الإختراق السّياسيّ للنّوى الجماعيّة الصّلبة وعموميّات على مجتمع (التّفكيك) الدراسات والتوثيق | الإختراق السّياسيّ للنّوى الجماعيّة الصّلبة وعموميّات على مجتمع (التّفكيك)
تاريخ النشر: 13-05-2018

بقلم: اللواء الدكتور بهجت سليمان
سلسلة الفكر الإستراتيجي " 7 " الحلقة السابعة
( نُقارِبُ هُنَا المظاهرَ العصبويّة التي تمارسها مجموعاتٌ صلبة " مافيات " سواء في الوظيفة العامّة أو في مجال الثقافة و المصالح المتوحّشة في التّشسريع و القضاء و الإعلام و مكامن " الأمن الاجتماعيّ " الأخرى المتعلّقة بمختلف الأداء الحكوميّ في الإدارة و الخدمات. )
من السّهل على الجميع التّحدّث في الواقع و في الوقائع، مع أنّ سؤالاً بسيطاً، على "ماهيّة" الواقع، نوجهّه إلى "الجميع"، سوف يثبتُ أنّ "الواقع" نفسه حالة إشكاليّة، بدليل اختلاف "الأجوبة" و تنافر "المقاربات" المؤدّية إلى فكرة يمكن أن تكون جامعة ينزل عندها الجميع.
ولكنّنا إذا دقّقنا الفهم، أكثرَ، نجد أنّ ما هو مادّة للحديث على الواقع، ليس هو الواقع نفسه، و إنّما شيء ربّما كان يوافقه أو يكافئه بدرجة أو بأخرى، و هذا ما يجعلنا نعيد النّظر، للضّرورات التي تفرضها علينا المنعطفات التّاريخيّة الاجتماعيّة و السّياسيّة، بالمصطلح الدّالّ على "الواقع"، على ما ينبغي أن نفكّر في تناول هذا "الواقع" بالإدراك، كما في المضمون الأقرب إلى الحدث السّياسيّ الذي يعبّر عن الصّورةالملموسة للتّغيّرات و المنعطفات، من جملة مضامين المصطلح، محاولة منّا أن نتبَعَ هذه المتغيّرات التي تشكّل جملة المنعطفات، لكي نوازي "المجتمع"، في تعمّلاته، بالتّفكير.
و "الواقعيّ" كما هو غيره من المصطلحات "الاتّفاقيّة" في دلالة اللغة، هو ليس أكثر من إشارة إلى حقائق تدور واضحة أو تتغلّف في رمزيّات ماكرة و بخاصّة منها تلك المتعلّقة بمضمون "السّلطة" الاجتماعيّة و السّياسيّة، فيما يجنح بعضها، بطبيعته، إلى الإشارات المزدوجة إلى "الشّيء"، أو المتعدّدة، كناية عن حقائق أعمق من مجرّد ظاهره اليوميّ. هنا نبدأ نحتاج إلى فهم آخر للواقع بوصفه حدثاً تاريخيّاً أكثر شموليّة من كونه محضَ عمل أو فعل يوحيان بغايتهما من دون إرجاع أو إسقاط أو تأويل. ليسَ الواقع، بناءً على هذا، هو تلك الاستعارات التي يستطيع أن يتبنّاها أو يسوّغها أو يُبرّرها الجميع!
نحن في غاية الحاجة، إذاً، إلى مفارقة "نظاميّة" أو "منظوميّة" ( سيستاميّة ) نتوخّى عبرها "تجسيد" الواقع في راهنيّته أو "تشخيصه" في دلالات الخطاب المختلفة التي يسمح بها "النّصّ" بما هو النّصّ جميع تلك "الممارسات" و العلاقات الموصوفة باللغة و التي دخلت أو يمكن أن تدخلَ في "المقول".
و نرى من الواجب أن لا نحيد عن ضرورات التّعبير المحدّدة بواجباتنا الوطنيّة في "التّفكير" أو في التّأسيس لتفكير يتناسب مع سعة الهوّة التي أظهرتها "الحرب" في الانتماءات و المواقف المختلفة و التي لم تُبدِ، و لا يمكنها أن تبدي، أيّة انسجامات أو اتّفاقات حاكمة لمجمل الفعل الذي كانته آثار الحرب في الوعي و الفهم و التّفكير، و في مباشرة "السّلطات" المختلفة التي يطمح إليها الفكر عندما يريد أن يكون شيئاً من أشياء "الواقع".
إنّه عندما يجب أن يكون "الفكر" واقعاً، إضافة إلى أشياء الواقع الأخرى من ملموسيّات و محسوسيّات و وقائع أخرى معاشة في الممارسات و المتخيّلات و المتصوّرات، يصبح من المفروض أن نسعى إلى تجسيد الواقع و تشخيصه في مواضيع حيّة هي ليست إلّا وجهه الفعليّ، و ذلك لكي نتأكّد من أنّنا لا نتكلّم على فرضيّات تحتاج إلى برهان.
ما يُبرهن "الواقع"، بما هو الواقع مادّة اشتغال الأفكار، إنّما هو عقلانيّته التي تنقله من حيّز الفرض إلى حيّز البرهان؛ و عندها فقط نحن نتمكّن من الخوض في "الحقائق" بوصفها تحدّيّات فعليّة تواجهنا في معرض العمل، إذ لطالما كانت هذه الحقائق من ضمن ما يمكن أن يكون من قبيل ما هو مختلف عليه تبعاً لانتشار الحقيقة في حقول الرمز و الإيحاء و الوهم و الادّعاء و التّزوير.
تواجهنا نتائج هذه الحرب بوصفها مسائل بعضُها، ربّما، تطرحه علينا "الحقيقة" لأوّل مرّة كما أنّ بعضها الآخر هو ممّا كان ثمّ استحال في نظائر و أشباه و تمثّلات جديدة كانت من نتائج المعضلات التي استعصت تاريخيّاً فتألّفت من جديد تأليفاً معاصراً يكاد يخفي جينالوجيّة الدّافع الذي أفضى بها إلى سلوك حيّ و ملموس.
كثيرةٌ هي هذه المسائل و الأطروحات التّاريخيّة التي تشكّل، اليومَ، تجسيداً لواقع أظهر لنا وجهه الواجم، و العابس و الشّرس، في التحوّلات "التّحديثيّة" للأمراض الاجتماعيّة و الثّقافيّة التي تطمح أن تقاسمنا، في السّياسة الوطنيّة، القيادة و السّيادة و الرّياسة و السّيطرة.
هذا هو طبع السّلطات المتخفيّة كالفأرة ( على حدّ تشبيه فوكو ) و التي تُطلّ برأسها في كلّ مناسبة
تسمح لها بهذا الظّهور.
" الحرب الثّقافيّة "، على كلّ وجه، هي أكثر المناسبات التي تحتمل اندلاع مشاريع السّطوة التي تمثل "مشروعيّات" شتّى تناضل في "السّياسة" و تنافح من أجل "الشّرعيّة".
ليست الحرب على الإرهاب هي هذه التي تكاد تنتهي في الانتصارات السّوريّة المتواليّة على مجموعات التّوحّش و البربريّة التي برزت لنا، في سورية و العالم، في السّنوات "الطويلة" التي
كانتها هذه الحرب.
لقد تمثّل الإرهاب- فيما تمثّل- في قاعدة تاريخيّة صُلبة و نواة متحجّرة في الأنثروبولوجيا العربيّة- الإسلاميّة "السّيستاميّة" التي شكّلت سلطات تاريخيّة لا تقبل الانزياح بالقوّة المادّيّة وحدها، و هي تنتعش في كلّ ظرف من ظروف التّناقض المفضي إلى المواجهة بمختلف أحوالها و موضوعيّاتها و فروضاتها التّاريخيّة.
الحرب على الإرهاب- كما نستوحي من الوقائع و من قناعات الكثيرين من الفاعلين السّياسيين- هي حرب أوسع في الاجتماع و الثّقافة و السّياسة و الحكومة و القانون..
و قبل كلّ هذا و ذاك هي حربٌ على الاصطفافات النّسقيّة التّفكيريّة المتصلّبة في الدّوافع الاجتماعيّة التي جربتها و استثمرتها قوى التّكفير "الاجتماعيّ" و السّياسيّ في صيغة "دينيّة" كاذبة و قد تمكّنتْ هذه القوى من اكتشاف نجاعةالاعتبارات الواسعة، في الممارسة الاجتماعيّة و السّطوة السّايكولوجيّة، لتلك الدّوافع الصّلبة في العَنتِ الّلازم لإشعال الحرب في كلّ المستويات، أو في استعادة هذه الحرب في أوقات أخرى تكون لها كما تكون البذرة إلى النّبتة من اختزانٍ لكلّ مضامينها التي تعني الحرب أو "الثّورة المضادّة" محسّنة المواصفات و المطوَّرة باستمرار ..
و إذا كانت قد سقطت، مع دحر الإرهاب، جملة من الأسلحة الثّقافيّة و الاجتماعيّة لقوى الكبح التّاريخيّ للتّقدّم، فإنّ ثمّة أسلحة و قوى أخرى تتريّث، اليومَ، للانقضاض على المحصّلات الوطنيّة النّاجزة، من جديد، معتدّة أيضاً بالفائض التّاريخيّ من عناصرها العاملة و التي تدّخرها في "المؤسّسات" الأهليّة الصّامتة مثل مؤسّسات "الأسرة" و "القبيلة" و "التديّن" و "الحلال" و "الحرام" و "الشّرع" و "الفتوى" و "المحافظة على الدّين ضدّ أعداء الدّين"(!) من جهة قدرة هذه "المؤسّسات" التّنظيميّة على مقاومة خطاب الدّولة بالحداثة، و الذي تصوّره بأنّه خطاب "علمانيّ" و "مارق" استدعاءً و تجييشاً لجميع عناصر التّاريخ "العربيّ" و "الإسلاميّ" المعادية للاجتماع و صيغ المواطنة الأخرى التي تنتمي إلى روح المواطنة في تشكيلاتها السّياسيّة الحديثة..
هذا كما و تدّخر ( قوى الكبح..)، أيضاً، فائضاً واقعيّاً، من عناصرها تلك، لا يمكن الاستهانة به، في قلب "المؤسّسات" الرّسميّة التي تعتبر أدوات للدّولة و النّظام.
لا نسوق، هنا، الأسباب التي تكفي لتعليل مشروع سياسيّ واسع ضدّ القوى الرّجعيّة المحليّة و الإقليميّة، فحسب، و إنّما نعني أنّ "الفرْضَ" السّابق على أيّة قراءة سياسيّة للمشاكل في صيغة القضايا المعلّقة، إنّما عليه أن يؤسَّسَ، أوّلاً، و في كلّ منطلق، على أرضيّة تناول الكتل الصّلبة الكبرى و النّوى العنيدة للفكر الإرهابيّ، بأسسه و نصوصه و خطاباته الواسعة، بالتّحطيم النّقديّ و التّعرية الأركيولوجيّة لجذور المحمولات الكبيرة التي كانت و ما تزال وراء هذا الصّدع الاجتماعيّ- السّياسيّ و الثّقافيّ ( الأيديولوجيّ ) المتجدّد و المستمرّ.
لقد أصبحت جليّةً أمام الجميع تلك "القلاع" التي يتخندق فيها أعداء المجتمع. و من الضّروريّ التّصويب الفكريّ و السّياسيّ، منذ اليوم، نحو معاقل الثّقافة الهدّامة التي تشتغل بعكس قوّة الانتقال الحضاريّ العالميّ الذي حققته محاربة الإرهاب في سورية و القضاء على صيغته الجاهزة العابرة للحدود و القادمة إلينا من خارج الحدود.
يُحتّم أمر اختراق الشيفرات الوراثيّة ( الجينات ) للثقافة الرّجعيّة، بمفهومها الشّامل، مجموعة من المهمّات و المسؤوليّات على قادة الفكر و على القادة السّياسيين، معاً، ذلك لأنّ الفكر البنّاء يترجم في السّياسة و القرار السّياسيّ القائد و الفاعل، أو ينبغي أن يكون كذلك، باعتبار القادة الفكريين السّياسيين هم الأمناء على القيم و الرّموز و المضامين العمليّة الوطنيّة في الاجتماع و الثّقافة في كل وقت و مرحلة و حين.
يطرح هذا السّياق سؤالاً مباشراً على أفضل الأساليب التي تضمن توخّي الحذر لتلافي معضلة هشاشة نزاهة الكثيرين من "القادة"الثّقافيين و السّياسيين الذي يقودون مرحلة الحرب و ما بعد الحرب في سورية، و كيف يكون البديل التّاريخيّ لمخاطر هذه الهشاشة- و لا نقول علاجها، إذ أنّها ممّا لا يمكن علاجه، بينما هي تتفاقم في الظّروف المختلطة في الحرب!- في الدّفاع عن الأمانة السّياسيّة التّاريخيّة المتمثّلة في المجتمع و الدّولة. .
تلكم الهشاشة هي التي تقبع وراء سلوك الكثيرين في "الفساد" الإداريّ و السّياسيّ و الافتصاديّ و الماليّ، و في و استنزاف روح الشّعب هذه "الرّوح" القابلة للتّشكيل وفقاً لأقوى مَن يقودها إلى حتفها، أو العكس.
نحن إذاً أمام تحدٍّ سياسيّ تاريخيّ، في مفهوم "القوّة"، يشتمل على عناصره التي تفوق االتّعداد و الجدولة و التّصنيف، على رغم أنّنا يمكننا تصوّر أنساق عامّة له في الثّقافة و التّربية و السّياسة و الاقتصاد.
نستطيع تلمّس هذه النّسقيّة، أساساً، في غياب "الفكر" الحداثيّ العمليّ المؤدّي إلى حقول المجتمع بما هو المجتمع كتلة تاريخيّة تتراوح بين المرونة و الصّلابة الشّديدة تبعاً للوصول إلى اكتشاف قواه الفاعلة و التنظيميّة التّلقائيّة ( الأهليّة ) أو غير التّلقائيّة و المتعمّدة في التّجييش الثّقافيّ- السّياسيّ المنظّم، في "القطيعيّ" و "الدّينيّ" و "المقدّس" و "المحرّم"، تنظيماً فاعلاً أمام غياب المسؤوليّة الوطنيّة التّاريخيّة ، المتمثّلة بالمعرفة الكفيلة بإنتاج القوّة الّلازمة لاختراق تواصل القوّة الأنثروبولوجيّة ، للنّمط الاجتماعيّ الرّجعيّ الصّلب، و اتّصال معالمه القادمة من الماضي ، ببنيته المعاصرة القائمة على الانفصال السّياسيّ ، عن مشروع المجتمع المفتوح في الدّولة و النّظام.
و على هذا الوجه تبتغي لها "الثّقافة الجمعيّة" أدوات مقاومة شديدة تنضاف إلى صفوف المقاومة التّاريخيّة المسلّحة التي خلقتها ظروف المنطقة و محاولات استباحات الهويّة الوطنيّة و القوميّة و القرارالسّياسيّ المستقلّ للدّولة الوطنيّة السّوريّة و هويّتها السّياسيّة المدنيّة العلمانيّة المنفتحة على آفاق العالم المعاصر.
إنّ ما عليه أن يواجهه الفكر، إذاً، هو تلك الحملة "الثّقافيّة و الأيديولوجيّة المنظّمة التي تعمل على إعادة تشكيل المجتمع السّوريّ في كلّ ما عجزت عنه الحرب و ما كانت عليه، و ما زالت، طموحات "الزّائلين".
فالهدف الاجتماعيّ- السّياسيّ المنظّم يجب أن يتوجّه مباشرة إلى بنك المجتمع الأهليّ الذي يختزن من قوى الشّدّ نحو الماضي الرّجعيّ و العرفيّ ، ما يفوق أحياناً كلّ وسائط الدّولة السّياسيّة من دفع إلى الأمام.
تبدو هنا لغة "التّفكيك" البنيويّ الذي عليه أن يتناول المداميك المتماهيّة للبنية المتراصّة مع التّخلّف و التّكفير و الانفصال، تبدو هي الّلغة الوحيدة القادرة على الدّخول إلى الشّيفرة التّاريخيّة الأهليّة المتكوّنة في ظروف المدّ الثقافيّ لتقاليد الأفكار و العادات المعادية للحداثة في المجتمع السّوريّ المعاصر.
فكيف يجب أن يجري هذا التّفكيك؟
يتطلّب تحقيق هدف خلخلة "الثّقافة" الأهليّة المغلقة بالقبليّات الاجتماعيّة و بنيات القرابة العصبيّة و الدّينيّة و الثّقافيّة و الأخلاقيّةالمناهضة للنّظام العامّ، يتطلّب حملة فكريّة- سياسيّة مدروسة و منظّمة على جميع مكتسبات ممارسات و ثقافات الانفصال المجتمعيّة التي تواجهنا في تحقيق أهداف الدّولة و المجتمع المعاصر، في الفكر و السّياسة و ما إليها من مكمّلات و متمّمات.
و من هذا المنطلق فإنّ على "الفكر" أن يكتشف، أوّلاً، تلك البنى "الثّقافيّة" الجامدة و الصّلبة و التي تتمترس، عادة، كجدران في وجه محاولات العلمنة السّياسيّة في الحاضر و في مستقبل المجتمع و "النّظام".
إنّه، إلى هذه الّلحظة السّياسيّة، ما زلنا نعايش، و نتعايش مع، نمطيّات في السّلوك الاجتماعيّ مضمونها المباشر هو تحدّي التّحوّلات السّياسيّة الموضوعيّة منها و القانونيّة ، كما تلك التي تصطفّ بقصد و من دون قصد في وجه التّحوّلات المدنيّة المعاصرة لأعمق أسس المجتمع و النّظام ..
و يبدو ذلك جليّاً في الإعداد السّايكولوجيّ و الاجتماعيّ المعاديللنّظام الاجتماعيّ الحرّ، و الذي يتبدّى في مختلف أشكال الاحتجاجات الصّامتة التي تُبديها التّصرّفات الكيديّة الموجّهة ضدّ القانون و الأفرادفي صيغة معروفة ، من صيغ تبخيس الدّولة و النّظام و احتقار القيم .. و الاستهتار بالإنسان، و ذلك سواءٌ في أن تنصبّ هذه الصّيغة في "المقول" الذي يأتي في مناسبات ممارسات التّهكّم السّياسيّ بنتائج الحرب على المستوى الوطنيّ، أو في "الّلامقول" و الذي يظهر في السّلوك و الأفعال المدمّرة للوشائج الاجتماعيّة ، عن طريق تحطيم الإيمان بالانتماء الاجتماعيّ في تصرّفات مسرفة في التّيئيس الفرديّ و الاجتماعيّ عند المؤمنين بالثبات السّياسيّ في وجه مظاهر التّناقض و الضّياع كانحرافين تاريخيين.
طبيعيٌّ هنا أنّنا نقارب المظاهر العصبويّة التي تمارسها مجموعات صلبة ( مافيات ) في الوظيفة العامّة و في مجال الثقافة و المصالح المتوحّشة في التّشسريع و القضاء و الإعلام و مكامن "الأمن الاجتماعيّ" الأخرى المتعلّقة بمختلف الأداء الحكوميّ في الإدارة و الخدمات.
نتحدّث في ضرورات الامتثال المنظّم إلى حرب الثّقافة التي تضمنالمواجهة فيها توطين الفكر، و الفكر السّياسيّ العلمانيّ، بخاصّة؛ بقدر ما تعني أيضاً دعوة اجتماع مختلف المؤسّسات الحكوميّة إلى العمل على إنقاذ المجتمع و الدّولة من تفاقمات أخطار الرّدّة الثّقافيّة- الأخلاقيّة التي عصفت بالمجتمع السّوريّ تزامناً مع الحرب و تعميقاً و تكريساً لهذه الحرب.. ؛
..
إنّني أرمي أيضاً إلى القول: بما في ذلك التّوسّع في مفهوم "الأمن السّياسيّ" الوقائيّ و "الأمن الاجتماعيّ" ليشملا أمن البنى الاجتماعيّة الحرّة و المنفتحة للمواطنين، كما للبنى الثّقافيّة التي تنتج مستقبل الأمن الوطنيّ في إعدادها للمواطن السّويّ كعامل بناء للمواطنة، و ذلك في الوقت الذي تتوازى فيه هذه المهمّات الملقاة على عاتقها مع مهمّة حماية الأمن الشّخصيّ و الفرديّ لحياة المواطنين.
يتناظمُ هذا بالضّرورة في إطار المشروع الفكريّ الذي ينبغي أن تقوم عليه الدّولة.
لا تشكّل العلوم السّياسيّة بذاتها "نظريّة في إدارة الدّولة"؛ و هذا ، لأنّ هذه "العلوم"، في قوننتها الاستقرائيّة للوقائع و الظّواهر العامّة و "النّموذجيّة"، لا تأخذ، و لا تستطيع أن تأخذ، بالاعتبار جميع- أو أهمّ - الظّروف الخاصّة المحلّيّة التي تتشكّل منها الأزمات الموصوفة بخصائصها الوطنيّة.
و على رغم ذلك - أو بسببه، بالأحرى - فإنّ ما نعاصره، اليومَ، في سورية، من حيث ما يبدو على أنّه عامّ ( الحرب )، إنّما هو شيءٌ شديد الخصوصيّة الوطنيّة و الإقليميّة و الاجتماعيّة، و العالميّة، تماماً مثلما هو الأمر بالنّسبة إلى الخاصّ ( خرائط الحرب )..
فإنّه ممّا يمكن أن يدخل في تصنيفات سياسيّة تاريخيّة مألوفة و عامّة، أيضاً، على اعتبارها ليست أحداثاً أو نتائج خارقة في تاريخ الصّراعات المركّبة في الحروب المعقّدة، و أقلّ ذلك في مستوى الفلسفة السّياسيّة التي على ضوئها يمكن أن نقرأ الحرب و السّلام، عندما لا تكفي عموميّات التّفكير التّقليديّ لقراءة أو فهم نتائج الأحداث السّياسيّة التّاريخيّة المفارقة.
لا يقوم مشروع الدّولة، أصلاً، بوصفها حامية للمواطنة الحرّة، ما لم تتكرّس الدّولة بوصفها دولة معاصّرة في منحها و تكريسها روح الحداثة للمجتمع بواسطة وسائلها الدّستوريّة و القانونيّة و التّشريعيّة و االحكوميّة التي لا تُحدّ و لا تُحصى. و تكبر مهمّة الدّولة في ذلك لتشمل الإعداد و المواكبة و تصحيح "المخالفات" و قمع "التّجرّؤات" و الاستهتارات و المؤامرات.. !
نُوَاجِهُ، إذاً، جيشاً منظّماً من "الثّقافة" و من آليّات التّعويق و الشّدّ إلى الخلف ...
و لا تستطيع "الدّولة" بمؤسّساتها "الاجتماعيّة- السّياسيّة" التي أصيبت بعدوى "التّاريخانيّة" الثّقافيّة، أيضاً، و عدوى المجتمعيّة الرّجعيّة، أن تواجه، على ما هي هكذا عليه، كلّ هذا الحجم من الآفات و الوباءات المُعدية و التي تقاسمت مع "مؤسّسات" الدّولة السّياديّة، في سورية، "خطاب الحداثة" سواءٌ في "التّقنيّات" أو "الشّعارات" أو "المنهجيّات".. و السّلوك و الاعتقاد و "القيم" الأخلاقيّة (الرّذيلة و الخبيثة) التي تنتج أشكال و أضراب السّلوك، كما تنتج وجهاً أصليّاً من مشهد الدّولة، أو تصوّرها، عن ذاتها.. ، الأمر الذي يجعل من رضَى "التنظيم" السّياسيّ، للدّولة، على أدواته و صحّته و صدقيّته ( المطعون فيها )، واسعاً و مُخدِّراً تخديراً مرحليّاً ينضاف إلى مراحل أخرى من الاسترخاء ليُنتجَ حقيقة نقائضه في "المفاجآت".. !!؟
و من أجل ذلك قلنا، و نعيد، إنّ المهمّة الفكريّة - السّياسيّة التي لا تتبنّاها الدّولة إنّما هي مهمّة قاصرة و فارغة من المضمون العمليّ ، و ذلك مهما كانت تحمل في دلالاتها من آفاق رحبة على التّقدّم و الإبداع و التّغيير.
ثمّة جملة من المعالم الأكثر وضوحاً ممّا قلناه أعلاه توضّح و تختزن الآنثروبولوجيّة الثّقافيّة لمصادر العنف الجماعيّ و تُظهر مختلف وجوهه التطبيقيّة في عمليّة العدوان على حاضر و مستقبل الدّولة و المجتمع.
تترافق هذه المعالم و تكبرُ و تتغوّل بقدر ما تدخل الدّولة، بمختلف سلطاتها السّياسيّة و الثّقافيّة و الاحترافيّة، في وهمٍ سياسيّ يتملّك قراراتها في "الإحراجات" التي تُخضِعُها و التي تمنعها من مباشرة مواجهة تلك المظاهر في أفعالها الوحشيّة و الوقحة التي تتجاوز سائر التّحفّظات و التّداريات و الاحتياطات.
في الأوساط و الأوقات التي يواجه فيها المجتمع مشاريع التّحدّيات المسلّحة بالنّار و النّصوص و الشّعبويّات و التّقاليد و العاطفة و الإيحاءات الرّمزيّة و إمكانيات التّحريض و التّجييش القبليّ، يكون واجباً على الدّولة مبادلة الأفراد و الجماعات الأهليّة و النُّوى "الثّابتة" و الأفكارالبربريّة، القوّةَ و المعرفة و العنف المنظّم، بالعنف الجماعيّ المؤيّد باستراتيجيّات و مناورات و تراكم و امتهان و احتراف السّلطات الجائرةالمتزمّنة في "العُصبويّات" عبر التاريخ.
من هنا يغدو من الضّروريّ، بعد أن أذنت الانتصارات السّوريّة المتوالية على الحرب، بذلك، أن يلجأ الفكر السّياسيّ المنظّم، بالنّصّ و الخطاب و ممارسة الدّولة بأدوات "السّلطة".. ، إلى تكسير الرّؤوس الحامية التي تشعلُ في الأوهام النّيرانَ الشّيطانيّة، و تحطيم الأدمغة المنتفخة، و خنق الطّبائع بعاداتها المدمّرة و أنانيّاتها المستهترة، و تتفيه الأساطير المتورّمة في "الأفضليّات" الاعتقاديّة و الدّينيّة و الثّقافيّة و الإيمانيّة و الأخلاقيّة، و حذف الأصداء التي تتوهّم من نفسها جبالاً راسخة، و تدمير موروثات و نزعات العنجهيّات الجاهليّة المستمرّة في الأحياء و أشباه الأحياء..
و يجب، بالتّالي، "مصادرة" الاستراتيجيّات "الجماعيّة" المتغوّلة في الغاشميّة الشعبيّة القاهرة في الشّارع و المؤسّسة و الإدارة و المعمل و بيوت السّكن و مراكز إعادة إنتاج الحدود الفاصلة و الانفصاليّة، و التّخوم المفخّخة بالتّكفير المسلّح بالسّلوك العلنيّ الإقصائيّ و امتيازات الأسلحة البيضاء التي تمتلكها العامّيّات التّفكيريّة و التّكفيريّة مقابل نَدرةِ الاختلاف.
إنّ عالمنا المعاصر هو واقع مفتوح، بالقوّة، بين جميع الأقوياء على جميع الأقوياء.
هذه هي لغة السّياسة المعاصرة، هذه الّلغة التي لها من التّركيب و التّعقيد ما تعجز عن وصفه علوم السّياسة المدرسيّة التّقليديّة التي ما زالت تجتذب الأدمغة المحدودة ، و لو كان لتلك الأدمغة مواصفات تبدو كثيرة العلم و المعلومة و الثّقافة و التّدريب.
لقد تجاوز العالمُ المعاصر منهجيّات السّياسة التّقليديّة منها و الحديثة، و لغتها، إلى لغة سياسيّة متقدّمة ( و ابتكاريّة ) على جميع قواميس السّياسة التّقليديّة، مجتمعة، و التي لا تزال تعتبر مقدّسات مدرسيّة عند "السّياسيين" الأكاديميين.. !
نحن مضطرّون، بالتّالي، إلى أن نخوض تجربتنا السّياسيّة السّوريّة المعاصرة من دون تقاليد أو مناهج أو أعراف.
و هذا، بالضّبط، ما يعيدنا إلى أوّل هذا الحديث، في أنّ علينا أن نكتشف "الواقع"، مجدّداً، اكتشافاً ابتكاريّاً و خاصّاً، بحيث نكون قادرين، في "الفكر السّياسيّ" و في "المؤسّسة السّياسيّة"، على تشخيص "الوقائع" تشخيصاً يمكّننا من تجسيدها على أتمّ و أنضج العناصر ، التي نستطيع أن نجعل منها باباً أو أبواباً للدّخول إلى مجاهيل المعالجات، و لكن متسلّحين بأقوى الرّؤى المحايثة دوماً لتفاصيل البنية الاجتماعيّة و التّكوين الجماعيّ

جميع الحقوق محفوظة لموقع جامعة الأمة العربية © 2021 - 2013