هوية ايران فارسية ام صفوية شيعية !؟ التقارير والمقالات | هوية ايران فارسية ام صفوية شيعية !؟
تاريخ النشر: 17-03-2018

بقلم: الدكتور فاضل الربيعي
في الجواب -السّائد والراهن- على هذا السؤال، هناكَ منطقانِ متناقضانِ: 
الأوّل وهو شائعٌ في وسائلِ الإعلامِ المرئيّةِ والمكتوبةِ ووسائل التواصلِ الاجتماعيّ والتصريحات والبيانات الرسميّة لبعضِ الدول، يقولُ: إنَّ لدى إيران (أطماعٌ فارسيّةٌ) قديمةٌ في أرضِ العرب، 
وأمّا المنطق الثاني وهو شائعٌ وسائدٌ بصورةٍ شاملةٍ أيضاً فيقول: إنَّ إيران تريدُ نشر (المذهب الشيعيّ الصفويّ) وأنَّ إستراتيجيّتها في المنطقةِ تقومُ على أساسِ هذا الهدف.
وفي حالاتٍ أُخرى غير نادرةٍ يقومُ كثيرٌ من الكتّابِ والمعلّقينَ والمحلّلينَ بدمجِ المنطقينِ المتناقضينِ في هذا الجواب، فيكتبونَ ويروّجونَ لفكرةٍ غريبةٍ وغير قابلةٍ للفهمِ أو التصديق، وتقول:إنَّ إيرانَ لديها (أطماعٌ فارسيّةٌ وأنّها تسعى إلى نشرِ المذهبِ الشيعيّ الصفويّ). 
أين الخطأ في هذا الجواب؟ 
وهل يمكنُ أنْ تكونَ لدى إيران أطماعٌ (قوميّة فارسيّة) و(دينيّة) في الآنِ ذاته، وهما مُكوّنانِ مُتناقضان؟
سأقومِ بتوضيحِ ذلك :
أوّلاً :
لا يمكنُ الجمعُ بين الأطماعِ (القوميّة) و(الأطماعِ الدينيّة/ المذهبيّة). 
الأُولى تخصُّ مطامح وأحلامَ ومشاريعَ القوميّين، وهُمْ غالباً ما يكونون متعصّبين لمشروعِهم القوميّ، 
والثانية تخصُّ المتديّنينَ، وهؤلاء غالباً ما يكونونَ متشدّدينَ لمشروعِهم (الدينيّ/ المذهبيّ) سواء أكانوا متديّنينَ من أهلِ السنّة، أمْ متديّنينَ من أهلِ الشيعة.
القوميّونَ في إيرانَ لا يلتقونَ مع المتدّيّنينَ، ولكلٍّ منهما مشروعه المُختلف، وبطبيعة الحال، يصعبُ افتراض وجود توافقٍ بين القوميّ والإسلاميّ إلّا في حالاتٍ تكتيكيّةٍ، وكما دلّلت التجاربُ التاريخيّةُ في المنطقة، فإنَّ الزعماءَ القوميّينَ غالباً ما يصطدمونَ مع (الدينيّين).
ولذلك؛ إذا ما سلّمنا بمنطقِ الجوابِ القائل: 
إنَّ إيرانَ لديها أطماعٌ (فارسيّةٌ/ قوميّة) وفي الآن ذاتهِ لديها (أطماعٌ مذهبيّةٌ شيعيّةٌ صفويّة)، فهذا يعني أنّها تنتهجُ إستراتيجيّةً متناقضةً، وهذا منطقٌ أعوج يُشبهُ القولَ إنَّ عبد الناصر، مثلاً كانَ لديه مشروعٌ (قوميٌّ عروبيّ) وفي الآنِ ذاته كانَ يُريدُ (فرضَ المذهب السنّيّ) على المنطقة؟ وإنَّ كلّ قوميّ، سواء أكانَ عربيّاً أم إيرانيّاً أم تركيّاً، أمْ روسيّاً، هو بطبيعته متعارضٌ ومتناقضٌ مع (المتديّن).
بكلامٍ آخر: الأطماعُ القوميّةُ بطبيعتِها تتناقضُ مع (الأطماعِ الدينيّة)، ونحنُ نعلمُ كيفَ جرى الصِّراع طوال القرنِ الماضي بين فكرتي (الأمّة العربيّة) و(الأمّة الإسلاميّة) كما طرحَها القوميّونَ والإسلاميّون، وبكلام آخر: يصعبُ الجمعُ بين هذينِ التناقضين؛ القوميّونَ يريدونَ (أمّةً عربيّة)، والإسلاميّونَ يريدونَ (أمّةً إسلامية).
ولو كانت إيران (شيعيّةً صفويّةً) كما يُزعم، ففي هذهِ الحالةِ سوفَ تتصرّفُ على أساسِ أنّها مُناوِئةٌ لأهلِ السنّة، وهذا غير صحيح، لأنَّ الوقائعَ تقولُ إنّها تمدُّ الجسورَ مع أهلِ السنّةِ في فلسطين والعراق وأفغانستان...إلخ.
ثانياً :
يكشفُ هذا المنطقُ عن جهلٍ مُطبِق بإيران، وأكثر من ذلك، يكشفُ لا عن إصرارٍ غير عقلانيٍّ على (تجاهلِ التاريخ) وحسب، وإنّما على تشويهه؛ لأنَّ إيرانَ التاريخيّة –على الأقلّ منذ 1500م- حتّى اليوم تعيشُ داخلَ هذين المكوّنينِ المتصارِعين في أحشائِها: النزعةُ القوميّةُ الفارسيّة، والنزعةُ المذهبيّةُ الشيعيّة -بتعبير آخر- عاشت إيرانُ (التاريخيّة) المستمرّة والمتواصِلة حتّى اليوم داخلَ مكوّنينِ مُتناقضينِ شكّلا هويّتها، ولذلكَ فهي لمْ تكن دوماً ذات نزعةٍ (قوميّةٍ فارسيّة)، كما لمْ تكن دوماً (ذات نزعةٍ مذهبيّةٍ شيعيّة)، ولقد ظلَّ المكوّنانِ التاريخيّانِ يُشكّلانِ هويّةَ إيران على الرغم من تناقضهما، وأمّا ما يُسمّى (الصفويّة)، فهذا أمرٌ آخرُ سوفَ نُعالجه.
ثالثاً :
إذا سلّمنا بالمنطقِ السّائدِ والقائلِ: إنَّ إيرانَ اليوم ذات نزعةٍ فارسيّةٍ تطمعُ (بأرضِ العرب)، ففي هذه الحال يجبُ أنْ يكون المُرشدُ الأعلى من القوميّةِ الفارسيّة؟ لكنّهُ -ويا للمفارقة- من القوميّة الأذريّة، والمرشدُ الأعلى خامنئي هو بالفعل من أصولٍ (أذريّة) وليس فارسيّاً، وبحيث يكون "مرشدُ الأطماعِ الفارسيّة".
أمّا الرئيس الإيرانيّ السابق أحمدي نجاد؛ فهو من (القوميّةِ التركمانيّة)، هذا يعني أنَّ القيادةَ في إيران ليست قيادةً فارسيّةً لتكونَ صاحبة أطماعٍ قوميّة، وهي اليوم لا تتصرّفُ بكلِّ تأكيد كجماعةٍ (فارسيّةٍ متسلّطةٍ مُهيمنةٍ على الحكم).
رابعاً :
لقد تشكّلت إيرانُ التاريخيّة، بفعلِ هذين المكوّنين؛ القوميّ الفارسيّ والمذهبيّ الشيعيّ، وهما مكوّنانِ مُتصارِعانِ ومتناقضان، وهكذا شَهِدَ التاريخُ الإيرانيّ الحديث أربع مراحل من هذا التجاذب القوميّ/ الدينيّ في المرحلةِ الأُولى، كان هناكَ "الأردبيليون" (من كلمة أردبيل في أذربيجان)، وهؤلاء كانوا ضمنَ مُكوّناتِ شعب الأناضول، وهم من أصولٍ أفغانيّة/ سنّيّة، ولذا طردهم العثمانيّونَ نحو بحرِ قزوين، لكنّهم تمكّنوا سنة 1501 من الاستيلاءِ على الدولةِ (الهوتاكيّة الأفغانية)، وسرعانَ ما بسطوا سيطرتِهم على بلادِ فارس.
هذا يعني أنَّ إيرانَ منذ 1500م، لمْ تكن لديها أطماعٌ فارسيّة، لأنَّ حكّامها كانوا من أصولٍ غير فارسيّة، وكانوا من أهل السنّة، ولقد سعى هؤلاء بكلِّ الوسائلِ إلى إبعادِ الجماعاتِ (الفارسيّة النزعة) في إيران، وسعوا إلى تغليبِ المكوّن الدينيّ السنّيّ، وكان ذلك مُلائِماً لفترةٍ من الوقتِ لمواصلةِ الصِّراع مع العثمانيّينَ السنّة، وفي هذا الوقت بدأت المرحلةُ الثانية مع صعودِ أسرة صفيّ الدين الأردبيلي (عمّ الشاه عباس) إلى الحكم، في الواقعِ كان الشيخُ صفيّ الدين الأردبيلي (1252-1334م) يُؤسّسُ طريقتهُ الصوفيّة في أردبيل (أذربيجان) بوصفها حركةً صوفيّةً/ سنيّةً معادية للعثمانيّين، وأصبحت أردبيل (أذربيجان) في هذا العصرِ عاصمةً دينيّةً، ثمّ سياسيّةً لأتباعهِ، ثمّ تحوّلت الحركةُ إلى حركةٍ سياسيّةٍ وعسكريّةٍ صوفيّة (سنّية)، ثمَّ نجحت في السيطرةِ على فارس، في هذه المرحلة وجدت الحركة أنَّ (هويّتها السنّيّة) لمْ تَعدْ مُلائمةً في الصّراعِ مع العثمانيّين، وكان لا بدَّ من التمايزِ عنهم باعتناقِ مذهبٍ آخرَ.
وفي عام 1513م بدأت المرحلةُ الثالثة حين حلّت الحركةُ الصفويّةُ (السنّيّة) نفسها كحركةٍ عسكريّة، كانَ لديها "مُشكلةً عويصة"، فهي ليست فارسيّة لكنّها تحكمُ فارس، وهي (سنّيّة) لكنّها تُقاتلُ (العثمانيّينَ السنّة)، ولذا وجدَ الشيخُ صفيّ الدين الأردبيلي الحل، فهناكَ مذهبٌ اثني عشري/ شيعيّ مُنتشرٌ في العراق، ولذا اعتنقَ الصفويّونَ المذهبَ الاثني عشري المُزدهر في العراق، فقط، لبناءِ مدخلٍ نظريّ/ فقهيّ للصراعِ مع العثمانيّينَ السنّة، وهكذا تحوّلَ الصفويّونَ السنّة إلى (المذهبِ الشيعيّ الاثني عشريّ/ العراقيّ المنشأ) لأجلِ أنْ يُواصِلُوا صِراعهم ضدّ العثمانيّينَ السنّة، وهكذا أيضاً، غلّبَ الصفويّونَ السنّة لأسبابٍ انتهازيّة، المكوّن المذهبي الشيعيّ في (إيران التاريخيّة) فقط، لمنعِ القوميّينَ الفرس من التجرّؤ على سلطتِهم (لأنّهم ليسوا من القوميّةِ الفارسيّة)، في وقتٍ لاحق بدأت المرحلةُ الرابعةُ حين صعدتَ جماعةٌ أذريّةٌ أُخرى تعرفُ التاريخَ الإيرانيّ باسمِ (القاجاريين).
كانَ القاجاريون وهم (شعبٌ بدويٌّ تركيٌّ مطرودٌ أيضاً) من هضبةِ الأناضول إلى بحرِ قزوين بفعلِ الصِّراعاتِ الداخليّة، ينتهجونَ سياسةَ توازن عقلانيّة، وهم وجدوا مع مظفر خان 1900م ضرورة إقرارِ دستورٍ جديدٍ يُؤكّدُ التوازنَ في المكوّناتِ (الهويّات) في إيران، ولم تكن لدى القاجاريين، بطبيعةِ الحال، أيّة مصلحةٍ في (تغليبِ المذهب الشيعيّ) ولا (المكوّن القوميّ/ الفارسيّ)، فهم لمْ يكونوا (اثني عشريّة) ولمْ يكونوا (من القوميّةِ الفارسيّة)، بينما أصبح المجتمعُ الإيرانيّ مع الوقتِ أكثر قوميّة وأكثر (اثني عشريّة) في الآنِ ذاته.خامساً :
مع الحربِ العالميّةِ الأُولى والثانية قرَّرت أوروبا –البريطانيون على وجه الخصوص- أنَّ مصالحَهم تقتضي أنْ يُخلَعَ آخرُ الملوكِ القاجاريين ويُنصّب بدلاً منه شخصٌ من أسرةٍ فارسيّة (رضا بهلوي العريف في الجيش) ملكاً على إيران، وكانت لدى بريطانياً مصالح كبرى تستوجبُ وجودَ (إيران فارسيّة وليس إيران شيعيّة) في هذه الحقبة؛ ولذا تعاظمت صورةُ إيران (الفارسيّة) مع الشاه الأب والابن (محمّد رضا بهلوي)، وهكذا جرى خلالَ هذا العهد إبعاد (الشيعة) أو التلاعب بهم لصالحِ (المكوّن القوميّ الفارسيّ).
سادساً :
بهذا المعنى فقط، جاءت الثورةُ الإيرانيّةُ مع الإمامِ الخمينيّ عام 1978 كردِّ فعلٍ شعبيٍّ على (الخللِ) في توازنِ المكوّناتِ/ الهويّات، ولتعيد تعريف إيران كبلدٍ طامحٍ بتفكيكِ شروطِ التبعيّةِ للغرب، أي إيران التي يتعايشُ في أحشائِها مُكوّنانِ تاريخيّان.
إيرانُ الراهنةُ ليست بكلِّ تأكيدٍ مجرّد (دولة إقليميّة) تقليديّة؛ بل هي بتوصيفٍ أدّق دولةٌ ما فوق أقليميّة، أي ما فوق (قوميّة) وما (فوق مذهبيّة).
إنّهُ لَمِنَ المُثيرِ للسخريةِ حقّاً أنْ توصفَ إيران اليوم بأنّها (إيرانُ الشيعيّة الصفويّة)، لأنَّ الصفويّةَ حركةٌ سنّيةٌ مسلّحةٌ وصلت إلى المأزق، ولمْ تَجدْ أيّ خلاصٍ لها إلّا باعتناقِ مذهبِ أهل العراق وليس العكس، وهذا ينسفُ كلّ أساسٍ للخُرافةِ القائلةِ إنَّ إيرانَ تفرضُ المذهبَ الشيعيّ الصفويّ على العراق


تنويه | المقالات المنشورة في الموقع تمثل رأي صاحبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي أسرة الموقع

جميع الحقوق محفوظة لموقع جامعة الأمة العربية © 2021 - 2013