تحرير الجزائر: ثورة الفقراء التقارير والمقالات | تحرير الجزائر: ثورة الفقراء
تاريخ النشر: 15-09-2018

بقلم: يحيى زكريا محمد

“إن ثورتنا ليست ثورة كبار التجار أو الإقطاعيين، ولكنها ثورة الفاح والعامل وماسح الاحذية وأرامل الشهداء...”، بهذا وصف الرئيس أحمد بن با ثورة الجزائر العظيمة
التي تعتبر اليوم إحدى الثورات الرائدة في التاريخ.
بقيادة جبهة التحرير قامت ثورة الجزائر سنة 1954 ، وبقيادة ثورة جبهة التحرير استمرت الثورة سبع سنوات ونصف، وبقيادة هذه الجبهة استطاع الجزائريون أن
يحصلوا على الاستقلال ويقيموا الجمهورية الجزائرية.
وهكذا استطاعت جبهة التحرير أن تنجح في معركة الاستقلال، وهي المعركة التي فشلت فيها الأحزاب التي كانت موجودة قبل اندلاع الثورة، مثل حزب البيان وحزب
الشعب والحزب الشيوعي الذي كان مرتبطاً كل الارتباط بالحزب الشيوعي الفرنسي.
لمحة عن الأحزاب قبل جبهة التحرير:
*حزب البيان: كانت أفكار فرحات عباس -زعيم الحزب- وحزبه، أنه لا يريد اندماجاً في فرنسا، وهو في نفس الوقت لا يريد انفصالاً عنها، ويريد الجزائر الجديدة أن ترتبط )بشعب عظيم متحرر الفكر( هو الشعب الفرنسي، وأن يمضي دائماً وراء “الديمقراطية الفرنسية العظيمة”، حيث كانا –فرحات وحزبه- على أمل كبير، يقول النقاش، في التعاون مع فرنسا، وكانا يفكران على أبعد تقدير في نوع من الاستقلال الذاتي للجزائر ضمن النفوذ الفرنسي، كما أن الحزب لم يكن يضع في برنامجه أي تخطيط لثورة عسكرية ضد فرنسا، أو حتى أي تخطيط لثورة اجتماعية مثل تحطيم الاقطاع وتحقيق الإصاح الزراعي.
هذا هو التفكير النظري لحزب البيان، أما السلوك العملي فيكفي أن نعرف أن فرحات عباس كان يرشح نفسه في “الانتخابات” التي كانت فرنسا تجريها في الجزائر، وأن عباس كان عضواً في البرلمان الفرنسي نائباً عن الجزائر، فالمسألة لم تكن مسألة نظرية فحسب، بل مرتبطة بالسلوك السياسي أيضاً. لقد كان هذا الحزب، يقول النقاش، بعيداً عن الصواب في تحليله السياسي وفي أسلوبه العملي، وفي معرفته بجوهر المشكلة الجزائرية.. ولذلك كان حزب البيان –إجمالاً- محاولة فاشلة من محاولات عاج القضية الجزائرية، هي أقرب فعلياً لمشاريع “إصاح الاحتال” الملفقة التي تكثر في فلسطين اليوم.
*حزب الشعب: كان حزب الشعب بقيادة مصالي الحاج أكثر ثوريةً من حزب البيان، وكان متغلغاً في صفوف العمال والطبقات الشعبية وكان ينادي بالاستقلال التام، ويدرك أكثر من حزب البيان معنى الشخصية الجزائرية، التي تنتسب في تكوينها إلى الشخصية العربية.. وأنه يجب أن يتحرك في هذا الإطار العربي، لا في الإطار الفرنسي. اشترك الحزب أيضاً في بعض الانتخابات التي أجرتها فرنسا، واشترك نواب الحزب في بعض البرلمانات الفرنسية.. مما يدل على، يقول النقاش، عدم التفكير –بين قادة الحزب- في القيام بثورة مسلحة تقضي على النظام الاستعماري.
وفي فترة ما قبل الثورة وقع خاف بين أعضاء الحزب، وبينما كان زعيم الحزب مصالي الحاج مشغولاً بالعمل على تدعيم سلطته، انبثقت الثورة الجزائرية، يقودها تسعة من شباب حزب الشعب الذين وجدوا في سلوك زعيم الحزب، وفي الانقسامات داخل الحزب، ما يبرر لهم العمل المستقل البعيد عن هذه المشاكل.
*الحزب الشيوعي الجزائري: لقد تقلب هذا الحزب أكثر من أي حزب آخر في موقفه من القضية الجزائرية، وتردد بين إنكارها التام وتأييدها بصورة هادئة. فبعد الحرب العالمية الثانية أصدر زعماء الحزب بياناً قالوا فيه: “إن الذين يطالبون باستقلال الجزائر هم عن وعي أو غير وعي عماء لدولة استعمارية أخرى.. ويعمل الحزب الشيوعي الجزائري ويناضل لتقوية أواصر الوحدة بين الشعب الجزائري والشعب الفرنسي”. إلى هذا الحد وصل الشيوعيون الجزائريون، وكان هذا الفهم الخاطئ للقضية راجعاً إلى ارتباط الحزب الشيوعي الجزائري بالحزب الشيوعي الفرنسي أكثر من ارتباطه بالجزائر نفسها.
تلك هي أهم الأحزاب التي كانت تعمل في الجزائر قبل الثورة، وهذا هو موقفها من القضية الجزائرية، مما يوضح لنا توضيحاً كاماً أنه لم يكن هناك حزب واحد يملك الفهم الصحيح للمشكلة، ولم يكن هناك حزب واحد يملك القدرة على فتح المعركة الحاسمة بين الوجود الجزائري والاستعمار الفرنسي، ولم يكن هناك حزب واحد قادر على قيادة هذه المعركة إذا بدأت بالفعل. لقد كانت كلها تشكو من الرؤية الغامضة للمشكلة، أو من سوء التنظيم، أو من فردية القيادة وانتهازيتها.
ومن هنا نشأت جبهة التحرير، وكانت بذورها الاساسية مجموعة من الشبان انفصلوا عن حزب الشعب، وأقاموا تنظيماً سرياً دقيقاً، ولم يمضِ وقتٌ طويلٌ بعد قيام الثورة سنة 1954 ، حتى كان هناك جيشٌ قويٌ، مسلح ومنظم، حتى أن جبهة التحرير كانت مليئة بالحيوية بحيث تستطيع أن تعوض عن قادتها الذين يموتون أو يسجنون وأن تقدم بدلاً منهم عناصر جديدة، مما يؤكد استمرار الثورة ويضمن لها البقاء حتى تنجح وتنتصر، فلم تكن الجبهة في تنظيمها الرئيسي، وخاصة في داخل الجزائر، قائمة على السلطة الفردية، بحيث تنهار اذا انهار زعماؤها وينتهى دورها، كلا، لقد كانت قائمة على أساس آخر أعمق وأشمل وأكثر حيوية.
وفي حزب التحرير، كان الهدف الرئيسي هو التحرير، والوسيلة الرئيسية لتحقيقه هي الحرب العسكرية تساندها بعض الوسائل الدبلوماسية. ولم يكن هناك خاف واسع حول هذه الأمور كلها، ولذلك جمعت جبهة التحرير بين عناصر مختلفة أشد الاختاف، ومتناقضة أشد التناقض. وكان اجتماع كل هذه العناصر هو نفسه سبب ضعف الجبهة كلما اقتربت من تحقيق هدفها الاعظم وهو الاستقلال.
فإذا كان الجميع متفقين على ضرورة الاستقلال وضرورة المعركة العسكرية، فإنهم لم يكونوا متفقين على صورة المجتمع بعد الاستقلال. وتم الاستقلال وتحررت الجزائر، وبدأت المتناقضات تتفجر في صفوف الجبهة، لقد انتهت المعركة العسكرية التي لم يكن يدور حولها خافٌ كبير، وبدأت معركة الاستقلال التي تختلف حولها الآراء اختلافاً واسعاً ضخماً. وكان من حسن الحظ، أن التيار الاشتراكي التقدمي العربي في جبهة التحرير، كان تياراً قوياً وذكياً وقادراً على الحركة والعمل، ومن حسن حظ هذا التيار أنه وجد في شخص بن با الزعيم الذكي المرن القادر على الحركة السريعة، القادر على جمع العناصر الاشتراكية المؤمنة بعروبة الجزائر حوله، دون النظر إلى أي عائق أو اعتبار معطل.
في مؤتمر طرابلس الذي عقد بليبيا بعد وقف إطاق النار بشهرين تقريباً، استطاع هذا التيار أن يكسب تأييداً من معظم أعضاء المجلس الوطني في هذا المؤتمر. ووضعت هذه المجموعة بقيادة بن با برنامج طرابلس الذي أصبح فيما بعد ميثاقاً للثورة الجزائرية، تسير على هداه، وتستوحي مواقفها المختلفة منه، ومن المهم أن نشير إلى الجزء الخاص بجبهة التحرير في برامج طرابلس.
لقد قدم البرنامج نقداً عميقا مدروساً لجبهة التحرير وللعيوب التي تعاني منها، وكان هذا النقد الصريح هو التمهيد المنطقي لتخليص جبهة التحرير من عيوبها وإعدادها لكي تكون حزباً عقائدياً يقود الجزائر الجديدة، أما نقد البرنامج لجبهة التحرير فقد تركز في هذه النقاط الأساسية:
*أولاً: “لم تهتم جبهة التحرير الوطني بأن تتجاوز بطريقة ايجابية الهدف الوحيد المسجل للحركة الوطنية وهو الاستقلال”، فجبهة التحرير في بيانها الأول كنت تنادي بالاستقلال، وتنادي ببعض الأهداف الأخرى بطريقة عامة غامضة، أما بعد الاستقلال، فقد أصبح من الضروري أن تتضح الأهداف الجديدة اتضاحاً كاماً، ولن يكون ذلك بالاقتصار على المناداة بالاستقلال، بل كما يقول “برنامج طرابلس” لا بد من بذل جهد عظيم للوضوح الأيديولوجي ولإيجاد خطة طويلة المدى تكون في مستوى الأحداث المتلاحقة في المجتمع الجزائري.
*ثانياً: سجل “برنامج طرابلس” أن “أبناء الشعب يعرفون عن واقع الجزائر ومشاكلها أكثر مما تعرفه جبهة التحرير، وذلك لاحتكاك أبناء الشعب العاديين بالواقع، وانصراف جبهة التحرير الى ممارسة السلطة بدون منهج فكري محدد”. ولا شك أن هذه النقطة، كما يقول النقاش، كانت طعنة شبه مباشرة للحكومة الجزائرية المؤقتة برئاسة بن خده، فقد حاول معظم الوزراء في هذه الحكومة أن يكتسبوا لأنفسهم صفة المسؤولية والحكم، بينما كان معظمهم بعيداً عن التجربة الثورية القائمة في داخل الجزائر نفسها.
*ثالثاً: قال “برنامج طرابلس” )إن جبهة التحرير رغم معارضتها للنظام الاقطاعي لم تقم بأي مجهود لتنجو هي نفسها من آثار التفكير الاقطاعي(، ذلك لأن الإقطاع ليس مجرد ظاهرة لها تأثير في الأخاق والفكر والسلوك.. فالعمل السياسي إذا كان قائماً على الشلل والتعصب لفرد من الأفراد والتعالي على الجماهير، فكل هذه الصفات تعتبر من الصفات الإقطاعية.
*رابعاً: هاجم “برنامج طرابلس” أيضاً نفسية البرجوازية الصغيرة في جبهة التحرير. )إن عادات التساهل الموروثة من الأحزاب القديمة التي يتكون أنصارها من سكان المدن، والهروب من الحقيقة لفقدان كل تكوين ثوري، والتشبت بالروح الفردية في المناصب والاهتمام بالمنافع والترضية التافهة والكبرياء الفردية والأحكام المغلوطة التي توجد عند البعض إزاء الفلاحين المناضلين المتواضعين.. إن كل هذا يشكل طابعاً بارزاً من النفسية البرجوازية الصغيرة(.
*خامساً: وجه “برنامج طرابلس” ضرباته العنيفة ضد انفصال القيادة السياسية عن الجماهير الشعبية “إن قيام المرجع الأعلى لجبهة التحرير في الخارج من السنة الثالثة للكفاح –بالرغم من الظروف التي كانت تقتضي ذلك- قد تسبب في إيجاد قطيعة بين القيادة والواقع الوطني، وقد كان من الممكن أن تكون هذه القطيعة قاضية على الحركة التحررية كلها”.
هذه هي النقاط الأساسية التي وجه فيها “برنامج طرابلس” نقده العنيف لجبهة التحرير، ومنذ أن ظهر هذا النقد وجبهة التحرير تخوض معركة، وتعمل على تصفية نفسها تصفية كامة من كل العناصر المعرقلة لتطورها ومن كل جوانب الضعف فيها.
العروبة وجبهة التحرير لم تنس الجزائر عمقها العربي في يومٍ من الأيام، ولا الدور العربي المصري في دعمها، وقد أصدرت جبهة التحرير بعد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 بياناً قالت فيه: “لا ينسى أي جزائري أن مصر الشقيقة تعرّضت لعدوان شنيع كانت فيه ضحية تأييدها للشعب الجزائري المناضل. ولا ينسى أي جزائري أن انتصار الشعب المصري في معركة بورسعيد التاريخية ليس إلا انتصاراً لواجهة من واجهات القتال العديدة التي تجري في الجزائر منذ ثمانية وثلاثين شهراً، وأن الشعب الجزائري المنهمك في معركته التحريرية الكبرى ليبعث إلى الشعب المصري الشقيق وبطله الخالد جمال عبد الناصر بأصدق عواطف الأخوة والتضامن، وعاشت العروبة حرة خالدة، وعاش العرب تحت راية الاستقلال والعزة والمجد”.
أما حول اللغة العربية، فيقول “برنامج طرابلس”: “إن اللغة ظاهرة اجتماعية خلقتها المجتمعات لتكون وسيلتها إلى التفاهم وأداتها في تجسيم تفكيرها ونفسيتها، ولذلك فإن أي ركود يصيب المجتمع تنعكس آثاره على اللغة، ومجتمعنا الجزائري قد أصيب في الصميم وتعرض لعملية تعقيم ذهني بحيث أصبح الإنسان العربي في الجزائر إنساناً غير منتج فكرياً، وأصبحت اللغة القومية في الجزائر لغة عاجزة عن تلبية حاجات العصر لأن المتكلمين بها حرموا من بناء حياتهم بأنفسهم”، قد فهم الجزائريون أن العودة إلى اللغة العربية هي عودة إلى الشخصية القومية التي أراد الفرنسيون طمسها في الجزائر، ولا زلنا نرى محاولات الامبريالية في طمس الشخصية القومية وتقليب النزعات الإثنية إلى يومنا هذا في الوطن العربي، ومعركتنا مع الإمبريالية على عدة جبهات، فلتكن جبهة اللغة إحداها ولنتعلم أهمية هذه الجبهة من جبهة التحرير”.
حول الفكر الاشتراكي في جبهة التحرير وقرارات مارس الاشتراكية
في آذار سنة 1963 أصدر بن با قرارات عرفت باسم “قرارات مارس الاشتراكية”، ومن بين هذه القرارات تحويل الأراضي التي تركها الفرنسيون وهربوا منها بعد الاستقلال إلى ملكية الشعب، وتضمنت هذه القرارات لجاناً للتسيير الذاتي، يتم انتخابها انتخاباً حراً مباشراً من بين الفلاحين، وذلك لإدارة هذه المزارع إدراة شعبية كاملة. فقد فهمت جبهة التحرير أنه لا قيمة للاستقلال الوطني إذا لم يتبعه استقلال اقتصادي، وقد حاول عدد من الجزائريين بالفعل أن يحلوا محل الفرنسيين الهاربين ويتصرفوا تصرفاتهم نفسها بالسلوك البرجوازي نفسه والعقلية البرجوازية المعادية للشعب، لقد كان هؤلاء الجزائريون كما قال بن با: “يحاولون الحصول على نفس امتيازات البرجوازية الأوروبية لأن حيوانات الفصيلة الواحدة لها سلوك واحد”.
ولكن “قرارات مارس” وقفت في وجه هذه المحاولة وحوّلت الأماك التي تركها الفرنسيون إلى ملكية عامة، وتعتبر الأراضي الزراعية في مقدمة هذه الملكيات العامة التي أصبح الشعب مسؤولاً عنها.
ظلّ بن با يردد دائماً: “لا اشتراكية بدون تعريب ولا مستقبل لهذا البلد بدون تعريب”، فالثورة الاشتراكية في الجزائر تستند استناداً أساسياً على ظهرها العربي، كما استندت ثورة الجزائر في حرب التحرير على ظهرها العربي أيضاً، وظلَ الجزائريون يرددون “إذا انتصرت مصر انتصرت الثورة الجزائرية.. وإذا انهزمت مصر انهزمت الثورة الجزائرية”.

*بتصرف من كتاب رجاء النقاش “ثورة الفقراء” الصادر عند دار الآداب، 1964.


تنويه | المقالات المنشورة في الموقع تمثل رأي صاحبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي أسرة الموقع

جميع الحقوق محفوظة لموقع جامعة الأمة العربية © 2021 - 2013