إثمُ العروبة، أم آثامٌ بحقها؟ التقارير والمقالات | إثمُ العروبة، أم آثامٌ بحقها؟
تاريخ النشر: 12-03-2019

بقلم: الدكتور ابراهيم علوش
خلال العدوان الصهيوني على لبنان عام 1982، كان البعض يصرخ: "أين العرب؟"، أو يطلق ألفاظاً نابية بحق العرب أو العروبة، لا سيما بعد غارات طائرات الأف-16 الصهيونية على الأحياء المدنية. ولعل ذلك الجهر بالسوء من القول كان موجهاً إلى "الحكام العرب"، أو "الأنظمة العربية"، ومثل ذلك، ممن ظُلم، يمكن تفهمه بالنظر لموقف النظام الرسمي العربي المتواطئ مع العدوان الصهيوني على لبنان وارتباطه المباشر بمقررات قمة فاس عام 1981، بعد رفض سورية والعراق وليبيا والجزائر والقوى والأحزاب الوطنية والقومية في فلسطين والوطن العربي لمبادرة "سلام وتطبيع" مع العدو الصهيوني سميت وقتها بـ"مبادرة الأمير فهد" لعام 1981، لتتم إعادة فرض تلك "المبادرة" عربياً بعد الاجتياح الصهيوني للبنان عام 82، في قمة فاس الثانية، في 6 أيلول من عام الاجتياح.
لكن البعض الآخر من ذلك الكلام النابي كان يتناول العرب كعرب، كأمة، وكهوية، لا كأنظمة وحكام، وكان ذلك رأس جبل الجليد الذي اعتلى الموقف السلبي لكثيرين في لبنان وفي الساحة الفلسطينية من العروبة والتيارات القومية العروبية، فأعطى بتمدده حيزاً لدعوات التركيز على الذات القُطرية والشأن المحلي الراهن، بدلاً من البحث "الخيالي" عن وحدة عربية بات البعض يراها ضرباً من الكماليات، إذا أحسن الظن فيها، ولا تزال مقولة "تخلي العرب عن المقاومة الفلسطينية في لبنان" تساق حتى اليوم كذريعةٍ لتبرير توقيع اتفاقية أوسلو مع العدو الصهيوني.
كان خروج مصر من حلبة الصراع العربي-الصهيوني بعد كامب ديفيد أحد أهم العوامل التي سمحت للكيان الصهيوني أن يشن عدوانه على لبنان عام 1982، وكان خروجها من حلبة الصراع قد تمت التهيئة له بسنوات من الضخ الإعلامي والفكري الداعي للتركيز على الذات "الفرعونية"، والزعم إن مصر تحملت عن الأمة العربية عبء مواجهة تُركت فيها شبه وحيدة لتدفع الثمن من لقمة عيشها ودماء شبابها، وترافق ذلك مع مشروع "وهبنة مصر" (أي تحويلها إلى الوهابية) بالتعاون مع السعودية في مسعى لاستئصال روح جمال عبدالناصر وثورة 23 يوليو منها، وما كان من الممكن أن يمضي نظام أنور السادات على درب التسوية مع العدو الصهيوني من دون تكريس فكرة التركيز على الذات القُطرية، وتضخيمها على حساب الهوية القومية، وترويج فكرة "تحمل عبء العروبة من غير طائل"، ولازمتها الضرورية دوماً: "تخلي العرب عن مصر" في مسعى لدفعها للتخلي عن العروبة، وفي مسعى لتكريس فكرة "إثم العروبة" في الشارع المصري.
هكذا راحت تتواتر في التاريخ العربي المعاصر معزوفة "تأثيم العروبة" في كل قُطر عربي تعرض لأزمة أو حصار، أو حتى من دون تعرضه لهما، وحين لم يكن الرئيس أو الحزب الحاكم في ذلك القطر مستعداً للسير في ركاب الساعين للانسلاخ عن العروبة، فإنه سرعان ما يصبح متهماً بأنه جزءٌ من "إثم العروبة" في ذلك القُطر، وقد شهدنا ردة من قِبل بعض العراقيين على العروبة بعد العدوان الثلاثيني على العراق عام 1991، وبعد حصارٍ قاسٍ دام 13 عاماً شاركت فيه بلدانٌ عربيةٌ وإسلاميةٌ للأسف، وتعمقت تلك المشاعر حدةً بعد غزو العراق وتدميره عام 2003 بمشاركة بلدان عربية خليجية، وقد كانت أحد أهم "منجزات" الاحتلال الأمريكي للعراق دستور نوح فيلدمان الذي يشطب هوية العراق العربية، والذي يعتبر بعض العراقيين فحسب (لا العراق ذاته) جزءاً من الأمة العربية، وقد كشف الاحتلال الأمريكي بذلك عن واحدٍ من أهم عناوين استهدافه للعراق: السعي لنزع عروبته.
سنوات الحصار الجوي والاقتصادي على ليبيا (1992-2003) قدمت مثالاً آخر على مسعى "تأثيم العروبة" والتخلص من "عبئها"، ولم يتم رفع الحصار حتى أعلنت ليبيا عن تحولها إلى "الهوية الإفريقية"، من بين أشياء أخرى، وحتى هذا لم يشفع لليبيا، فحيثما وجِد إرثٌ وطنيٌ استقلاليٌ مناهضٌ للاستعمار والإمبريالية في هذا العالم، فإن منظومة الهيمنة الإمبريالية لا تكل ولا تمل في سعيها لتقويضه بالاختراق والإخضاع والحروب، وتسليم "أسلحة الدمار الشامل" لا يكفي... أما عندما يكون هناك، بالإضافة إلى ذلك، إرثٌ قوميٌ عربيٌ مناهضٌ للصهيونية في بلدٍ من البلدان، فهي أيضاً حربُ اجتثاثِ الهويةِ العربيةِ بلا هوادة، وصولاً حتى لاقتلاع تمثال جمال عبدالناصر وتحطيمه في بنغازي على يد جرذان فبراير عام 2012... في الذكرى الأولى لـ"ثورة فبراير". فالثورات المضادة في أقطارنا العربية لا تكتمل إلا عندما تكرس في الشارع مقولة "إثم العروبة".
من الجزائر خلال سنوات العشرية السوداء وما بعدها، إلى سورية خلال سنوات الحرب الكونية عليها، وفي معظم بقاع الوطن العربي التي عانت من آفة الإرهاب، راحت تُنفَثُ في فضاءات الكلام والأقلام مقولاتٌ كالسم البطيء تربط ظاهرة الإرهاب التكفيري بالجزيرة العربية، بالصحراء، ومن ثم بالعروبة، لنصل بعدها إلى مقولة أن "العروبة غزوٌ همجيٌ جاء مع الإسلام قبل 1400 عام"! لتصبح تلك الضلالةُ بعدها ذريعةً لإحياء تيارات أمازيغية أو آرامية تعمل على سلخ المغرب العربي أو بلاد الشام عن العروبة. أما ربط الإرهاب التكفيري بالداعمين والممولين الإمبرياليين والصهاينة، وبمشاريع التفكيك والهيمنة، وانحسار المد القومي العروبي، فـ"نظرية مؤامرة" طبعاً!
كذلك يُشن العدوان السعودي على اليمن، مهد العروبة، تحت عنوان "التحالف العربي"، في مسعىً لدفع اليمنيين بالنار لتمثل مقولة "إثم العروبة". ويُصور الصراع في وسائل الإعلام السائدة بكل شكلٍ تضليلي ممكن: طائفياً (بين السنة والزيديين)، جهوياً (مع أقاليم ذات نزعات انفصالية)، أو إقليمياً (ضد إيران)... إلا كعدوان غاشمٍ من قبل أنظمة عربية تابعة للإمبريالية على شعبٍ وبلدٍ عربيٍ أصيلٍ كان تاريخياً عنواناً للحضارات العربية القديمة، فإن ذلك قلما تسمعه. فما يسمى "التحالف العربي" لا يمت للعروبة بصلة، وما هو إلا تحالفٌ إمبريالي-صهيوني-رجعيٌ عربي ضد اليمن العربي، لكن أهمية مثل هذه النقطة في تفويت أحد أهم أهداف العدوان على اليمن لا تلتقطها الكثير من وسائل إعلام المقاومة للأسف، لأن السماح بتسرب موقفٍ معادٍ للعروبة والهوية العربية حتى لدى أقلية قليلة من اليمنيين الذين يتعرضون للقصف والحصار والتجويع يسهم أيضاً بإعطاء مشروعية زائفة لعدوان "التحالف العربي" بأثر رجعي...
غزة وحصارها لا يشذان عن القاعدة، ولا العدوان الصهيوني المتكرر عليها، ففي كل مرة تسمع من يحاول أن ينفث في ثنايا الحوار فكرة "إثم العروبة"، و"خطيئة العرب"، و"تخلي العرب عن غزة"، من دون التمييز من جهة بين منظومة التجزئة ومعادلاتها وأنظمتها التي أسهمت بحصار غزة (مثل الخطوط الوهمية المرسومة في الرمال بين أقطار الأمة، ومنها الخط الوهمي بين غزة ومصر، ولا نقول بين غزة وسيناء، لكي لا ننجر إلى مشاريع التوطين، ومثل محاولة تأسيس دويلة قُطرية أخرى في غزة)، وبين العروبة كهوية وانتماء من جهةٍ أخرى، فمن المستفيد من التخلي عن عروبة أي جزء من فلسطين، غزة أو غيرها، إلا المعنيون بتهويد فلسطين؟! ومن المستفيد من التركيز على كل بُعد في المقاومة الفلسطينية، في غزة أو غيرها، إلا بُعد دفاعها عن عروبة أرض فلسطين؟!
وفي كل قُطر عربي تقريباً تجد شخصياتٍ وتياراتٍ عاكفةً على توظيف ما تقع أيديها عليه من فكر وعقائد ضد العروبة، فهذا إسلامي يرى العروبة "ابتعاداً عن دين الله"، وذاك يساري أو ليبرالي يراها "شوفينية وعنصرية"، وهذا سياسي "واقعي" يروج أن التوجهات العروبية لدى الحكام هي "سبب مآسي العراق وسورية ومصر عبدالناصر وليبيا والجزائر"، ويترجم ذلك كله إلى حالة نرجسية من التعالي الأجوف على العروبة والعروبيين، أضف إلى ذلك التيارات والشخصيات التي تتظاهر بالعمل على "تجديد" الفكر القومي العروبي و"تخليصه من اللغة الخشبية والقوالب الجامدة"، لا سيما تحت عناوين "الديموقراطية" و"الحرية"، لتوصلك في حركة التفافية مبهمة إلى التحالف مع الإمبريالية الأمريكية والتصالح مع العدو الصهيوني تحت عنوان "الإصلاح الداخلي"، "الربيع العربي" نموذجاً. وهؤلاء هم الأسوأ، لأنهم أحصنة خشبية طروادية تسعى لتدمير الفكر القومي العروبي من داخله، فالنهج القومي العروبي لا يمكن إلا أن يكون مقاوِماً أو أنه ليس عروبياً.
باختصار، ثمة حملة شرسة ومستمرة على الهوية العربية، وعلى التوجهات القومية العروبية، ما يعنينا منها هنا هو محاولة إيصال الشعب العربي، أو قطاعات رئيسية منه، إلى ربط الهزائم والمعاناة والفقر والحصار والاحتلال والتقصير والتقاعس والتخلف والتكفير والإرهاب وكل ما هو حقير في حياتنا العربية المعاصرة... بالانتماء للعروبة!
مثالان على توظيف الشعر والفن ضد العروبة:
كثيراً ما يتم توظيف القصائد والأغاني المعروفة في تسويق مثل هذه الفكرة التي تتغذى على الهزيمة والإحباط، والأمثلة كثيرة. فلنأخذ مثلاً قصيدة نزار قباني الشهيرة:
أنا يا صديقةُ متعبٌ بعروبتي
فهل العروبةُ لعنةٌ وعقابُ؟!
... فإنك كثيراً ما تراها على وسائل التواصل الاجتماعي في سياقات تصب في تبخيس العروبة والسعي للتملص من الانتماء إليها، وإذا كانت تلك القصيدة تعكس حالة الهزيمة التي انتابت المشهد العربي بعد اتفاقيات كامب ديفيد وتراجع المد القومي، فإن ما فيها من رثاء وتفجع على حالة العروبة لا يخلو من عتابٍ لها، ودعوة لها للنهوض، وهو مقطعٌ في تلك القصيدة قلما ترى من يقتطفه:
فتحملي غضبي الجميلَ فربما
ثارت على أمر السماء هضابُ
فإذا صرختُ بوجهِ مَن أحببتهم
فلكِ يعيشُ الحبُ والأحبابُ
وإذا قسوتُ على العروبةِ مرةً
فلقد تضيقُ بكحلها الأهدابُ
فلربما تجد العروبةُ نفسَها
ويضيء في قلبِ الظلامِ شهابُ
كذلك كثيراً تسمع هتافاً في الاعتصامات والمسيرات المنددة بهذا العدوان أو تلك المجزرة الصهيونية أو الأمريكية من مطلع كلمات أغنية الفنانة الملتزمة جوليا بطرس (من كلمات الشاعر علي الكيلاني):
وين وين وين
وين الملايين
الشعب العربي وين
الغضب العربي وين
الدم العربي وين
الشرف العربي وين
وين الملايين؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
ليتحول الهتاف إلى إدانة للشعب العربي بأكمله، وللعروبة ذاتها، حتى أن البعض يرد، عندما يبدأ هتاف "الشعب العربي وين؟"، بكلمة "نايم!"، والرد على "الشرف العربي وين؟"، كثيراً ما يكون بكلمة "مات"، وهو ما يمثل سقطة في المحظور بالنسبة لأي مناضل، فإن لم تكن تعوّل على الشعب والأمة في تحقيق الأهداف الوطنية أو القومية الكبرى، فعلى من تعول يا ترى؟ على الأعداء؟! أم على الحلفاء الذين يفترض بهم أن يأتوا للقتال بالنيابة عنا الآن فيما نحن هاهنا قاعدون، بما أن الشعب العربي "نائم"، والشرف العربي "ميت"، والملايين ألهاها التكاثر، إلخ...، ولنبدأ من ثم بشتم الحلفاء إن لم يأتوا للقتال بالنيابة عنا؟!!
ومع أن المقاطع التي تلي في أغنية "وين الملايين" تصب كلها في خانة استنهاض الناس للثورة على الصهيونية وللمقاومة والكفاح المسلح، أي خانة استفزاز هممهم ومروءتهم للتحرك، وهو بالتأكيد الهدف النبيل منها، فإن تكرار تعبير "اخوتي وين؟" فيها، أكثر من مرة، يرسل رسالة ملتبسة أيضاً... فهل المقصود هنا هو أن المقاومين يخاطبون شعبهم بأنه غائب ولا يفعل شيئاً، وهي رسالة ملتبسة، وغير دقيقة إذا أخذنا بعين الاعتبار الظروف الصعبة التي يعيشها في ظلها الشعب العربي الفلسطيني في غزة أو في غيرها وصموده في أرضه بالرغم منها؟ أم المقصود هو أن الفلسطينيين هم الذين يثورون ضد الصهاينة وحدهم فيما أخوتهم العرب لا يفعلون شيئاً، لا سيما أن الكلمات مكتوبة باللهجة الفلسطينية، مما يكرس الرسالة ذاتها المتعلقة بـ"إثم العروبة"، ولو عن غير قصد؟ وماذا عن الأخوة في المقاومة اللبنانية مثلاً، وعن عشرات آلاف الشهداء العرب في الحروب العربية-الصهيونية؟ وماذا عمن يتعرض للحصار والدمار لأنه شكل حاضنة للمقاومات العربية، في لبنان وفلسطين والعراق، كما يحدث مع سورية اليوم، وكما حدث مع ليبيا والعراق من قبلُ؟ بجميع الأحوال، تسمح مثل هذه الثغرة، ولو عن حسن نية، بتوظيفها في الشارع ضد الهوية العربية والانتماء للعروبة، خصوصاً بعد اقتطاعها خارج سياقها.
إثم العروبة، أم آثام بحقها؟
تولّد الهزيمةُ الشعورَ بالإحباط والانسحاق، ويولد التراجعُ العامُ الشكَ بكل ما يحيط بالمهزوم، هويته وقناعاته ومبادئه وقيمه ولغته وكيانه ووجوده، وهي مسألة سبق أن تناولها ابن خلدون قبل قرونٍ عدة في حديثه عن تشبه المغلوب بالغالب، كما تناولتها أدبيات لاهوت التحرير (باولو فراري في البرازيل/ علم تربية المضطهدين) وأدبيات سيكولوجية المضطهدين (فرانتز فانون/ المعذبون في الأرض، ومصطفى حجازي/ التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور)، وهي أدبيات سبق أن راجعنا بعضها في أعداد مختلفة من مجلة "طلقة تنوير" (انظر مثلاً العددين 29، و36) .
لكنْ ثمة قانونٌ فولاذيٌ لا ينثني في حياة الشعوب والأمم، وهو أن الهزيمة لا تتحقق بالانكسار العسكري وحده، فالأمة المغلوبة لا تُهزم ما دامت متمسكة بهويتها ولغتها وأهدافها القومية الكبرى، وما دامت مصرة على المقاومة والصمود ريثما يأتي يومٌ أفضل قد تنتصر فيه، وما دامت طلائعها تنتج جيلاً بعد جيل من المناضلين والقادة الثابتين على المبدأ والمثقفين والفنانين والشعراء الذين يضيئون للأمة شعلة الأمل والوعي في عتمة اللحظات التاريخية الصعبة، وما دام هؤلاء موجودين، فإن الهزيمة العسكرية لا تتحول إلى هزيمة سياسية يتم الاعتراف فيها بنصر العدو، فحرب الـ67 مثلاً كانت هزيمة، ولكن لاءات قمة الخرطوم بعدها: لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف، منعت الهزيمة العسكرية من التحول إلى هزيمة سياسية، ثم جاءت حرب الاستنزاف التي قضى فيها، وانتبهوا للرقم، أكثر من 1500 صهيوني، لتؤكد على خيار الأمة العربية بمواصلة القتال.
أما مع توقيع معاهدات كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة، وفتح مسارات التطبيع مع العدو الصهيوني، فإن الهزيمة العسكرية تكون قد تحولت إلى هزيمة سياسية، للمنظومة الرسمية العربية على الأقل، منظومة التجزئة، وليس لمن قرروا أن لا ينخرطوا في مسار التطبيع والمعاهدات وأن يستمروا بالمقاومة أو أن يحتضنوها، وهم فعلياً من يحصّنون الأمة العربية سياسياً من الاستسلام للهزيمة، فالمقاومة، بكل أشكالها، هي جدار الدفاع الأخير للأمن القومي العربي.
العدو الصهيوني والإمبريالية العالمية قررا الآن، بعد مرحلة المعاهدات والتطبيع الرسمي العربي، أن الوقت حان للتطبيع الشعبي، ولذلك فإن تمدد مشروع الهيمنة والاحتلال بات يتطلب شق عرى العروبة ذاتها، كهوية وكانتماء، وهو شرط ضروري لتفكيك الوطن العربي، ولتحويله إلى عشرات الدويلات والإمارات والإقطاعيات الدائرة في فلك الهيمنة والاحتلال، ولهذا انتقل أعداؤنا إلى مرحلة الاختراق الثقافي، لا الأمني والسياسي فحسب، فبات مطلوبا تدمير الحالات النضالية، وإنتاج وعي مزيف ينبجس من روافدَ مختلفةٍ ليصبَ في خانة السعي لتدمير الهوية العربية، أي ليصب في خانة "تأثيم العروبة" وتبخيسها والتنصل من روابطها، وصولاً إلى التخلي عن اللغة العربية ذاتها.
من الواضح أن هناك من يهاجمون العروبة بغرض استفزاز حميتها ودفع أبناء الأمة للتحرك دفاعاً عن الشرف الوطني والقومي، ولكن هناك من يهاجمها بداعي الإحباط، وهناك من يهاجمها لأنه تقمص رؤية المستعمر الاستشراقية لوطننا العربي فبات يربط كل ما هو سلبي ومتخلف بالعروبة، وكل ما هو متقدم وإيجابي بما هو خارج العروبة، ولو كان ما هو غير عربي شرقياً أو إسلامياً، ولكن غير عربي!
هذا النوع الثاني هو من يعيش حالة استلاب وغربة عن ذاته القومية، ومن يهاجم العروبة انطلاقاً من انتمائه لدوائر ضيقة طائفية أو جهوية أو عِرقية يصب في المجرى ذاته، ويؤدي الغرض ذاته، وكذلك من يهاجمها انطلاقاً من الذات القُطرية التي رسم حدودها الاستعمار، فالعروبة هي هوية هذه الأمة بشعبها وأرضها وتاريخها ولغتها وثقافتها، واستهدافها من أبناء جلدتها على جرائم وآثام أعدائها بحقها هو نوعٌ من الجهل والطيش المدمر الذي يصب في طاحونة أعداء الأقطار العربية قطراً قطراً، لا العروبة بالمجرد فحسب.
فلنتذكر إن من حاصر واعتدى وقتل ودمر لبنان وفلسطين والعراق وسورية وليبيا واليمن وغيرها من الأقطار العربية هم أعداء العروبة، هو غربي أو صهيوني أو رجعي عربي متحالف معهما، ومن دعم الإرهاب وموله وغذاه هم أعداء العروبة، وإذا كان بعض المواطنين العرب المضللين قد مارسوا الإرهاب التكفيري في أقطار عربية أخرى، فإن هناك مضللين كثر من أبناء القُطر ذاته ممن انخرطوا في الإرهاب التكفيري أيضاً، وانجروا خلفه، فمن نكره غير العروبة بعدها؟
وإذا كانت الرجعية العربية في التاريخ العربي المعاصر، كأداة من أدوات الإمبريالية والاستعمار وكحليف للصهيونية قد شاركت الإمبريالية والصهيونية في حصارها وعدوانها، فإن ذلك يدين المنظومة القُطرية العربية التي أسسها الاستعمار، ويدين الرجعية العربية، ولا يدين العروبة ذاتها التي يمثلها الشعب العربي وإرثه الحضاري وطلائعه المناضلة والمتنورة، ولا تؤخذ العروبة بجريرة بعض الأنظمة العربية الرجعية، في الخليج العربي أو غيره، لأننا نحن ممثلي العروبة لا يجوز أن نتخلى عن العروبة لأعدائها، كما لا يجوز بتاتاً أن نتخلى عن الإسلام للتكفيريين لو أساؤوا باسمه، وإذا هاجم أهل العراق وبلاد الشام ومصر والسودان والمغرب العربي العروبة، على من يتجنون إلا على أنفسهم، وماذا يتبقى من العروبة بعدهم، وهل العروبة إلا هم؟!
يحاول العدو أن يشتتنا ويفقدنا توازننا وأن يدفعنا للتخلي عن ذاتنا، وهو جوهر الاختراق الثقافي الذي نجح بخلق بعض المتفرنسين في الجزائر وفي لبنان مثلاً، ويحاول العدو أن يوصلنا إلى حالة استلاب نصبح فيها ألد أعداء ذاتنا، أن نكره أنفسنا، وأن نرمي بأيدينا إلى التهلكة، مستغلاً حالة الاحباط والفوضى التي يولدها دفق المعلومات والصور الموجهة في زمن سيادة تكنولوجيا الاتصالات وشبكات التواصل الاجتماعي، لكن في اللحظة التاريخية الصعبة بالذات، أكثر من غيرها، يجب الإصرار بقوة: عربي وأفتخر.
 

تنويه | المقالات المنشورة في الموقع تمثل رأي صاحبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي أسرة الموقع

جميع الحقوق محفوظة لموقع جامعة الأمة العربية © 2021 - 2013