً عن الحركيين الجزائريين الذين دفعوا ثمناً باهظاً جراء تحالفهم مع المستعمر...وفي مدة لاحقة بادر ساركوزي إلى شن حملة على كارهي الاستعمار معتبراً أن الكولونيالية حملت الحضارة إلى الشعوب المستعمرة وأسست البنى التحتية فيها وكافحت الأمية و فرضت سلطة القانون من دون أن يأتي على ذكر تفتيت البلدان المستعمرة ونهب ثرواتها وتمريغ كرامة أبنائها بالوحل...وقد بادرت جماعته البرلمانية إلى تقديم مشروع قانون إلى البرلمان يمجد الاستعمار الأمر الذي يعني بالنسبة للجزائريين ليس فقط الإطاحة ضمناً باتفاقية إيفيان، وإنما أيضاً طي صفحة مليون ونصف المليون شهيد جزائري وكأنهم لم يستشهدوا وكأن الاستعمار لم يقتلهم أو قتلهم كان فعلاً حضارياً، والأخطر من ذلك كله هو أنه إذا كان الاستعمار جيداً فإن عودته جيدة أيضاً إلى البلدان التي غادرها مكرهاً...من حسن الحظ أن مشروع القانون فشل وأن ردود الفعل الجزائرية اللفظية العنيفة قد ساعدت بإفشاله...لكن الفشل لا وجود له في قاموس ساركوزي فهو عاد ليستفز الجزائر في الصيف الماضي عندما ذهب إلى تونس بعد تعرضها لعملية إرهابية فصرح علناً أن هذا البلد يقع بين الجزائر وتونس دون أن يختار موقعه وأن هذا الموقع يتسبب باللعنة عليه...تعليقات الصحف الجزائرية بعنف على هذا التصريح لم تردع الرئيس الأسبق الذي حمل هذه المرة على الجزائر نفسها حيث قال إن «أحداً لا يعرف مصير الجزائر ومستقبلها وأن هذا الأمر يجب أن يبحث في الاتحاد المتوسطي» وكأن الجزائر محمية من طراز ليشنشتاين يراد لها أن تضع مصيرها بين أيدي دول إقليمية لتبحث الجيد والسيئ بالنسبة إليها...وعاد ساركوزي قبل يومين إلى استئناف حملته الجزائرية بتحذير سكان ضواحي المدن من تحميل فرنسا مسؤولية البؤس الذي يعيشون في ظله، علماً بأن قسماً مهماً من الجزائريين يعيشون في تلك الضواحي، وقد سبق له أن حمل عليهم متوعداً بتنظيف مناطقهم ب «خراطيم المياه» التي تستخدم لغسيل السيارات الأمر الذي أثار في حينه ردود فعل عاصفة من كل صوب...وأخيراً حمل الأمين العام لحزب «الجمهوريين» وهو التسمية الجديدة للتيار الديغولي على الإسلام متهماً المسلمين بالعودة إلى القرون الوسطى «بعد النهضة التي عاشها هذا الدين في بداية ظهوره»، وقد فهم من هذا التصريح أن الرئيس السابق يستدرج الجزائريين والمسلمين عموماً للرد والسجال لكن أحداً حتى الآن لم يعبأ بتصريحاته فما الذي يريده ساركوزي ولماذا يمتنع الجزائريون عن الرد عليه؟..أغلب الظن أن رئيس فرنسا السابق يرسم منذ الآن مخططاً لرئاسيات العام 2017 ويخوض منافسة حادة مع رئيسي الوزراء السابقين في حزبه فرانسوا فيون وآلان جوبيه وهما يتمتعان بحظوظ مهمة للتغلب عليه في صفوف اليمين المعتدل حيث تشير استطلاعات الرأي إلى تراجع ملحوظ في أسهمه...والواضح أنه يراهن على كسب تأييد اليمين المتطرف داخل حزبه وخارجه كما فعل في رئاسيات العام 2007 عله يستدرك الفارق للترشيح أولاً وللفوز ثانياً، وبما أن الموضوع الجزائري معطوف على الإسلام والمهاجرين يثير حمية اليمين المتطرف ويستدرج اهتمامه فمن المرجح أن يحصد أصوات قطاع واسع من المتطرفين الذين يفضلون شخصية لا غبار عليها لجهة العنصرية من أسرة لوبن التي تدير التيار العنصري و المتهمة بالعداء للسامية...إن ارتباط حملة الرئيس السابق على الجزائر باستراتيجية انتخابية واضحة تخضع لحسابات محلية ربما يحمل الجزائريين على تجنب الدخول في هذا الفخ، لذا يطلقون العنان لوسائل إعلامهم التي ترد عليه بقسوة لكن الرد وإن كان عاصفاً فهو لا يكفي وخاصة إن مسائل من نوع «تمجيد الاستعمار» أو تعديل «اتفاقيات إيفيان» تتصل بمصير ومستقبل العلاقات الفرنسية الجزائرية أي بمرجل ليس من مصلحة الطرفين الاقتراب منه.