قراءة في واقع الأحزاب العربية، المشهد السياسي في تونس نموذجاً التقارير والمقالات | قراءة في واقع الأحزاب العربية، المشهد السياسي في تونس نموذجاً
تاريخ النشر: 01-10-2018

بقلم: عبدالناصر بدروشي

هذا المقال هو قراءة في أبعاد المشهد السياسي التونسي والعربي ما بعد “الربيع العربي”، تنطلق من الراهن لتحليل وفهم أسباب الأزمة التي تعيشها التيارات القومية واليسارية على امتداد الوطن العربي، وتحاول التطرق إلى مسألة الآليات والأداء، وتطرح تصورات للخروج من التيه والضياع والعشوائية التي أصبحت السمة الأبرز للقوميين واليسار العربيين.

لا يظنن أحد أن الهدف من هذا المقال هو التهجم على الأحزاب العربية والنيل من منجزاتها ولا من رموزها ولا نرمي البتة إلى المزايدة على أي طرف.
وإن فُهِمَ بأي شكل من الأشكال أن الغاية من وراء كتابة هذه السطور هي التخوين أو النيل من رموز العمل القومي والتنظيمات والأحزاب القومية واليسارية أو المزايدة عليها فذلك ربما يكون بسبب قصور مني في إيضاح المبتغى.
كما نعتذر مسبقا للقارئ الكريم أياً كانت مرجعيته التنظيمية عن صراحتنا البالغة في تشريح الواقع واعتمادنا لأسلوب نقدي صريح )إلى درجة قد تزعج البعض( وذلك كشرط أساسي للإمساك بالجذر الحقيقي للمشكلات التي يعيشها التيار القومي العربي واليسار العربي بمختلف مشاربه بدل اعتماد الطبطبة وتوزيع الورود والنفاق. فالتشريح الدقيق والعميق هو الشرط الموضوعي لحل المشكلة حاً جذرياً.
ولأننا نحترم هذه القوى السياسية ونكنّ لقواعدها كل مشاعر الود والتقدير، سنكون صريحين خال نقدنا لأدائها، وإن لمس منا القارئ الكريم حدةً فهي من منطلق غيرتنا على واقعنا وواقع شركائنا في الوطن.
إن الدافع وراء كتابة هذا المقال هو الإسهام في وضع تصورات وأسس يمكن أن تساعد في تطوير أداء قوى المعارضة القومية واليسارية العربية عموماً، وإن اعتمدنا على المشهد التونسي كمنطلق في التحليل ليس كخصوصية إنما كعينة عربية يمكن تعميمها بدرجات متفاوتة. منذ انطلاقة ما سمي “ربيعاً عربياً” وحالتنا كأمة عربية تشهد انحداراً من السيء نحو الأسوأ، والأوضاع في تونس لا تختلف كثيراً عنها في أغلب الأقطار العربية من حيث تفشي ظاهرة الإرهاب وشيوع الفوضى، والتراجع الملفت
لحضور الدولة لتحل مكانها منظمات التمويل الأجنبي، بالإضافة إلى عجز الدولة عن وضع حد لمسلسل انتهاك السيادة الوطنية من قبل قوى الهيمنة الخارجية وأدواتها، ناهيك عن تسليم رقاب الشعب إلى مقصلة صندوق “النقد” أو النهب الدولي ليتحول إلى حاكمٍ فعلي للباد يشرف على ترسيخ سياسات اقتصادية وجبائية قصمت ظهر المواطن حتى بلغ مستوى “مقدرته الشرائية” قاع الحضيض.

الملفت للانتباه في الحالة التونسية، هو أن الوضع المزري الذي وصلنا إليه اليوم ليس من إنتاج الائتاف الحاكم الأخير وحده، بل هو نتيجة برنامج متكامل تكالبت الحكومات التي تعاقبت على حكمنا على تنفيذه، ودخلت – أي الحكومات - في منافسة محمومة شعارها الأبرز كان التفويت في مؤسسات الدولة والقطاع العمومي والثروات المنجمية والطاقة لمصلحة المستثمر الأجنبي.
أمام هذا الوضع الكارثي تعالت أصوات “المعارضات” يمنة ويسرة، داعيةً إلى تشكيل جبهة إنقاذ لمواجهة منظومة الحكم، محملين مسؤولية تردي الأوضاع كاملة إلى الائتاف الحاكم )الإخونجي-الليبرالي(، حتى أن البعض من الشق الوطني المعارض، وهو يستميت في سبيل الحصول على مقعد في برلمان “بول بريمر)*(”، أصبح يردّد عبارة ضرورة إنقاذ العملية السياسية وإنقاذ المسار الانتخابي والديمقراطي.
لا نعرف لمصلحة من يستميت البعض لانتشال وإنقاذ المسار “الديموقراطي”. فكلما تأزمت حال هذا المسار العفن بسبب تمسكه وتفانيه في تطبيق سياسات صندوق النقد الدولي وتطبيقه للإماءات الإمبريالية، هب الجميع )إلا من رحم ربي( لإنقاذه وإعادة الروح اليه، وكل عملية إحياء لهذا المسار تساهم في استدامة هذا الواقع.
قبل البدء في تقديم رؤيتنا للحل لابد من الانطاق من تحليل عميق ودقيق للواقع، وقبل كل هذا وذاك، لا بد من ذكر تفصيل مهم، وإن بدا صغيراً، إلا أنه أساسي لفهم طبيعة قوى “المعارضة”؛ إن أهم ما يميز دعوات المعارضة لبناء تكتات لمواجهة القوى الحاكمة في تونس هو توقيتها الزمني، حيث أنها عادة ما تنطلق قبيل افتتاح  المواسم” الانتخابية، وهو ما يجعلها )أي الدعوات( تتخذ طابع تحالفات انتخابية طارئة أكثر من كونها دعوات لتأسيس كتلة سياسية وازنة قادرة على مقاومة خيارات منظومة الحكم  القائمة.
لا شك في أن النضال السياسي الواعي هو الأثبت والأكثر فعالية وليس الإنفعالي المحكوم بمنطق ردات الأفعال، وكنا نتمنى أن يقود وعي قوى المعارضة بقتامة المشهد إلى تشبيكها والتحامها في جبهة وطنية تقدمية قومية ويسارية مقاومة تقوم على برنامج سياسي استراتيجي، إلا أن هذا التحدي يبدو بعيد المنال، نظراً لوجود عدة عوائق.
لعل أهم هذه العوائق هو اعتماد أغلب مكونات المعارضة لأسلوبٍ تحليليٍ يفتقر للمنهجية العلمية عندما يتعاملون مع
“أقطارهم” كقطع معلقة في الهواء بعيداً عن تأثيرات الجغرافيا والتاريخ والقوانين التي تحكم حركة الواقع.
ومن مظاهر العبثية مثاً نشوء تكتات تضم في صفوفها قوى سياسية تمتلك مواقف متناقضة من القضايا السياسية المركزية في الساحات العربية، وهو ما جعل بعضها يتبني برنامجاً مقاوماً للإمبريالية في تونس في الوقت الذي يتقاطع موقفها السياسي مع الإمبريالية في ليبيا وسورية والعراق واليمن، كذلك تبني بعضها لما يسمى “الربيع العربي” من جهة من دون إدراكها بأن ما تسعى إلى محاربته في تونس هو واحد من أهم مخرجات ذلك “الربيع”.

كل هذا يعطينا فكرة واضحة أننا إزاء معارضات، أغلبها على الأقل، غارقة في التخبط وتمتلك خطابات وبرامج تحمل في طياتها تناقضات خطيرة، وهناك أيضاً حرص
الأحزاب المعارضة الدائم على الفصل بين ما هو قُطري وما هو قومي وإقليمي، خال النقاشات الرامية إلى بناء جبهات وتحالفات سياسية، وإصرار الأحزاب على عدم
الزج بتونس أو مصر أو المغرب في صراعات إقليمية، هو دليل على ضعف في الرؤيا، فسياسات الحكم التي نعارضها تأتي ضمن سياق قومي وإقليمي متكامل، وهي أشبه ما تكون بفسيفساء، وحكامنا هم جزءٌ من منظومة إمبريالية دولية متماسكة فا معنى للتصدي لمسار دولي والانخراط في معركة قومية وعالمية بوعي مفكك ومشوه يتعسف على الواقع.
أي أننا عندما نخوض معارك قومية ذات أبعاد دولية بأدوات قطرية فنحن نحكم على نضالاتنا بالفشل كوننا نعمل على اختال ميزان القوى لمصلحة عدونا، فنفعل بأنفسنا ما عجز عن فعله عدونا بنا.
في المقابل تتسم القوى الرجعية في تونس مثاً بوضوح في الرؤيا، وتتسم ممارستها بالعلمية والمنهجية أكثر من المعارضة. فعندما يقوم حزب “النهضة” الإخواني في تونس
بتشبيك علاقاته بإخوان ليبيا وقطر وتركيا، ويفعل كل ما في وسعه لدعم إخوان مصر في الميدان وبالموقف السياسي، وعندما يقف ضد محاولة الانقاب في تركيا وعندما يصر على استقبال جون ماكين ومادلين أولبرايت وجورج سوروس وتوسيمهم في المقر المركزي ل”حركة النهضة”، فهذا يدل على أنه حزب استراتيجي، وأن “الإخوان”
يدركون أنه لا أمل لهم في تثبيت أركانهم إن لم يكونوا مدعومين من حلفاء على مستوى الإقليم وعلى مستوى دولي من خال استدرار دعم أكبر قوة عالمية هي الولايات المتحدة، حليفهم الطبيعي والتاريخي بعد بريطانيا.
في المقابل، نجد أن حزب “نداء تونس” الليبرالي شريك النهضة في الحكم قد فهم قواعد اللعبة جيداً، وعلم أنه لن يتمكن من مواجهة خطر تغول أخطبوط “الإخوان” منفرداً، لذلك قام رئيس الحزب بزيارات استراتيجية إلى مراكز قوى عربية واقليمية مناهضة للمشروع الإخواني وتحالف مع حكام الإمارات والسعودية وأقنعهم بدعمه  بالموقف وتمويل حملته الإنتخابية كون حزبه يشكل ضمانة لعدم تغول المشروع الإخواني الذي يخافونه، كما استغل علاقات حزبه التاريخية بباريس، باعتبار “الإخوان” قوة مدعومة أمريكياً وبريطانياً، بينما هي منبوذة فرنسياً وفي بعض أوروبا.
وكذلك الأمر بالنسبة لكل الأنظمة الرجعية، فعلى الرغم من عمالتها إلا أن ممارستها السياسية أكثر علمية من المعارضة القومية واليسارية، وهي تتحرك وفق رؤية شاملة  ومتمركزة ضمن أحاف استراتيجية تخدم مصالحها.
كل ما تقدم يبين لنا مدى وضوح الرؤيا لدى من نطمح للإطاحة بهم، ويبين لنا أنهم استراتيجيون إلى أبعد الحدود، بينما تتسم معارضاتنا في أغلبها بضيق الأفق، فبدل تشبيك علاقتها بسورية والجزائر مثاً، باعتبار أن أنظمة الحكم في كلا القطرين في حالة اشتباك مع الإمبريالية وغير مرضٍ عنها غربياً، نجدها تسهب في وصف أنظمة الحكم فيها بالاستبداد والفساد، وفي افضل الحالات هي لا تعاديها ولكنها تترفع عن التحالف معها! في الوقت الذي يدرك فيه الغرب أي خطر يمكن أن تشكله هاتين الدولتين، فالجغرافيا تؤهلهما أن تكونا مشروع حاضنتين لأي مشروع تحرري عربي.

كما أن أغلب معارضاتنا لم تدرك بعد أن معاداتها للمشروع الإمبريالي داخل حدود أقطارنا يفرض عليها تصادماً مع العدو الصهيو-أمريكي، وهو أمر يفرض بالضرورة ربط علاقات وبناء تحالفات مع الجزائر وسورية عربياً، والصين وروسيا وإيران وفنزويا دولياً. فاختاف الأيديولوجيات ليس هو المحدد في تأسيس الجبهات، وليس محدداً لمدى تماسكها، بل الرؤيا المشتركة والتخندقات هي المحدد الحقيقي، وهذا ما جعل تحالفا متيناً استراتيجياً ينشأ ببن قوى علمانية وأخرى إسامية )نموذج: سورية – إيران – حزب الله(.
باختصار، إذا كانت المعارضات جادة في سعيها للتأثير في مسار الأحداث فعليها أولاً أن تنضج وتتصرف كقوة سياسية مؤهلة للحكم، وأن تعي أن عليها أن تمتلك نظرة أوسع أفقاً وأرحب وعياً وأعمق مما هي عليه اليوم، وأن لا تغرق في التفاصيل، وأن تكف عن اعتبار نفسها مجرد قوة احتجاجية قادرة على إزعاج المنظومة الحاكمة في أفضل الحالات، ويتضح ذلك من خال غياب الوعي الاستراتيجي وعدم الخروج من حيز ردة الفعل وعدم قدرتها على إنشاء تحالفات داخلية وخارجية متينة وقوية قادرة على مواجهة اللوبيات الحاكمة المدعومة من الدوائر الإمبريالية.
ليس هذا تعسفاً منا على معارضاتنا، فعندما نتحدث عن البرنامج هنا فإننا لا نعني بذلك الشعارات المرفوعة أو المكتوبة هنا وهناك أو في بعض الورقات التي أعدت لغرض الدعاية الانتخابية، وإنما نقصد البرنامج الحقيقي الذي تترجمه الممارسة العملية.
بين المنشود والمتاح نقدم تصورا للمواجهة، مواجهتنا مع الأنظمة الرجعية وخياراتها الانبطاحية بعيداً عن الشعارات الفضفاضة والخطب الإنشائية.
المشاركة في العملية الانتخابية:
تعتبر أغلب الأحزاب العربية اليوم أن الساحة الانتخابية أحد أهم ساحات الاشتباك مع الإمبريالية ووكلائها، إن لم نقل أنها الأهم، ويتساءل البعض حول سر عزوفنا عن المشاركة في العملية الانتخابية، وغالباً ما كان يقابل موقفنا هذا بشيء من الامتعاض وينجر البعض لاتهامنا بالعبثية واللاواقعية.
سبع سنوات مرت على إطاق “الربيع العربي”، والمحصلة كانت تزايد هامش الحريات وتنامي النفس “الديموقراطي” بمفهومه “الربيعي”، واعتبار الانتقال الديموقراطي )ديموقراطية صناديق الاقتراع( هو الحل، والمخرج الوحيد لنا كعرب من كل أزماتنا.
هذا الطرح الذي بات يروج له غربياً وعربياً عبر مراكز الأبحاث والدراسات، كواحدة من أهم أدوات مشروع «الربيع » والتي ساهمت في تهيئة الأرضية له، أدى إلى انخراط أغلب الأحزاب في العمليات السياسية داخل الاقطار العربية، وقد تم تدجين هذه الأحزاب وإعادة تدويرها عبر إحداث تغيير جذري في وعيها عبر المراجعات التي مهدت لها مراكز الأبحاث العربية المخترقة، فأنتجت وعياً إصلاحياً لا يرى ضيراً في التعامل مع الواقع والاجتهاد في تحسينه وتجميله وفق الممكن عبر مقولات مثل: «السياسة فن الممكن »، وضرورة تحقيق بعض المكاسب داخل منظومة التجزئة ووفق شروط هذه المنظومة حتى لا نقصي أنفسنا خارج المشهد السياسي ولا نهمش أنفسنا.
الحل الحقيقي يكمن في الانخراط في العمل السياسي بغية إحداث ثورة اجتماعية تجتث عوامل التخلف والتجزئة والاحتال، بينما يتسم الطرح الاصلاحي بأنه ليس استئصالياً من حيث النزعة بل هو أقرب ما يكون إلى عملية مثل هذا الوعي الإصلاحي المسخ، هو النقيض الموضوعي للوعي الثوري الجذري الذي يرى الحل في قلب الطاولة على امتدادات النظام العالمي داخل أقطارنا العربية، فنحن نهمش أنفسنا عندما نقبل بالدخول في لعبة تجردنا من أهم ساح نمتلكه وهو تثوير الجماهير بدل تدجينها، وتأليبها في اتجاه افتكاك حقوقها بدل الاحتكام اليها.
نحن هنا لا نرفض مبدأ الاحتكام إلى الجماهير، بل نرفض الاحتكام إلى جماهير مسلوبة الإرادة وموجهة عبر قنوات إعلامية ودعائية ومالية لا مكان لنا فيها ولا قبل لنا بها،
فنحن نرفض الاحتكام إلى الجماهير التي لم تسمعنا والتي شوهوا صورتنا في أذهانها زوراً وبهتاناً عبر القصف الاعلامي الممنهج.
إن رفضنا للانخراط في العملية السياسية الانتخابية ليس مبدأ مطلقاً؛ وليس من باب الطهرانية التي تقود إلى الانعزال، إنما هو موقف سياسي راهن يمكن أن يتغير
بتغير الظروف والساحات، ونحن نؤمن بضرورة تحقيق الشروط الموضوعية للمشاركة قبل الانخراط فيها.
خال مشاركتها في العمليات الانتخابية، قامت الاحزاب العربية القومية واليسارية بطرح ورقات وبرامج إنتخابية تنادي بالعدالة الاجتماعية وتتمحور حول مقولة الانتصار
للطبقات الشعبية الكادحة والمفقرة، ظناً منها أن تقديم برنامج انتخابي ينتصر للجماهير سيساهم في تقريبها للجماهير.
إلا أن الجماهير لا تقرأ ولا تسمع.. بل تحس..
على الرغم من أهمية البرنامج وأهمية أن يكون واقعياً ونموذجياً، إلا أن ذلك ليس شرط النجاح في العملية السياسية.
فا يكفي أن نمتلك الحق حتى ننتصر.. والواقع يبين أن أكثر من وصلوا لا يمتلكون برنامجاً وطنيا بالمفهوم القطري، ولا برنامجاً قومياً ولا يسارياً، وأكثر من حصد أصوات الجماهير يحملون مشاريع معادية للجماهير.. والتغيير الاقتصادي والاجتماعي الكارثي الحاصل كنتيجة لانتصار هؤلاء في العمليات الانتخابية في كل من تونس والعراق
وليبيا ومصر هو خير دليل على معاداتهم لمصلحة الجماهير وخدمتهم لمصلحة الدوائر الأجنبية .. فهم معادون للوطن .. ولا يمكن أن نتّخذ أسلوبهم نموذجاً كما يدعي بعض “المثقفين” الذين يشيدون بجدواه وفاعليته.
هم وصلوا عبر المال الرجعي والإمبريالي، والدعم الذي تحصلوا عليه كان عبر قنوات رأس المال، فهل علينا أن نتعلم منهم ونتبع مسلكيتهم؟ وهل نحن قادرون على منافستهم بأسلحتهم؟
لأن مشروعنا يختلف جذرياً عما يطرحون، ولأننا نمثل النقيض الموضوعي لطرحهم، فإن مسلكيتنا ستكون حتما مسلكية أخرى قادرة على جلب الجماهير لصفوفنا، وهي، أي الجماهير، الجسر الذي يوصلنا للتأثير السياسي.. ونحن بوصلتها للطريق الذي يمكن أن يوصلها لتحقيق مصالحها.
كيف؟
إن الأزمة التي يعيشها التيار القومي على امتداد الوطن العربي ليست أزمة فكرية بقدر ما هي أزمة آليات. حتى مشاركتنا في العملية الانتخابية تمت بطرق غير مدروسة، وكانت تعبر عن انسياقنا في المسار الذي تم رسمه. في تونس مثاً انطلقت المعارضات من معلومة صحيحة ليصلوا بها إلى استنتاجات خاطئة لامنطقية.

توضح الإحصائيات للجميع أن نسب المشاركين في الانتخابات السياسية شهدت انخفاضاً حاداً بحسب الهيئة العليا المستقلة للانتخابات:
- الانتخابات التشريعية 2014 : العدد الإجمالي للمقترعين بجميع دوائر الاقتراع في الباد بلغ ثلاثة ملايين و 266 ألفاً و 214 مقترعاً، فيما بلغ عدد المقترعين في انتخابات المجلس التأسيسي 4,053,905 عام 2011 ، وهو ما يمثل انخفاضاً مقداره أكثر من % 24 ، وسنرى ما تسفر عنه الانتخابات التشريعية في عام 2019 .
- الانتخابات البلدية 2018 : العدد الإجمالي للمقترعين بجميع دوائر الاقتراع في الباد بلغ مليوناً و 796 ألفاً و 154 مقترعاً، وقد أجمع المراقبون والمنظمون كما الأحزاب السياسية على أن نسبة المشاركة صادمة ومخية للآمال في مقابل التوقعات والدعايات التحفيزية الكبيرة التي قامت بها الدولة.
وهو ما يدل على عزوف الجماهير وعدم ثقتها في المشهد السياسي جملة وتفصياً، والسبب وراء سخط الجماهير على المشهد السياسي وانسحاب الأغلبية من المشاركة في اعتقادنا تعود لإدراكها أن الأحزاب المشاركة لا تعبر عن طموحاتها، وأنها عاجزة عن تقديم حلولاً لمشكلاتها، وأبعد ما تكون عن همومها.
وسط هذا المشهد تتوهم المعارضة أن اندفاعها نحو العملية الانتخابية وتقديم شعارات وخطب رنانة تتغنى بالكادحين وهمومهم ومشاغلهم سيمكنها من تحقيق مكاسب مهمة كونها الأجدر بنيل الثقة، فنرى الأحزاب القومية واليسارية تتسابق في تشكيل قوائم انتخابية متعددة وتكتات مختلفة وكل ائتاف بما لديهم فرحون.
وفي قراءتنا لهذا المشهد نرى أن:
- أغلبية الشعب عازفة عن المشاركة في المهزلة الانتخابية وجمدت ثقتها في اللعبة الديموقراطية حتى إشعار آخر.
- قواعد الإخوان والليبراليين من أنصار النظام السابق ثابتة، ولا يمكن أن تميل إلى انتخاب قوى يسارية التوجه بأي شكلٍ من الاشكال.
- القوى القومية واليسارية عجزت عن تشكيل تحالف انتخابي واسع وجامع، وأن تقديمها لقوائم متعددة ومشتتة في ظل غياب الموارد المادية والإعلامية سيخلق حالة استقطاب حاد داخل صفوف المعارضة نفسها، كونها غير قادرة على استمالة قواعد الأغلبية الحاكمة، بل ستعمل على تقاسم قواعدها الانتخابية (أي القواعد المحسوبة على القوميين واليسار) التي ستتفرّق وتتشتت حين تجد نفسها أمام عدة خيارات.
- المشاركة الضعيفة للمعارضة تمكنها فقط من أن تحتل موقعا “ديكورياً” عن جدارة، لا تتجاوز وظيفته إضفاء الشرعية على قرارات الأغلبية حتى وإن عارضتها، فبمعارضتها لهذه القرارات تمنحها الصبغة الديمقراطية.
الحل قطعاً هو اكتساب ثقة الأغلبية التي تراجعت، ونيل ثقتها يكون في الشارع أولاً، وليس في قاعات الاقتراع.
وسبق أن قلنا أن الجماهير لا تقرأ البرامج ولا تستمع إلى الخطب، بل تحس بمن يلتحم معها ويقودها نحو انعتاقها.
الجماهير تلتحم بمن تحس بمصداقيته ويطابق قوله فعله، والفعل يكون في الساحات النضالية وليس الخطابية الانتخابية.
كسب ثقة الجماهير يكون عبر امتاك خطاب واضح وجريء يقرأ نبض الشعب ليكون قريباً منه ولا يخطب ودّ الدوائر الإمبريالية ولا يخشى استغضاب من تسبب في تفقيرها ونهب مقدراتها.
كسب ثقة الجماهير يكون بالرجوع للشارع والتخلي عن والخروج من الأطر التي لفظها الشعب وسحب ثقته منها، والاشتباك مع قوى الهيمنة الخارجية وكل من يعمل لمصلحتها.
عندها، لا بأس من المشاركة في العملية الانتخابية ولا خوف من خوضها، دون أن نغفل عن ماهيتنا كثوريين جذريين قوميين ويساريين.
هذه الورقات هي دعوة جادة لمراجعة حقيقية لأدائنا كقوميين ونقد مسلكياتنا نقداً بناءً يرمي لإخراجنا من حالة الوهن والضياع التي باتت سمتنا الأبرز كتيار، وتطوير أدائنا بما يسمح للفكرة القومية بالخروج من الحيز الورقي إلى أرض الواقع والانتقال من الشعار إلى التطبيق، والدفع إلى مراجعة الآليات المتبعة من طرف القوى السياسية ودحض فكرة تمكنت من السيطرة على وعي ولا وعي العديد من الوحدويين مفادها أن القومية العربية قضية شعاراتية حالمة وأن القوميين أبعد ما يكون عن العلمية وأنهم ينادون بفكرة غير ممكنة التحقيق، وإن تحققت ربما فإن ذلك سيكون بعد مئات أو آلاف السنين! وعندما نسأل كيف؟ تكون الاجابة في اغلب الأحيان: لا ندري!

بعد سلسلة من الحوارات مع عدد كبير من القوميين )منتظمين ومستقلين، شباب وشيوخ( اتخذت طابعاً ودياً، وبعد محاولة فهم العوامل المؤدية إلى تبني مسلكيات تتناقض مع القناعات الأيديولوجية المرفوعة، توصلت إلى قناعة مفادها أن السر وراء هذا الوضع هو غياب رؤية وتصور واضح للآليات، وهذا ما أدى إلى تخبط في الأداء وارتجالية
أفقدت الأحزاب والتنظيمات القومية بوصلتها في كثير من الأحيان وأفرغتها من محتواها الوحدوي الذي ظل حبيس الشعارات والهتافات، وأصبحت هناك هوة سحيقة بين الشعار والممارسة تزداد يوماً بعد يوم.
نحن نقف أمام حالة فصام حقيقي وعدم انسجام بين روح المناضل القومي وقناعاته وعقيدته السياسية من جهة، وممارسته من جهة أخرى.
عند تقييمنا لأداء حركات التحرر العربي نجد أن لها حسنات كثيرة على الرغم من بعدها عن الكمال، وأن تجربتها بحاجة إلى التطوير والتحسين المستمرين، وعندما نتحدث عن التطوير فهذا يعني المحافظة على النجاحات والإيجابيات، والاستفادة من الأخطاء عبر تصويبها وتجنب تكرارها، ومن هذا المنطلق التقييمي نلاحظ أن الفضل في الإنجازات التي حققتها حركات التحرر العربي في زمن المد القومي خال خمسينيات وستينيات وحتى سبعينيات القرن الماضي يعود أساساً إلى تمسكها بمسلكيتها الثورية وعنفها الثوري كخيار استراتيجي لمواجهة العنف الإمبريالي. لهذا عمدت الإمبريالية إلى تجريدنا من ساحنا الاستراتيجي ألا وهو خطابنا ومسلكيتنا عبر أدواتها الناعمة وأساطيل المثقفين الذين اخترقوا معسكرنا وتلبسوا بلبوسنا وتكلموا بمصطلحاتنا وعملوا بشتى الطرق ولعقود على اقناعنا بضرورة التخلي عن جوهرنا مع الإبقاء على القشور ولم يدخروا جهداً في ذلك مستغلين كل المنابر المتاحة الإعلامية والثقافية، وأسالوا الكثير من الحبر وأطنانا من الورق في سبيل ذلك.
وفي المحصلة تمكنت الامبريالية من حرف الصراع عن مساره حين اقنعت قطاعات واسعة من القوميين واليسار بأن أزمتنا الحقيقية هي أزمة حريات وحقوق انسان وأن محاربة الاستبداد أولى من مجابهة الاحتال والهيمنة الخارجية والتقسيم.
فأصبحت الثورة والكفاح المسلّح “تعنت بالأطروحات الماضوية”، وأن لغتها “خشبية ومن الماضي”، ولم يعد لها مكان في عالمنا المتحضّر الديموقراطي جداً، وأنّ المتغيّرات تحتّم علينا اتّباع المسار الديمقراطي الغربي، وأصبح “الصندوق” الانتخابي أحد مقدساتنا التي ينبغي علينا الحفاظ عليها أكثر من حرية الناس وأرواحهم وأرزاقهم. وبينما
تمّ دفع الثوريين إلى التنازل عن مصطلحاتهم ومفاهيمهم خوفاً من نعتهم باتباع الدوغمائية واتهامهم بالتكلّس وعدم الواقعية والجمود والشمولية.
نجد في المقابل أنّ الامبريالية حافظت على كلّ ممارساتها الاستعمارية الرأسمالية من استغلال ونهب مقدرات الأمم وشنّ الحروب على الشعوب الآمنة ودكتاتورية الشركات والبنوك العابرة للقارات..
وبالمقابل يطلبون من مناهضيهم بأن يغيّروا محتوى أسلوبهم الكفاحي والثوري وليس مصطلحاته فقط، كل هذا لأن الامبريالية تسمّي الكفاح التحريري إرهاباً.
المشروع القومي العربي إما أن يكون ثورياً أو لا يكون.. فالفكرة القومية في جوهرها تمثل النقيض الموضوعي للواقع القطري السائد، فالوحدة هي النقيض الموضوعي للتجزئة والصراع بين هذين الضدين صراع تناحري وضمانة استمرارية أي طرح منهما مرهون بفناء الطرح الآخر.
فكل خطوة نخطوها نحو كسر واقع التجزئة هي تقدمٌ لمصلحة المشروع القومي العربي، وكل عملية تطبيع مع واقع التجزئة تغذي المنظومة القطرية، ولو كانت بأيد “قومية”، حتى لو كانت دوافعهم نبيلة تحت شعار تحقيق مكاسب للقوميين تصب عملياً في مصلحة أعداء المشروع القومي العربي، وكل من له مصلحة في الإجهاز على الفكرة
الوحدوية، والانخراط في المنظومة القطرية بأدوات قطرية والعمل بآلياتها يكرسها حتى ولو كانت الغاية المرجوة قومية.

وكلمة السر في الاجابة عن سؤال: ما الحل؟ هي: الآليات والجماهير الملايين من اللذين منحوا ثقتهم لعبد الناصر ولتشافيز ولبشار الأسد والذين تحملوا أعباء الصراع مع الإمبريالية لم يكونوا ليفعلوا ما فعلوه لو لم يحسوا.. أقول يحسوا.. بصدقهم وقربهم منهم..
ولم تكن الجماهير لتصمد أو يستمر صبرها في تحمل الأعباء لولا إبداع هذه القامات في اجتراح آليات مبتكرة قادرة على تحقيق مكاسب حقيقية على أرض الواقع.
لا وجود لثورة بدون جماهير.. ولا يقدر على تحريك الجماهير من يحتقرها ويتعالى عليها.. وقبل الاحتكام للجماهير علينا أن نضبط الموجة بيننا كمناضلين وبين الجماهير حتى نمتلك قلوبها ونستحق شرف قيادتها نحو الانعتاق عن جدارة.


تنويه | المقالات المنشورة في الموقع تمثل رأي صاحبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي أسرة الموقع

جميع الحقوق محفوظة لموقع جامعة الأمة العربية © 2021 - 2013