العروبة والرؤيا السياسية التقارير والمقالات | العروبة والرؤيا السياسية
تاريخ النشر: 27-12-2017

بقلم: د. محمد السعيد إدريس
مقدمة: في إشكالية الرؤيا والمنهج
   إذا كان العالم يعيش الآن عصر تلاقى ثلاث ثورات فى آن واحد هى الثورة السياسية التى تعنى الانتقال الحاسم من الشمولية والسلطوية إلى الديمقراطية، والثورة القيمية التى تتمثل فى ظاهرتين: أولاهما، تلك التى أعادت الاعتبار للقيم الروحية والدينية والمعنوية. وثانيهما، تتعلق بتحدى الجماهير للنخب السياسية من خلال المطالبة بالمزيد من المشاركة السياسية، والتدخل فى عملية صنع القرار، والثورة المعرفية، التى فرضت أنساقاً فكرية مفتوحة قادرة على المزج بين أكثر من نسق فكرى واحد حسب حاجة وخصوصية كل مجتمع من المجتمعات، فإن التجربة العربية، وعلى مدى ما يقرب من قرن كامل، قد أكدت استحالة الفصل بين الحرية السياسية والحرية الاجتماعية، واستحالة تغييب العامل الروحى والدينى من النسق الفكرى العربى، واستحالة الانطلاق نحو التقدم الخلاق المقرون بحرية الإرادة ضمن البقاء أسرى قيود الدولة القطرية دون الخروج إلى عالم العروبة الأرحب بكل قدراته ومقوماته المادية والمعنوية.
    هذه الثورات الثلاث أضحت تشكل ما أطلق عليه أستاذنا السيد يسين مصطلح “الثورة الكونية مثلثة الأبعاد” فهى أولاً ثورة سياسية شملت النظم المعاصرة والعلاقات الدولية على السواء ويمكن تلخيصها فى عبارة واحدة فى أنها “تحول من الشمولية والتسلطية إلى الديمقراطية والليبرالية، ومن صراع الفناء إلى إدارة البقاء”. وهى ثانياً ثورة فى القيم، وتحول من القيم المادية إلى القيم المعنوية، وهى ثالثاً وأخيراً، ثورة معرفية تنطوى على الانتقال من الحداثة إلى ما بعد الحداثة(!)
    إن الولوج العربى إلى هذه الثورات الثلاث، هو ذاته الطريق الذى يمكن من خلاله الولوج نحو المستقبل ببلورة استراتيجية يمكن من خلالها التأسيس لمشروع نهضوى عربى، لن نستطيع بدونه أن ندخل إلى غمار التفاعلات العالمية الجديدة، وخاصة عالم المنافسة الكونية الذى يفرض التعامل مع الثورة التكنولوجية ليس كمجرد أدوات متطورة، ولكن كنسق اجتماعى متكامل.
    امتلاك مثل هذا النسق الاجتماعى المتكامل يجب ألا يقتصر فقط على التعامل مع التكنولوجيا ولكن مع كل أبعاد تلك الثورة الكونية، وهذا لن يتأتى إلا من خلال إحداث نقلة نوعية فى الخطاب السياسى والفكرى العربى فى رؤيته لذاته ورؤيته للآخر، فى تعاملاته مع الماضى وفى تطلعاته نحو المستقبل، وهنا بالتحديد سنجد أنفسنا وجهاً لوجه أمام الإشكالية الكبرى ونعنى إشكالية الرؤى العربية المتعددة المتناقضة بل والمتصارعة لمجمل هذه القضايا، تلك الرؤى التى تلخص حالة أزمة الثقافة العربية وعلى الأخص من منظور رؤيتها للعالم.
    فوطننا العربى يزخر برؤى عديدة متعارضة للعالم، ولعل أبرز هذه الرؤى على المستوى السياسى “الرؤية التسلطية للعالم” فى مواجهة “الرؤية الليبرالية للعالم”. فالرؤية التسلطية العربية للعالم تؤمن بالوحدانية أسلوباً فى الحكم من خلال الجماعة الانقلابية أو الحزب الواحد، وهى بذلك ترفض الصراع السياسى بل تقمعه قمعاً مباشراً، وترى أن التعددية السياسية من شأنها إضعاف الدولة والنظام، بل أنها على الصعيد الثقافى تحرص على تسييد رؤيتها للعالم، ونفى كل الرؤى المتعارضة معها من خلال السيطرة الكاملة على أجهزة الثقافة والإعلام، والتى لا يتاح فيها لغير أنصار النظام التعبير عن أرائهم من خلال خطاب دعائى تبريرى. فى حين أن الرؤية الليبرالية للعالم، وكما يعرفها أنصارها ويعبرون عنها، فإنها تؤمن بالحوار والتعدد الفكرى، والتعددية السياسية والحزبية، كما تؤمن بتداول السلطة بين مختلف التيارات والأحزاب السياسية وفقاً لانتخابات حرة نزيهة، وهى لذلك ترفض القمع السياسى وتدين حكم الفرد المطلق واحتكار السلطة، وعلى الصعيد الثقافى ترى ضرورة تنوع الآراء والرؤى، وتفعيل صراعها فى إطار سلمى، من منطلق أن ذلك هو الضمان الحقيقى لازدياد ثراء التجربة الاجتماعية.
    أما على الجانب الثقافى سنجد صراعاً بين “الرؤية العلمانية” و”الرؤية الدينية السلفية”، الأولى تنطلق من ضرورة فصل الدين عن الدولة أو عن السياسة، والأخرى ترى أن الإسلام دين ودولة، وأن الفصل المزعوم الذى تراه العلمانية ليس سوى تعبير عن مجتمع غربى، ولا علاقة له بالمجتمعات الإسلامية، هذا الصراع بين الرؤيتين يصل أحياناً إلى درجة اتهام العلمانيين للسلفيين بالتخلف والتحجر والجمود الفكرى والغرق فى الماضى تحت دعوى الحفاظ على التراث والأصالة، واتهام السلفيين للعلمانيين بالكفر والالحاد وعلى أقل تقدير بالتغريب والتبعية للغرب.
    وعلى مستوى الهوية نجد صراعاً من نوع آخر بين “رؤية قطرية” و”رؤية قومية” وقد يمتد الصراع لرؤية ثالثة هى “رؤية إسلامية”؛ الأولى تحصر الهوية فى الحدود القطرية الضيقة، والثانية تتسع بالهوية إلى مستواها القومى الرحب، فى حين أن الرؤية الثالثة تميز أحياناً بين الهوية القومية والهوية الإسلامية للعالم العربى، وأحياناً أخرى، تقبل بالمزج بين ما هو قومى عربى وما هو إسلامى بالحديث عن هوية حضارية للأمة تجمع بين العروبة والإسلام.
    هذه الرؤى المتصارعة بأبعادها السياسية والثقافية والاجتماعية تقف عقبة كأداء أمام تطوير خطاب سياسى – ثقافى عربى يصلح لتأسيس استراتيجية لمشروع نهضوى عربى نحدد فيها رؤانا لذاتنا القومية وبالتحديد ماذا نريد ونحدد بها رؤيتنا للآخر وكيف نتفاعل معه وضمن أى نسق ثقافى، وإلى أى مدى يرتكز هذا النسق على حقائق العالم المعاصر دون تجاوز للتغيرات الاجتماعية والثقافية العميقة التى حدثت فى المجتمع العربى فى العقود الأخيرة، والاستراتيجية التى نقصدها هنا لا نعنى بها أكثر من وضع المرتكزات الأساسية للبدء فى بلورة المشروع النهضوى العربى الذى نستطيع أن نتفاعل به نحن العرب مع جوارنا الإقليمى ومع العالم.
    هذه الورقة، وهى واعية بضرورة أخذ هذه الإشكالية الخاصة بتعدد وتصارع الرؤى العربية فى الاعتبار سوف تركز على تقديم رؤية عربية لما يمكن أن يكون بمثابة مرتكزات لهذه الاستراتيجية الضرورية للمشروع النهضوى العربى، وسوف تلتزم بالمحددات التالية:
أن الخطاب التسلطى لن يكون له مكان فى صنع المستقبل العربى بعد أن سقطت الشمولية والتسلطية فى أبرز نماذجها العالمية.
أن الخطاب الديمقراطى الليبرالى هو الذى سيقود مرحلة التحول العربى من التخلف إلى التقدم شرط أن تقترن الحرية السياسية بالعدالة الاجتماعية والاقتصادية بضوابط تكون قادرة على احتواء الآثار السلبية للرأسمالية ضمن نموذج عربى قادر على تحقيق التوازن بين الحرية العادلة والمساواة العادلة، واعتماد مبدأ الفرصة المتكافئة لتحقيق التوازن بين الحرية والمساواة بما يعلى من قدر قيمة العدالة.
حل إشكالية العلاقة بين العلمانية والدينية، بما يجعل القيم الروحية أساساً للاستراتيجية الثقافية من ناحية وبما يكسب هذه الاستراتيجية من ناحية أخرى القدرة على التجدد الحضارى المتواصل دون انقطاع.
أن العروبة والمصلحة القومية العربية هى وعاء الاستراتيجية المطلوبة، والوعى بأن أى تنافس أو صراع بين ما هو اعتبارات أو مصالح قومية وما هو اعتبارات أو مصالح قطرية يبقى تنافساً وصراعاً مفتعلاً ضمن إدراك يرى أن المصالح القومية هى التعبير الجمعى عن كل ما يمكن أن يكون مصالح وطنية أو قطرية للدول العربية، طالما أن الهدف النهائى هو بلورة مشروع حضارى للأمة.
أن المزاوجة بين الأصالة والمعاصرة يجب أن تبقى عاملاً حاكماً فى عملية صياغة أهداف تلك الاستراتيجية. هذه المزاوجة يجب أن تلتزم برؤية محددة لما نعنيه بالأصالة وما نعنيه بالمعاصرة نابعة من قاعدة متينة من الفهم النقدى لتراثنا العربى الإسلامى وفرز ما هو “تاريخ وتراث – حافز” عن ما هو “تاريخ وتراث – عبء” من ناحية، وأن تلتزم من ناحية أخرى بقراءة نقدية للحضارة الإنسانية الراهنة بهدف الوصول إلى الروافد العميقة التى تشكل المصدر الأساسى لانجازاتها الباهرة من أجل مزيد من الفهم للعلاقة بين الأفكار والأيديولوجيات وما تعبر عنه من مصالح اقتصادية وثقافية وسياسية لشعوب وأمم قد تكون راغبة فى السيطرة والهيمنة وحريصة عليها متدثرة بعباءات فضفاضة من الأفكار والأيديولوجيات.
وإذا كان الهدف من تأسيس استراتيجية للمشروع النهضوى العربى هو بناء مجتمع عربى حديث قادر على الوفاء بالحاجات الأساسية للإنسان العربى، وقادر أيضاً على التعامل مع متغيرات العصر، فإن المدخل الحقيقى لتحقيق ذلك هو الإصلاح الشامل للنظم السياسية العربية وإكسابها الفعالية اللازمة للقيام بأدوارها المنوطة بها لإشباع الحاجات الأساسية للمواطن العربى سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية ومعنوية من ناحية، والسعى من ناحية أخرى لوضع أسس متينة وواعية للعلاقة مع العالم والحوار مع الحضارات الأخرى من ناحية أخرى.

أولاً: النظام السياسى العربى بين الإصلاح والفعالية
    إذا كان الهدف هو إكساب النظام العربى الفعالية القارة على تمكينه من تحقيق التقدم والقيام بالوظائف والأدوار التى يستطيع من خلالها أن يتفاعل مع المستقبل وأن يخوض غمار الثورة الكونية بروافدها وأبعادها الثلاث السياسية والقيمية والمعرفية فإن أقصر الطرق لذلك هو البدء بما تفرضه الثورة السياسية من تحولات باتت حتمية للتفاعل مع الثورتين الأخريتين القيمية والمعرفية، من خلال التركيز على إصلاح النظام السياسى العربى.
    المشكلة الأساسية التى تواجه المجتمعات العربية فى تطلعها نحو إصلاح النظم السياسية العربية، ضمن الكثير من المشكلات والتحديات الأخرى وخاصة الداخلية منها، هى ما يمكن تسميته بـ “إشكالية النموذج” حيث يفرض النموذج الغربى لـ “العملية السياسية”، وبالذات النموذج الأمريكى، نفسه باعتباره النموذج الأمثل لما يمكن أن تكون عليه عملية الإصلاح السياسى المرغوبة للنظم السياسية العربية. والإشكالية هنا نابعة من أمرين أولهما، مدى جدارة هذا النموذج بالاتباع، وهل يجب الأخذ به كاملاً كما هو أم يجب أن تكون هناك عملية تكييف خاصة تراعى الخصوصيات العربية. وثانيهما تتعلق بالإرث السلبى لمصطلح الخصوصية العربية الذى بات يحمل – بسبب تزايد الارتكان إليه – صفة “هروبية” من متطلبات الإصلاح، وبالذات ما يتعلق بالتحول الديمقراطى والحقوق والحريات التى تشكل محور الدعوة الليبرالية.
    بعض هذه الخصوصيات أكسب الكثير من النظم السياسية العربية قدراً لا بأس به من القدرة على الاستعصاء والصمود أمام مطالب الإصلاح ليس فقط بمفهومه السياسى وخاصة ما يتعلق بـ “تداول السلطة” ولكن أيضاً بمفهومه الشامل السياسى والاقتصادى والاجتماعى والثقافى.
    وإذا كانت قيود الخصوصية العربية مازالت تقف سداً منيعاً أمام دعوة الإصلاح فإن الارتكان إلى النموذج الغربى فى التحول الديمقراطى كاف لتشويه مسار هذا التحول والانتكاس به، الأمر الذى يفرض ضرورة البدء بحل هذه الإشكالية ثم صياغة مشروع عربى للإصلاح يأخذ فى اعتباره كل ما هو إيجابى فى مسألة الخصوصية العربية.

1- إشكالية النموذج العالمى

إذا كان العالم يعيش الآن الموجة الديمقراطية الثالثة وبالذات الانتقال من نمط المجتمع الصناعى إلى نمط مجتمع المعلومات العالمى الذى يتحول تدريجياً إلى مجتمع إنتاج المعرفة الذى يصبح فيه الإنسان وقدراته الإبداعية المصدر الرئيسى لإنتاج الثروة بكل ما يعنيه ذلك من تمكين الإنسان من حرية الفكر وحرية تداول المعلومات أو ما يعرف بـ “ديمقراطية تداول المعلومات”، فإن هذا العالم يواجه أيضاً تداعيات النموذج الإمبراطورى الأمريكى المسيطر الذى يريد أولاً أن يسيطر على العالم سياسياً واقتصادياً، ويريد أيضاً أن يفرض النموذج الأمريكى والقيم الأمريكية على العالم كإطار لأيديولوجية العولمة التى باتت تعنى أيديولوجية المشروع الإمبراطورى الأمريكى.
هذا الربط بين التطلع العالمى لمجتمع المعرفة الذى يتأسس على قاعدة ديمقراطية المعلومات وديمقراطية المعرفة وبين النموذج الأمريكى للديمقراطية والليبرالية يشوه الدعوة العالمية لمجتمع المعرفة باعتباره النموذج المأمول عالمياً لأسباب كثيرة أبرزها يتعلق بالخصوصية الثقافية للإمبراطورية كما يتعلق بسلبيات النموذج الأمريكى فى الديمقراطية والليبرالية، ويتعلق أيضاً بعدم مصداقية الدعوة الأمريكية للإصلاح السياسى الديمقراطى فى العالم العربى بصفة خاصة سواء لخصوصية علاقاتها بنظم الحكم العربية التسلطية أو للربط بين الإصلاح السياسى والديمقراطى لنظم الحكم العربية وعملية السلام مع الكيان الصهيونى.
فالحلم الديمقراطى الأمريكى آخذ فى التداعى وبالذات منذ سيطرة هاجس الحلم الإمبراطورى على الإدارة الأمريكية. وقد عبر المخرج المسرحى السوفييتى (سابقاً) اناتولى فاسيلييف عن إحباطه من تداعى ذلك الحلم فى الديمقراطية الأمريكية بقوله: “إن إحدى النتائج المؤسفـة للـبيروسترويكا التى دافعت عنها ضلالاً أو انتهازية أكثر مما بدافع القناعة، هى أننا فقدنا العمل فى بلادنا من دون أن نكسب الحرية التى وعدنا بها أنفسنا”. وزاد على ذلك الكاتب المسرحى الأمريكى إدوارد البى صاحب “من يخاف فرجينيا وولف” بقوله: “إن الديمقراطية البديلة عن الأنظمة الشمولية هى ديمقراطية وهمية” هذه الصفة الوهمية للديمقراطية المقرونة بالنموذج الأمريكى تتأكد فى ظل ما تفرضه الإمبراطورية الكونية؛ حيث تكون الديمقراطية والإمبراطورية نقيضان. كان ذلك عندما تحولت أثينا إلى مركز إمبراطورى بعد تزعمها “الحلف الديمقراطى” فى المدن الإغريقية ضد الحلف الاستبدادى الذى تزعمته اسبرطة. فقد فوجئ الاثينيون بممارسات قادتهم غير الديمقراطية، وكان رد كليون الزعيم الديمقراطى المتطرف: “إن الديمقراطية لا تصلح لتصريف شؤون الإمبراطورية” وهذا ما تؤكده يوماً بعد يوم ممارسات الإدارة الأمريكية وبالذات منذ أحداث 11 سبتمبر 2001 سواء داخل الولايات المتحدة أو خارجها.
فأقل ما يوصف به ما يحدث للديمقراطية والليبرالية داخل الولايات المتحدة منذ 11 سبتمبر 2001 هو أنه “انتكاسة ديمقراطية هائلة”: قيود على الصحافة والإعلام، زيادة جرعة الإعلام الموجه، سطوة الأجهزة الأمنية واعتداءاتها على الحريات الشخصية، أما ما يحدث فى الخارج فهو الإمبريالية الحقيقية، غزو العراق وجرائم سجن أبوغريب ومن قبله جرائم معتقلات جوانتانامو أكبر دليل على ذلك.
ولم تكن الديمقراطية الأمريكية قبل 11 سبتمبر 2001 مثالية بل كان بها قدر لا يستهان به من التزييف ليس فقط ضد الأقليات والجماعات العرقية والأقليات الوافدة داخل الولايات المتحدة بل أيضاً كانت ديمقراطية الذين يملكون ويسيطرون سياسياً وإعلامياً، فقد كان النموذج الديمقراطى الأمريكى، ومازال، يعتبر “ديمقراطية الأثرياء”، فحسب وصف الكاتب والروائى البريطانى جورج اورويل يمكن القول أن الناس فى البلدان الرأسمالية الغربية أحرار ولكن هناك أناساً أحراراً أكثر من غيرهم حيث الحرية فى هذه البلدان هى بمقدار القوة المالية والثراء. فالقدرة المالية أو القدرة على اجتذاب التبرعات المالية للحملات الانتخابية فى الولايات المتحدة هى شرط ضرورى للنجاح فى معظم هذه العمليات الانتخابية، وخاصة انتخابات الرئاسة ومجلسى الشيوخ والنواب وحكام الولايات. وهكذا فإن الأغنى أو المدعوم من الأغنى هو الأقدر على اختراق حواجز السلطة السياسية، وليس صدفة أن النظام السياسى الأمريكى قائم عملياً على أساس الحزبين الرئيسيين الجمهورى والديمقراطى، بينما يجرى تهميش العشرات، وربما المئات من الأحزاب والقوى والتجمعات الشعبية التى لا تتوفر لديها الإمكانيات لمنافسة متكافئة مع مرشحى الحزبين الكبيرين المدعومين من قطاعات واسعة ونافذة من أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة والشركات العملاقة القادرة على التحكم فى القيادات السياسية وبرامجها عن طريق التمويل أو حجب التمويل وعن طريق مؤسسات الدعاية المملوكة لأصحاب رأس المال الكبير، الأمر الذى يجعل القيادات السياسية، على الأغلب، واجهة لهذه الكتل المالية والشركات العملاقة.
هذا النموذج الديمقراطى الأمريكى يزداد تشويهاً من خلال الدور المعرقل للتحول الديمقراطى فى كثير من الدول العربية الذى تقوم به الإدارة الأمريكية والمؤسسات المالية الدولية الموالية لها.
ففى بحث له عن “الإسلام السياسى والسياسة الخارجية الأمريكية” ضمن كتاب “مستقبل الإسلام السياسى: وجهات نظر أمريكية، 2001” يروى جون اسبوزيتو أستاذ الأديان والعلاقات الدولية فى جامعة جورج تاون والذى عمل مستشاراً لوزير الخارجية الأمريكى الأسبق جيمس بيكر، أن الوزير بيكر كان فى طريقه إلى الشرق الأوسط فى إحدى الجولات التى زار فيها عدداً من الدول العربية، ووضع بيكر خمس نقاط رئيسية للحوار حولها مع قادة هذه الدول، إلا أنه قبل أن تهبط به الطائرة فى المنطقة قام بحذف النقطة الخامسة، ومع الأسف، وكما يروى اسبوزيتو، كانت هذه النقطة هى الديمقراطية.
ويفسر اسبوزيتو هذا التراجع الأمريكى عن طرح قضية الديمقراطية على قادة الدول العربية ومن ثم عزوف الولايات المتحدة عن دعم وتشجيع التحول الديمقراطى فى تلك الدول بأن جميع حلفاء الولايات المتحدة فى المنطقة من الدول غير الديمقراطية، وأنه من الأفضل لها ألا تفتح قضية الديمقراطية وأن تبتعد تماماً عن إثارتها حفاظاً على مصالحها الحيوية فى المنطقة.
وحتى بعد أن رفعت إدارة الرئيس جورج دبليو بوش دعوة الإصلاح السياسى والديمقراطى وأظهرت قدراً من العداء إلى ما أسمته بـ “الدولة الفاشلة” فى الشرق الأوسط التى أدى فشلها فى حل القضايا الداخلية إلى تفريخ الجماعات الإرهابية، حسب زعمها، فإنها لم تظهر أى قدر من الجدية فى الدفاع عن الدعوة الديمقراطية بل تراجعت عن دعوة فرض الديمقراطية قسرياً من الخارج فيما يشبه مقايضة الديمقراطية بتنازلات عربية فى ملفى العراق وفلسطين وقد ظهر ذلك جلياً فى إعادة تأكيد كولن باول وزير الخارجية الأمريكى الأسبق فى مؤتمر عن الديمقراطية فى المغرب أن التحول الديمقراطى يجب أن يتم من الداخل وليس من الخارج بما يمثل تراجعاً عن الحماس الأمريكى السابق.
وقد فسرت نورا بن سهيل فى الدراسة التى أعدتها “مؤسسة راند” الأمريكية بعنوان  The Future Security Environment In The Middle East أن المـوقـف الأمريكى من دعم التحول الديمقراطى فى الدول العربية يحكمه عامل المصلحة الأمريكية فى الأجلين القصير والطويل. ففى الأجل الطويل يعتبر التحول الديمقراطى مصلحة أمريكية لأنه يحقق الاستقرار ويحد من الصراعات نظراً لأن الدول الديمقراطية أقل ميلاً للتورط فى صراعات مع دول مجاورة وأكثر استعداداً للسلام، بينما تكون الدول غير الديمقراطية أكثر استعداداً لشن الحرب. أما فى الأجل القصير فإن التحول الديمقراطى يضر بالمصالح الأمريكية فهو يزيد من عدم الاستقرار الداخلى فى الدول العربية ومن ثم يهدد الاستقرار الإقليمى، ويزيد من حدة المشاعر العدائية للولايات المتحدة وقد يسمح بوصول جماعات مناوئة أو معادية للمصالح الأمريكية إلى الحكم، ويؤثر سلبياً على استعداد الحكومات للتعاون الأمنى مع الولايات المتحدة وقد ينعكس سلبياً على المصالح الأمريكية فى المنطقة ومن بينها مصالح إسرائيل فى السلام.
على هذا النحو يصعب قبول النموذج الديمقراطى الأمريكى كنموذج يجب الاقتداء به فى عملية الإصلاح السياسى فى المجتمعات العربية رغم أن هذا النموذج هو الذى يجرى الترويج له كأيديولوجية للعولمة، وهذا فى حد ذاته يضع عملية الإصلاح السياسى أمام إشكالية أكثر تعقيداً وهى إشكالية صياغة نموذج عربى للإصلاح السياسى يأخذ فى اعتباره أن هذا الإصلاح هو فى الأساس تحول من النظم الشمولية والسلطوية إلى النظم الديمقراطية والليبرالية، لكن هذه الديمقراطية والليبرالية يجب أن تأخذ فى اعتبارها القيود التى تفرضها الخصوصيات العربية من ناحية والمخاطر التى يفرضها النموذج الأمريكى العالمى من ناحية أخرى.

2 – نحو نموذج عربى للإصلاح السياسى

لم يعد ممكناً فى مثل تلك الظروف التى تواجه المجتمعات العربية الاكتفاء بالسعى إلى التحول من الحكم الشمولى أو السلطوى إلى الحكم الديمقراطى والليبرالى، وأن نعتبر عملية التحول هذه هى الإصلاح السياسى المنشود خصوصاً وأن هناك قيوداً وتحديات يمكن أن تفرغ عملية التحول تلك من مضامينها الحقيقية إذا لم تشمل عملية الإصلاح عمليات أخرى لمواجهة تلك التحديات والقيود.
الإصلاح السياسى العربى المنشود سيكون حتماً عملية معقدة ومركبة تمزج بين العملية الجوهرية للإصلاح أى التحول من مجتمعات شمولية وسلطوية إلى مجتمعات ديمقراطية وليبرالية، وبين السعى لتحقيق ما يسمى بـ “الحكم الصالح” ضمن عملية تحديثية شاملة للمجتمعات العربية قادرة على نقل هذه المجتمعات من أغوار التخلف إلى آفاق الحداثة اقتداءً بما دونه الكواكبى فى خاتمته حيث يسوق قاعدة أساسية فحواها “أنه يجب، قبل مقاومة الاستبداد، تهيئة ماذا يستبدل به الاستبداد، فمعرفة الغاية، ولو إجمالاً، شرط طبيعى للإقدام على كل عمل، وهو ما يمكن التعبير عنه بـ “الرؤية الاستراتيجية للإصلاح”.
إذا اعتبرنا أن مطلب الحكم الصالح هو الهدف الاستراتيجى لعملية الإصلاح السياسى المطلوبة عن طريق عملية تمزج بين التحول الديمقراطى والتحول الليبرالى معاً فلابد أن نحدد أولاً ما هو الحكم الصالح  Good Governance.
لقد استخدمت مؤسسات الأمم المتحدة هذا المفهوم منذ عقدين لإعطاء حكم قيمى على ممارسة السلطة السياسية لإدارة شئون المجتمع باتجاه تطويرى وتنموى وتقدمى. أى أن الحكم الصالح هو الحكم الذى تقوم به قيادات سياسية منتخبة، وكوادر إدارية ملتزمة بتطوير موارد المجتمع، وبتقدم المواطنين وبتحسين نوعية حياتهم ورفاهيتهم وذلك برضاهم وعبر مشاركتهم ودعمهم.
هذا يعنى أن إدارة شؤون المجتمع من خلال الحكم الصالح تتضمن ثلاثة أبعاد مترابطة وهى البعد السياسى المتعلق بطبيعة السلطة السياسية وشرعية تمثيلها، والبعد التقنى المتعلق بعمل الإدارة العامة وكفاءتها وفاعليتها، والبعد الاقتصادى – الاجتماعى المتعلق بطبيعة بنية المجتمع المدنى ومدى حيويته واستقلاله عن الدولة من جهة، وطبيعة السياسات العامة فى المجالين الاقتصادى والاجتماعى ومدى تأثيرها فى المواطنين من حيث الفقر ونوعية الحياة.
وأمام صعوبة تعريف ما هو الحكم الصالح بالتحديد بذلت محاولات عديدة كان من أهمها تلك التى عرفت الحكم الصالح بأنه عملية التحول عن الحكم السئ أو غير الصالح Poor Governorance الذى من السهل تحديد أبرز معالمه فيما يلى :
 – الحكم الذى يفشل فى الفصل الواضح والصريح بين المصالح الخاصة والمصلحة العامة، وبين المال العام والخاص، وينحو بشكل دائم إلى استخدام الموارد العامة أو استغلالها لصالح مصلحة خاصة .
– الحكم الذى ينقصه الإطار القانونى، ولا يطبق مفهوم حكم القانون، بحيث تطبق القوانين استثنائياً وتعسفياً، ويعفى المسؤولين أنفسهم من الخضوع لأحكام القانون.
– الحكم الذى يتميز بوجود آليات تتعارض مع التنمية المستديمة وتدفع نحو الهدر فى الموارد المتاحة وسوء استخدامها.
– الحكم الذى يتميز بوجود قاعدة ضيقة أو مغلقة وغير شفافة للمعلومات، ولعمليات صنع القرار بشكل عام وعمليات وضع السياسات العامة بشكل خاص.
– الحكم الذى يتميز بوجود الفساد وانتشار آلياته وثقافته بما فى ذلك القيم التى تتسامح مع الفساد ويخلو من المحاسبة والمساءلة .
– الحكم الذى يتميز باهتزاز شرعية الحكم وضعف ثقة المواطنين به مما قد يدفع إلى تهديد الاستقرار وسيطرة الحلول الأمنية وانتشار القمع ومصادرة الحريات وانتهاك حقوق الإنسان وسيادة التسلط وغياب المشاركة.
– الحكم العاجز عن الإنجاز وغير القادر على التجاوب مع المطالب المتجددة للمواطنين .
– الحكم العاجز عن حماية الاستقلال الوطنى ومواجهة ضغوط التبعية والهيمنة.
بهذا المعنى نستطيع أن نقول أن الحكم الصالح هو القادر على مواجهة كل هذه التحديات وهو أقرب لأن يكون مشروعاً للنهضة الوطنية والقومية ومنه يجب أن ينطلق النموذج العربى للإصلاح السياسى من خلال عمليتين مترابطتين ومتزامنتين، الأولى هى صياغة مرتكزات عملية الإصلاح السياسى، والثانية هى وضع ضوابط لهذه العملية الإصلاحية تقوم بوظيفتين متزامنتين : حماية عملية التحول نحو الإصلاح من جهة، وتكمل النواقص وتسد الثغرات فى تلك العملية من جهة أخرى.

أ – مرتكزات أو مقومات الإصلاح السياسى

  يشمل الإصلاح السياسى عمليتين منفصلتين لكنهما مترابطتين هما الديمقراطية والليبرالية، وبدون أى منها تبقى عملية الإصلاح السياسى ناقصة ومشوهة. والديمقراطية فى أفضل تعريفاتها، عملية وليست أيديولوجية، هى عملية تحويل المجتمع من نمط حكم شمولى أو سلطوى إلى نمط آخر له معالمه تتوزع فيه السلطة السياسية ويسهل تداولها سلمياً بضوابط قانونية عن طريق المؤسسات الديمقراطية. أما الليبرالية فهى أيديولوجية تتضمن قيماً ومبادئ وحقوقاً تُعلى من شأن الحرية كقيمة عليا دون التضحية بالعدالة أو بالمساواة. هذه الأيديولوجية تتحول فى التطبيق إلى عملية هى الأخرى عندما تصبح هدفاً للمجتمع السياسى.
    والمجتمع الديمقراطى هو المجتمع الذى يمتلك القدرة على اختيار ومن ثم تغيير الحكام والسياسات عن طريق مشاركة شعبية فى انتخابات حرة ونزيهة، وهو المجتمع الذى يمارس الحكم عن طريق مؤسسات قادرة على الرقابة والمحاسبة والتشريع دون تدخل أو إكراه من السلطة التنفيذية، وأن يكون الأداء السياسى خاضعاً لحكم دستور يُعلى من شأن السيادة الشعبية ويجعل الشعب مصدراً للسلطات. يأتى المجتمع الليبرالى ليؤمن أداء المؤسسات الديمقراطية عن طريق ضمان الحقوق العامة والخاصة والحريات ويجعل الانتخابات حرة ونزيهة ويمكن الشعب فعلاً من حق الاختيار دون ضغوط أو قيود أو إكراه من خلال تأمين المساواة فى الحقوق بين الحاكمين والمحكومين، وتيسير التداول السلمى للسلطة دون عوائق أو قيود أو إكراه.
    ونظراً لأهمية الربط بين الديمقراطية والليبرالية لتحقيق النموذج الأفضل للإصلاح السياسى يتم أحياناً الخلط بين ما هو مرتكز للديمقراطية وما هو مرتكز للحكم الليبرالى. فقد حدد الدكتور على خليفة الكوارى (نحو رؤية مستقبلية لتعزيز المساعى الديمقراطية فى دول مجلس التعاون) خمسة مرتكزات للديمقراطية تجمع بين ما هو ديمقراطى وما هو ليبرالى وهى : المواطنة المتساوية، والشعب مصدر السلطات، والدستور الديمقراطى، والمجتمع المدنى، وأن تصبح الديمقراطية قيمة اجتماعية. وهنا نلحظ التداخل والخلط بين ما هو ديمقراطى وما هو ليبرالى، بين   ما هو مؤسسات وما هو حقوق وقيم، لكنه عاد وحدد خمسة مبادئ للديمقراطية هى: السيادة للشعب لا لفرد أو لقلة على الشعب، وسيطرة أحكام القانون والمساواة، والفصل بين السلطات، وضمان الحقوق والحريات العامة، وتداول السلطة. وبمقارنة المرتكزات بالمبادئ يظهر أن بعض هذه المبادئ هى تفصيلات لمرتكزات ديمقراطية وليبرالية.
    وقد وقعت وثيقة الإسكندرية الصادرة عن مؤتمر الإصلاح العربى الذى نظمته مكتبة الإسكندرية (12- 14 مارس/ آذار 2004)  فى الخلط نفسه بين الديمقراطية والليبرالية، وربما يكون هناك بعض التبرير لهذا الخلط لأن الوثيقة اختارت من البداية المزج بين الديمقراطية والليبرالية عندما اعتبرت أن الإصلاح السياسى هو عملية الانتقال إلى الحكم الديمقراطى الليبرالى. ولكن دراسة “مؤسسة راند” الأمريكية بعنوان     The Future Security in the Middle East  ميزت بين ما هى مرتكزات للديمقراطية وما هى مرتكزات لليبرالية. فاعتبرت أن الهيئات التشريعية (البرلمانات) والمجالس التشريعية والأحزاب مرتكزات للديمقراطية، كما اعتبرت أن المنظمات الأهلية والمدنية، وحرية الصحافة، والقضاء العادل وحكم القانون مرتكزات للحكم الليبرالى وهو تمييز غير دقيق فضلاً عن القصور الواضح فى تحديد المرتكزات سواء كانت للديمقراطية أم الليبرالية.
    وإذا تعاملنا مع الديمقراطية باعتبارها العملية التى يتم الحكم عبرها عن طريق مؤسسات وآليات ديمقراطية وإذا تعاملنا مع الليبرالية باعتبارها أيديولوجية الحرية يكون من السهل التمييز بين مرتكزات الديمقراطية ومرتكزات الليبرالية دون تعسف، مع الوعى بحقيقة أن الديمقراطية والليبرالية تصبان معاً فى قناة واحدة هى إعلاء السيادة الشعبية فى الحكم وتمكين المواطنين من المشاركة الحرة والفعالة فى صنع القرارات دون تمييز، ومن ثم يكون التمييز بين ما هو ديمقراطى وما هو ليبرالى ليس بدافع الوعى بوجود تباين أو تناقض ولكن بدافع الحرص على إرساء قواعد الحكم الديمقراطى والليبرالى، لأن أغلب نظم الحكم العربية تركن إلى الأخذ ببعض مرتكزات الليبرالية وتصورها على أنها مؤشرات للدلالة على ديمقراطية الحكم، ضمن إصرار على تجاهل المعنى الحقيقى للحكم الديمقراطى وهو قدرة المواطنين على تغيير نمط توزيع القوة السياسية فى المجتمع من خلال ممارسة قاعدة تداول السلطة دون أى احتكار من أى جماعة أو قوة أو حزب سياسى. فالديمقراطية لا تعرف احتكار السلطة، كما لا تعرف التمييز فى الحقوق بين المواطنين وتعلى من شأن حكم القانون والاستقلال المطلق للقضاء واحترام حريته ونزاهته لضمان المساواة أمام القانون وتوفير الفرص المتكافئة للجميع. وهكذا يتأكد أن الديمقراطية فى حاجة ماسة إلى الليبرالية حتى يكون الحكم ديمقراطياً كاملاً ولن يكون كذلك إلا إذا كان حكماً ديمقراطياً ليبرالياً، دون أن تجور الليبرالية على العدالة والمساواة حتى لا تتحول إلى “ليبرالية متوحشة” كما هو حادث فى كثير من المجتمعات الغربية.
    على هذا النحو يمكن تحديد أهم مرتكزات الحكم الديمقراطى فيما يلى : الدستور الديمقراطى ومؤسسات الحكم الديمقراطية: الهيئات التشريعية والهيئات القضائية والأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدنى (المنظمات غير الحكومية والمؤسسات الإعلامية). أما مرتكزات الحكم الليبرالى فهى فى جوهرها تأكيد لقيمة الحرية، وهى من الناحية العملية تعتبر بمثابة آليات تشغيل وتأمين الحكم الديمقراطى، ومن هنا بالتحديد يأتى تمايز الديمقراطية الليبرالية عن غيرها من أنواع الديمقراطية مثل الديمقراطية الاشتراكية مثلاً أو الديمقراطية الإسلامية. فغياب القيم الليبرالية عن مؤسسات تلك الديمقراطيات يعوق أداءها. فالأحزاب السياسية مثلاً لا يكتمل تفعيلها إلا إذا كانت تعمل فى مناخ ليبرالى يؤمن تعدديتها، والانتخابات كآلية ديمقراطية لا يكتمل تشغيلها إلا إذا كانت حرة ونزيهة، وأداء مؤسسات الحكم خاصة المؤسسة التشريعية والقضائية لن يكون بالفعالية المأمولة إلا فى ظل تثبيت قواعد الشفافية والمحاسبة والمساءلة، وكذلك المؤسسات الإعلامية لن تؤدى رسالتها إلا إذا كانت تتمتع بالحرية الكاملة، أما المواطنة المتساوية التى يجب أن ينص عليها الدستور الديمقراطى فهى لا تكون حقيقية إلا فى مناخ من حرية التعبير وانتفاء كل أنواع التمييز بين المواطنين.
    ويعتبر الدستور الديمقراطى هو الحد الفاصل بين الديمقراطية وغيرها، ويكون الدستور ديمقراطياً فى طريقة وضعه وفى طريقة إلغائه أو تعديله، ويكون ديمقراطياً فى محتواه.
    فالدستور لا يكون ديمقراطياً إلا إذا وضعته جمعية تأسيسية منتخبة ديمقراطياً، ويكون بمثابة عقد اجتماعى سياسى بين الحاكمين والمحكومين، ويعكس توازن القوى الوطنية ويحظى بالقبول والتوافق الشعبى، فى إشارة إلى ضرورة مراعاة الأقليات العرقية والطائفية، فالركون فقط إلى الأغلبية الشعبية لإقرار الدستور لا يكفى لتأمين وتحقيق ديمقراطية، فالأغلبية الشعبية قد تجور على حقوق الأقليات ومن ثم فإن ما يسمى بـ “الديمقراطية التوافقية” التى تراعى النسب التمثيلية لكافة القوى الوطنية يمكن أن تكون حلاً مساعداً وليس قاعدة للحكم بالضرورة، لكن يمكن الاستفادة منها قدر الإمكان لتأمين حقوق الجميع أغلبية وأقليات.
    والدستور لا يكون ديمقراطياً فى ذاته بل فى طريقة وضعه وتعديله وإلغائه وفى محتواه. فلكى يكون الدستور ديمقراطياً يجب أن يصدر عن الشعب، وهو ليس منحة أو عطاء من الحاكم يعطى ما يريد ويحجب ما يريد، لكنه يمثل إرادة شعبية ديمقراطية، وليس للحاكم الحق فى إلغائه أو تعديله إلا بالإرادة الشعبية التى لا تعكس فقط الأغلبية ولا تركن إلى ديكتاتورية الأغلبية بل يجب أن تحترم التعددية والتوافقية بين كافة القوى الوطنية دون أن تجور على حقوق الأقليات الدينية والطائفية والعرقية. ولكى يكون الدستور ديمقراطياً يجب أن يتضمن المبادئ التالية:
الأول : أن تكون السيادة للشعب والحاكمية للشعب وليس لحاكم أو فقيه أو غيره، والشعب هو مصدر السلطات يفوضها بإرادته ويستبدلها بإرادته.
الثانى : المواطنة المتساوية بين المواطنين دون تمييز وهناك شروط لضمان هذا الحق فى المواطنة المتساوية أهمها شرطان الأول : زوال وجود مظاهر حكم الفرد أو القلة (الحزب أو العائلة أو القبيلة أو الطائفة)، وتحرير الدولة من التبعية للحكام، وذلك باعتبار أن الشعب هو مصدر السلطات وفق شرعية دستور ديمقراطى، ومن خلال ضمانات مبادئه ومؤسساته وآلياته الديمقراطية على أرض الواقع. والثانى: اعتبار جميع السكان الذين يتمتعون بجنسية الدولة أو الذين لا يحوزون على جنسية دولة أخرى (البدون جنسية) المقيمين على أرض الدولة وليس لهم فى الحقيقة وطن غيرها، مواطنين متساويين فى الحقوق والواجبات يتمتع كل فرد منهم بحقوق والتزامات مدنية وقانونية متساوية، كما تتوفر ضمانات وإمكانيات ممارسة كل مواطن لحق المشاركة السياسية الفعالة وتولى المناصب العامة دون تمييز . وكذلك مجمل الحقوق الاجتماعية والاقتصادية حتى يتمكن المواطن من ممارسة مواطنته، وحتى تكون للمواطنة معناها التى يتحقق بموجبها انتماء المواطن وولاؤه لوطنه وتفاعله الإيجابى مع مواطنيه نتيجة امتلاكه القدرة على المشاركة الفعلية والشعور بالإنصاف . فالمواطنة حق وأداء، إذا لم يتوافر الحق لن يتحقق الأداء.
الثالث : سيطرة أحكام القانون والمساواة الكاملة أمامه دون تمييز، أى مرجعية القانون وسيادته على الجميع من دون استثناء انطلاقاً من حقوق الإنسان بشكل أساسى وبالذات حق المواطنة المتساوية. والقانون يجب أن يكون عاماً ومجرداً لا يعرف المحاباة ولا يقر استثناءات ولا يسمح بتجاوزات، والقانون يجب أن يكون الإطار الذى ينظم العلاقة بين المواطنين فيما بينهم، وبينهم وبين الدولة ومؤسساتها من جهة أخرى، كما ينظم العلاقة بين المؤسسات بما يؤمن القواعد الحقوقية للعدالة والمساوة. الفصل بين السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية ومنع أى تعد من جانب السلطة التنفيذية على السلطتين التشريعية والقضائية، وتمكين هاتين السلطتين من أداء وظائفهما الدستورية، ومنع أى جمع بين السلطتين التنفيذية والتشريعية بما يؤدى إلى تبعية السلطة التشريعية للسلطة التنفيذية، ومنع أى جور أو اعتداء أو ضغوط من السلطة التنفيذية على السلطة القضائية.
الرابع : تداول السلطة هذا التداول السلمى للسلطة بين القوى السياسية هو الحد الفاصل بين كون الحكم ديمقراطياً أم احتكارياً (سلطوياً أو شمولياً) ، والتداول السلمى للسلطة يجب أن يشمل السلطتين التنفيذية والتشريعية (فى النظم الجمهورية) وأن يكون التداول للسلطة فى النظم الملكية على مستوى الحكومات والبرلمانات ومن ثم يكون نظام الحكم البرلمانى الذى يعطى للحزب أو للائتلاف الحزبى الحائز على الأغلبية داخل البرلمان حق تشكيل الحكومة هو الأنسب فى هذه الحالة لأنه يؤمن بالفعل وعن طريق الانتخابات الدورية الحرة والنزيهة ذلك التداول المرغوب فى السلطة على مستوى السلطتين التنفيذية والتشريعية.
    عندما يغيب مبدأ تداول السلطة سلمياً فإن ما يحدث هو أحد أمرين إما توريث السلطة داخل العائلة أو داخل الحزب الحاكم، وإما التداول القسرى والعنيف عبر الانقلابات سواء كانت انقلابات قصر على مستوى النخبة الحاكمة، أو انقلابات عنيفة تفرض تداول السلطة قسرياً مع كل ما يتهدد الأمن الوطنى والاستقرار السياسى فى مثل هذه الحالة من تهديدات.
    غياب أى من هذه المبادئ الأربعة يؤثر على ديمقراطية الدستور ويشوه الدعوة الإصلاحية .
أما بالنسبة لمرتكزات الليبرالية فإنه رغم كل أهمية الديمقراطية كأساس لنظام الحكم وكقاعدة للإصلاح السياسى فإنها تبقى مؤسسات وهياكل جامدة غير قادرة على التشغيل بالكفاءة والفعالية المطلوبة إذا لم يتم هذا التشغيل بآليات حكم ليبرالية. فبعض الدول العربية بها مؤسسات حكم شبيهة بالمؤسسات الديمقراطية وربما تحمل الأسماء نفسها التى تحملها مؤسسات الحكم الديمقراطى ولكن يبقى المنتج النهائى (المخرجات) سلطوياً فى مضمونه لافتقاد هذه المؤسسات للمعايير الليبرالية.
فلا يكفى فقط إنشاء المؤسسات الديمقراطية ولكن يجب أن يتم المزج بين الديمقراطية كمؤسسات وكنصوص دستورية وبين الليبرالية كإطار للفعل والحركة.
فالمؤسسات التشريعية والهيئات القضائية دون المناخ الليبرالى ودون تأمين الحقوق والحريات العامة والخاصة لن تكون مؤسسات ديمقراطية من الناحية الفعلية. فالنواب والقضاة إذا لم تكن لديهم الحرية الكاملة فى أداء الأدوار المطلوبة (التشريع والرقابة والمحاسبة بالنسبة للمؤسسات التشريعية وتأكيد سيادة القانون وممارسة المساواة بين الأفراد وامتلاك القضاة الحريات الكاملة والنزاهة الكاملة فى إعطاء الأحكام دون ضغوط من السلطة التنفيذية بالنسبة للهيئات القضائية).
والأحزاب السياسية تبقى هياكل جامدة وغير قادرة على التجنيد السياسى، ومفتقدة للمصداقية، وغير قادرة على تعميق المشاركة السياسية إذا لم تمتلك هذه الحريات اللازمة وأولها الحق المطلق فى تأسيس الأحزاب دون قيود من السلطة التنفيذية بما يتيح التعددية الحزبية التنافسية، والحق فى التعبير والحق فى التظاهر دون تدخل من السلطات الأمنية، ودون متابعة من هذه السلطات لأعضاء وقيادات تلك الأحزاب.
والحال نفسها بالنسبة لمنظمات المجتمع المدنى وكذلك الصحافة والمؤسسات الإعلامية دون تمتعها بالحرية الكاملة فى عملها تبقى مؤسسات معوقة ومشوهة للتحول الديمقراطى، وخاصة حرية الفكر، حرية تداول المعلومات، حرية التنظيم، حرية التظاهر، حرية الانتخابات.

ب – ضوابط وضمانات الإصلاح السياسى
رغم أهمية عمليتى التحول الديمقراطى والليبرالى فى تحقيق الإصلاح السياسى المأمول فى المجتمعات العربية إلا أنهما لا تكفيان لتحقيق هذا الإصلاح بما يتوافق مع شروط الحكم الصالح، باعتبار أن هذا النوع من الحكم هو الأقرب إلى الإصلاح السياسى المطلوب للمجتمعات العربية. ولذلك نتصور أن هناك عمليات وإجراءات ومطالب أخرى يجب توافرها جنباً إلى جنب مع عمليتى التحول الديمقراطى والليبرالى لهذه المجتمعات. هذه العمليات والمطالب يمكن أن نتعامل معها كضوابط لابد منها لإنجاح الإصلاح السياسى العربى المنشود الذى نتصور أنه فى جوهره عملية تحديثية شاملة للمجتمعات العربية طموحاً للوصول إلى الحكم الصالح كغاية لذلك الإصلاح أو كهدف أو بالأحرى الرؤية الاستراتيجية من عملية الإصلاح.
من بين تلك المهام والضمانات نذكر ما يلى :
(1) التزامن بين الحرية السياسية والعدالة الاقتصادية :
فالديمقراطية لا يمكن أن تبقى مجرد منظومة من الضمانات المؤسسية فقط، كما أنها مجرد حريات سلبية، بل هى السياسة الرشيدة الفاعلة عندها يصبح النظام السياسى الديمقراطى هو نمط الحياة السياسية الذى لا يكتفى بإعطاء أكبر قدر من الحريات لأكبر عدد من المواطنين بل الذى يعمل جاهداً على حماية هذه الحرية. فالتفاوت الاقتصادى، خاصة إذا كان حاداً، لا يهدد التماسك الاجتماعى فحسب، بل ويؤثر سلباً على مبدأ المساواة السياسية الذى تعبر عنه الديمقراطية. ومن ثم فليس هناك تمييز بين المساواة السياسية ونظيرتها الاقتصادية، الأمر الذى جعل كثيرين يعتقدون أن الديمقراطية لا تبدأ أو تنتهى بالانتخابات. فإزاحة أو إزالة أدوات السيطرة والتحكم التى تمتلكها بعض الجماعات، دون وجه حق، وتفتقر إليها الجماعات الأخرى، هى المكمل الأساسى لسلامة الديمقراطية.
أن تشكك مفكر ليبرالى كبير مثل روبرت دال فى إمكانية تحقيق مساواة اقتصادية فى ظل رأسمالية السوق رغم أن كثيرين يعتبرونها شرطاً أساسياً للديمقراطية. فهو يرى أن الرأسمالية لا تحقق المساواة الاقتصادية، ومن ثم فلا يمكنها أن تنجز المساواة السياسية، ولأن المواطنين غير المتكافئين اقتصادياً من غير المحتمل أن يكونوا متكافئين سياسياً فهناك علاقة توتر دائم بين الديمقراطية ونظام السوق الرأسمالية، ومن ثم يدعو دال إلى إصلاح النظام الديمقراطى الحالى فى الغرب بما يضمن له المزيد من ممارسة الأداء السياسى الأمثل فى إدارة المجتمع.
إذا كانت هذه الدعوة ضرورية فى الغرب فإنها حتمية فى المجتمعات العربية التى تعانى من تجذر وشيوع الاستبداد السياسى، والتركيز على أولوية الليبرالية الاقتصادية دون الليبرالية السياسية يؤدى إلى مزيد من الاستبداد والفساد معاً. فقد أصبحت الليبرالية الاقتصادية (الانفتاح الاقتصادى والخصخصة) أدوات لتمكين “الرأسماليين الجدد) الذين خرجوا من رحم رأسمالية الدولة السابقة للسيطرة على الاقتصاد “بطريقة قانونية” بعد أن كانت تتحكم بطريقة غير قانونية.
هكذا تشهد الدول العربية حركة الانفتاح الليبرالى الاقتصادى المتسارع وخصخصة مؤسسات القطاع العام، بدلاً من تشييد مؤسسات إنتاجية خاصة جديدة، بينما استبعد الشق السياسى للإصلاحات الذى من المفترض أن يرسى قواعد بناء دولة عصرية ديمقراطية تضمن تداول السلطة واحترام الحريات وتحقق العدالة الاجتماعية. الأمر يزداد سوءاً فى ظل إدخال اقتصاد السوق بهذه الوتيرة وانسحاب الدولة من الميدان الاقتصادى، استجابة لخضوع نظم الحكم العربية لمعايير وضغوط المؤسسات المالية الدولية التى تفرض عليها سياسات اقتصادية معينة رغم تكلفتها المالية الباهظة، هذا الخضوع مع تآكل شرعية النظام السياسى فى ظل تردى الأوضاع المعيشية والسياسية، يضعف من قدرة مثل ذلك النظام على المساومة مع تلك المؤسسات الدولية ويزيد من فرص الاختراق الخارجى للمؤسسات الاقتصادية والمالية أولاً ومن بعدها اختراق المؤسسات الإعلامية والسياسية فتصبح الأوضاع مثل ما هى عليه الآن فى كثير من الدول العربية فساد سياسى واقتصادى مقرون بحكم تسلطى من ناحية وأوضاع اقتصادية واجتماعية وسياسية (ديمقراطية) شديدة السوء على المستويات الشعبية من ناحية ثانية، وتبعية متزايدة للخراج وتنامى قدرات الخارج على الهيمنة والتأثير السلبى على الإرادة السياسية الوطنية من ناحية ثالثة.

(2) اقتران الديمقراطية بالعدالة القانونية والاجتماعية

غياب العدالة القانونية والعدالة الاجتماعية يؤدى إلى انحراف عملية التحول الديمقراطى خصوصاً إذا كان التركيز يتم حول أولوية الليبرالية الاقتصادية دون الليبرالية السياسية، مثل هذا الانحراف يؤدى إلى تفويض كل محاولات الإصلاح السياسى، ولذلك فإن التوسع فى العملية الديمقراطية والليبرالية يجب أن يقترن بتوسع فى مفهوم العدالة وفى ممارسة العدالة. فالعدالة يجب ألا تقتصر على فض المنازعات بواسطة الاحتكام إلى القانون دون تمييز بل يجب أن ترتكز على مبدأ التكافل الاجتماعى فيصبح من واجب النظام الحاكم تأمين قضايا الاحتكام المنصف للقانون وتأمين الحاجات الاجتماعية للمواطنين أى بتحقيق العدالة الاجتماعية، بالحد من التفاوت الاجتماعى من ناحية وزيادة فرص المشاركة العادلة فى الثروة الوطنية من ناحية ثانية، والحرص على تحقيق الفرص المتكافئة للمواطنين من ناحية ثالثة.

(3) اقتران الديمقراطية بالمساواة والمشاركة السياسية
غياب المساواة عن الديمقراطية يجهض عملية الإصلاح السياسى، والمساواة المطلوبة هى المساواة العادلة، تماماً مثلما أن الحرية المطلوبة هى الحرية العادلة، وهنا يكتسب الإصلاح السياسى الكامل مفهومه الحقيقى. فالديمقراطية الحقيقية لا تعرف التمييز بين الأشخاص، وتقتضى المساواة أن تصبح القوانين عامة، وأن تطبق على الجميع على أساس الكفاءة الشخصية، لا على معايير المحاباة التقليدية، لذلك يتجه بعض الباحثين إلى اعتبار المساواة القيمة السياسية المناظرة للمدنية، وأن السعى من أجلها ومن أجل تحقيقها هو جوهر سياسات الإصلاح.
كما يستلزم الإصلاح السياسى وجود درجة من المشاركة السياسية لكافة القوى والاتجاهات السياسية ووجود مؤسسات سياسية جديدة مثل الأحزاب السياسية والنقابات وجماعات الضغط لتنظيم تلك المشاركة.
فالمشاركة السياسية التى تعنى بوضوح تنظيم جهود المواطنين لاختيار قياداتهم والتأثير فى صنع وترشيد السياسة العامة تختلف عن عملية “التعبئة” التى تقوم بها النخب الحاكمة فى معظم دول العالم الثالث، ذلك لأن المشاركة السياسية مع أهميتها الشديدة تواجه بالعديد من العقبات التى تحول دون تحقيقها، فالقليل من هذه الدول هى التى تسمح بالمشاركة الفعلية (الهند مثلاً)، أما غالبيتها فيفرض الكثير من القيود على ممارستها إن لم يكن يحول نهائياً دون وجودها، فليست هناك – فى معظم الحالات – أحزاب أو نقابات أو جماعات للتعبير عن الرأى وإن وجدت فإنها تكون تحت سيطرة وهيمنة الحكومات.
وغياب المشاركة السياسية يفقد هذه الدول فرصة كبيرة لتوسيع وتأكيد الولاء القومى، واستيعاب المواطنين ضمن مؤسسات النظام السياسى وتحقيق الاستقرار، ويجعلها معرضة فى كثير من الأحيان لبروز ولاءات أخرى فرعية قبلية أو عرقية أو دينية بما يؤثر سلبياً على الوحدة الوطنية ويزيد من احتمالات عدم الاستقرار السياسى. وترجع أهمية تعميق المشاركة الجماهيرية الفعالة فى النشاط السياسى إلى أنها الوسيلة الأساسية لتحقيق المساواة كقيمة سياسية عليا فى المجتمع.

(4) ترشيد السلطة
بمعنى إحلال سلطة سياسية واحدة مدنية ووطنية محل العديد من السلطات التقليدية والدينية والعائلية والعرقية. وهذا يعنى أن الحكومة يجب أن ينظر إليها كنتاج بشرى. كما أن إيجاد مثل هذه السلطة يستلزم أولاً أن يكون الإنسان هو المصدر الأساسى للسلطة العليا، ويستلزم ثانياً أن تكون الطاعة للقانون الذى ينبغى أن تكون له الأولوية فى الإلزام على غيره من أية مصادر إلزامية أخرى.
ترشيد السلطة يعنى أيضاً تأكيد السيادة الوطنية للدولة فى مواجهة أى نفوذ خارجى أى إلغاء كل مظاهر وأسباب التبعية للخارج، وفى مواجهة أى قوى أو فئات داخلية لها علاقات أو ارتباطات بالخارج، وبالتحديد التى تعتبر بمثابة الأدوات الاجتماعية للتبعية. كما يعنى كذلك تحقيق التكامل القومى بكافة أبعاده وتركيز السلطة فى أيدى الهيئات والمؤسسات السياسية القومية دون غيرها من المؤسسات الفرعية التقليدية.
وهكذا فإن كل هذه العمليات من شأنها أن تدفع بالنظام السياسى إلى اكتساب الفعالية المطلوبة وتعنى زيادة قدرة النظام السياسى على التأثير بفعالية وكفاءة فى كافة أجزاء ونواحى المجتمع، كما تعنى التمايز بين الوظائف والبنى والهياكل والمؤسسات السياسية، فالنظام السياسى فى المجتمعات المتخلفة يتسم بضعف قدرته على التعامل مع كافة التغيرات فى المجتمع، كما يتسم على حد قول “ريجز” بانعدام التخصص فى وظائفه فهى، على حد تعبيره، “وظائف مندمجة أو منصهرة معاً”، على العكس من المجتمع العصرى الذى يعرف التمايز Differentiation  والتخصص Specialization على النحو الذى يؤدى إلى وجود بنى ومؤسسات متخصصة وذات كفاءة عالية فى أدائها.
وإذا كانت فعالية النظام السياسى يمكن تعريفها بأنها القدرة على استيعاب الأنماط المتنوعة والمتغيرة للمطالب والتنظيمات السياسية، فإن هذه الفعالية تتوقف على قدرة النظام السياسى على أداء وظائفه، وعلى مدى ودرجة تمايز وتخصص الوظائف والمؤسسات والأدوار وهذا يستلزم ثلاثة شروط هى:
(أ) أن تكون مجالات التخصص المختلفة القانونية والإدارية والعلمية والعسكرية منفصلة ومستقلة كل عن الأخرى وعن عالم النشاط السياسى، وأن تنشأ لها تنظيماتها الفرعية التى تتيح لها فرصة وإمكانية أداء وظائفها على النحو المطلوب.
(ب) أن يصبح التسلسل الإدارى أكثر إحكاماً وتعقيداً وتنظيماً.
(جـ) أن يكون توزيع المناصب والسلطات على أساس الكفاءة والقدرة على الإنجاز فقط دون علاقات النسب أو القرابة أو غيرها من معايير العلاقات التقليدية.
بذلك تكون للنظام السياسى العربى الفرصة والقدرة على اكتساب الفعالية المطلوبة لأداء وظائفه. وبهذه الضمانات والضوابط الخمسة يمكن الثقة فى كفاءة تحقيق الإصلاح السياسى العربى اعتماداً على قاعدة التحول من الشمولية أو السلطوية إلى الديمقراطية والليبرالية. فالأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية العربية فى حالة أزمة حقيقية فى الإنجاز وفى الشرعية وفى الاستقرار، ولن يمكن تحقيق إصلاح سياسى حقيقى إلا ضمن إطار أوسع من الضوابط محكومة بالهدف الاستراتيجى لهذه العملية وهو بناء “الحكم الصالح” فى المجتمعات العربية باعتبار هذا “الحكم الصالح” شرطاً جوهرياً فى استراتيجية تأسيس المشروع النهضوى العربى المأمول.

ثانياً: العرب والنظام العالمى: حوار أم صراع حضارات
لا يكتمل هدف إصلاح النظم السياسية العربية ضمن الرؤية التى أفضنا فى تحديد معالمها من أجل تحقيق الأهداف المنشودة دون وضع قواعد ضابطة لعلاقة العرب بالنظام العالمى الذى يتعايشون ويتفاعلون معه. وضع مثل هذه القواعد الضابطة بقدر ما هى مهمة ضرورية لتأسيس إستراتيجية تقود العرب نحو مشروعهم النهضوى بقدر ما هى مهمة صعبة ومعقدة بسبب صعوبة الفصل بين ما هو ثقافى – اجتماعى وما هو سياسى – اقتصادى – عسكرى فى جدلية التفاعل بين الأمم والشعوب والحضارات فى النظام العالمى الذى نعيش فيه. فما يشاع عن حوار أو صراع بين الثقافات والحضارات لا ينفصل عن التفاعلات السياسية والاقتصادية والعسكرية التعاونية والصراعية التى تحدث بين الدول على مستوى النظام العالمى.
لذلك فإن السؤال عن الأنماط والتفاعلات العربية الواجبة مع النظام العالمى، لا تنفصل عن أنماط التفاعل الثقافى والفكرى بين العرب والأمم والشعوب الأخرى، فهذان النوعان من الأنماط التفاعلية وجهان لعملة واحدة أحدها يعبر عن تفاعلات مصدرها المصالح الوطنية للدول سواء كانت مصالح سياسية أم اقتصادية أم عسكرية يعبر عنها بأنماط التعاون والصراع، والآخر يعبر عن تفاعلات مصدرها القيم الثقافية والسياسية والأخلاقية بين الشعوب والأمم تحدث فى شكل حوار أو فى شكل صراع بين الثقافات والحضارات.
وانطلاقاً من هذا الإدراك يمكن الخروج بنتيجتين: الأولى، هى أن ما تمتلكه الدول من قدرات وإمكانات اقتصادية وسياسية وعسكرية، وما تحظى به من مكانة هو الذى يحدد وبدرجة كبيرة أنماط تفاعلاتها مع الدول الأخرى وهى التى تجعل من تلك الدول فاعلاً قوياً قادراً على المشاركة فى القرار الدولى أو تجعلها دولة تابعة فاقدة للإرادة وخاضعة للهيمنة. الثانية، أن مسار تفاعل الثقافات والحضارات سواء كان هذا التفاعل حواراً أم صراعاً تحكمه القوانين نفسها التى تدير النظام الدولى، وهى قوانين تخضع دائماً إلى توازن القوى أكثر من توافق القيم وتقارب الثقافات.
وفق هذا الإدراك من الضرورى أن نسأل نحن العرب: كيف لنا أن نتفاعل مع هاتين النتيجتين؟ والإجابة أن نضع أيدينا على حالة النظام العالمى الراهن فى أوضح تجلياته الحديثة وخاصة الطموح الأمريكى لفرض نظام إمبراطورى بديل للنظام العالمى ثنائى القطبية أولاً، ثم نبحث فى انعكاسات هذا التوجه الذى عبر عن نفسه فى عالمنا الإسلامى بدعوة الشرق الأوسط الجديد، على حالة الحوار أو الصراع بين الحضارات ثانياً، وأخيراً أن نحدد موقفنا من هذه الحالة وشروطنا التى تتوافق مع مصالحنا القومية فى أجندة أى دعوة للحوار الثقافى والحضارى.

1- النظام العالمى من الواقعية إلى الإمبراطورية
    لسنوات طويلة ظل تحليل النظام العالمى يتراوح بين مقولات ثلاث نظريات مهمة: الواقعية والليبرالية والراديكالية. ولقد هيمن المنظور الواقعى على حقل العلاقات الدولية خلال فترة الحرب الباردة. وتفترض الواقعية أن الشؤون الدولية عبارة عن صراع من أجل القوة بين دول تسعى لتعزيز مصالحها بشكل منفرد، وهى بذلك تحمل نظرة تشاؤمية حول آفاق تقليص النزاعات والحروب، غير أنها ساعدت على تزويدنا بتفسيرات بسيطة لكنها قوية للحروب، والتحالفات، والإمبريالية، وعقبات التعاون وغيرها من الظواهر الدولية. كما أن تركيزها على النزعة التنافسية كان متناسبا جدا مع جوهر الصراع الأمريكى - السوفييتى.
الواقعية ليست نظرية واحدة بطبيعة الحال، كما أن الفكر الواقعى تبلور بالأساس خلال فترة الحرب الباردة. فالواقعيون الكلاسيكيون مثل هانس مورجينتو وراينهولد نايبور يعتقدون أن الدول مثلها مثل البشر تمتلك رغبة فطرية فى السيطرة على الآخرين، وهو ما يقودها نحو التصادم والحروب، وقد أبرز مورجينتو فضائل نظام توازن القوى التقليدى المتعدد الأقطاب، ويرى أن نظام الثنائية القطبية الذى برزت فيه الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتى يحمل العديد من المخاطر.
وبالمقابل، فإن النظرية الواقعية الجديدة التى  يتزعمها كينيث وولتز تغفل الطبيعة البشرية وتركز على تأثير النظام الدولى، فبالنسبة لوولتز، فإن النظام الدولى يتشكل من مجموع القوى الكبرى، كل منها تسعى للحفاظ على وجودها. فهذا النظام فوضوى (بمعنى انتفاء سلطة مركزية تحمى كل دولة من أخرى) وفى ظله  نجد أن كل دولة لا تهتم سوى بمصالحها، غير أن الدول الضعيفة تسعى لإيجاد نوع من التوازن بدلا من الدخول فى صراع مع الخصوم الأقوياء. وأخيرا، وخلافا لمورجينتو فإن وولتز يعتقد أن النظام الثنائى القطبية أكثر استقرارا من النظام المتعدد الأقطاب.
إحدى الإضافات التنقيحية المهمة للواقعية تتمثل فى ظهور التوجهين  الهجومى-الدفاعى ويتزعمهما كل من روبرت جرفيس، وجورج كويستر، وستيفن فان إيفيرا. هؤلاء الباحثون يعتقدون بتزايد احتمالات الحرب بين الدول كلما كانت  لدى بعضها القدرة على غزو دولة أخرى بسهولة. لكن عندما تكون القدرات الدفاعية أكثر تيسرا من القدرات الهجومية فإنه يسود الأمن وتزول حوافز النزعة  التوسعية. وعندما تسود النزعة الدفاعية، ستتمكن الدول من التمييز بين الأسلحة الدفاعية والأسلحة ذات الطابع الهجومي، آنئذ يمكن للدول امتلاك الوسائل الكفيلة بالدفاع عن نفسها دون تهديد الآخرين، وهى بذلك تقلص من آثار الطابع الفوضوى للساحة الدولية.
أما الواقعيون ذوو النزعة الدفاعية، فيرون أن الدول تسعى فقط للحفاظ على وجودها، بينما تقدم القوى الكبرى ضمانات لصيانة أمنها عن طريق تشكيل تحالفات توازنية بانتقاء آليات دفاعية عسكرية (مثل القدرات النووية الانتقامية).  وليس من المفاجئ أن نجد وولتز وغيره من الواقعيين الجدد الذين يرون أن الولايات المتحدة  كانت آمنة فى أغلب فترات الحرب الباردة يتخوفون من إمكانية تبديد الولايات المتحدة لهذا  المكسب فى حال تبنيها لسياسة خارجية عدائية. وهكذا، فإنه وبنهاية الحرب الباردة تحولت الواقعية التشاؤمية لمورجينتو والمستمدة من الطبيعة البشرية إلى تبنى نبرة أكثر تفاؤلية.
ولقد جاء التحدى الأساسى للواقعية من عائلة النظريات الليبرالية، التى ترى إحدى اتجاهاتها أن الاعتماد المتبادل فى الجانب الاقتصادى سوف يثنى الدول عن استخدام القوة ضد بعضها البعض، لأن الحرب تهدد حالة الرفاه لكلا الطرفين.
اتجاه آخر منسوب للرئيس الأمريكى الأسبق وودرو ويلسون، يرى أن  انتشار الديمقراطية يعتبر مفتاحا للسلام العالمى، ويستند هذا الرأى إلى الدعوى القائلة بأن الدول الديمقراطية أكثر ميلا للسلام من الدول التسلطية. وهناك اتجاه ثالث، وهو الأحدث، يرى أن المؤسسات الدولية مثل وكالة الطاقة الذرية وصندوق النقد الدولى، يمكن أن تساعد للتغلب على النزعة الأنانية للدول عن طريق  تشجيعها على ترك المصالح الآنية لصالح فوائد أكبر للتعاون الدائم. ورغم أن بعض الليبراليين احتفوا بالفكرة التى تعتبر أن الفاعلين عبر القوميين - خاصة الشركات المتعددة الجنسيات - استحوذوا تدريجيا على سلطات الدول فإن الليبرالية بصفة عامة ترى فى الدول فاعلين مركزيين فى الشؤون الدولية. وفى كل الحالات فإن جميع النظريات الليبرالية تطغى عليها النزعة التعاونية  بشكل  يتجاوز بكثير الاتجاه الدفاعى فى الواقعية الجديدة، على أن كلا منهما يقدم لنا توليفة مختلفة عن كيفية  تعزيز هذا التعاون.
وحتى نهاية الثمانينيات كانت الماركسية بمثابة البديل الأساسى للاتجاهين المهيمنين على العلاقات الدولية (الواقعية والليبرالية)، وقد تجاوزت الماركسية نظرة الواقعيين والليبراليين للنظام الدولى كمعطى مسبق، إلى تقديم تفسير مختلف للنزاعات الدولية، بل وأكثر من ذلك، فقد زودتنا بمسودة  تتضمن  تحويلا جوهريا للنظام الدولى.  
فالنظرية “الماركسية التقليدية” ترى أن الرأسمالية هى السبب الأساسى للنزاعات الدولية. فالدول الرأسمالية تحارب بعضها كنتيجة لصراعها الدائم من أجل الربح. كما أنها تحارب الدول الاشتراكية لأنها ترى فيها بذور فنائها. وبالمقابل، فإن النظرية الماركسية الجديدة “التبعية” تركز على العلاقات بين القوى الرأسمالية الأكثر تطورا والدول الأقل تطورا، إذ ترى أن الأولى أصبحت أكثر  غنى باستغلال مستعمراتها مدعومة فى ذلك بتحالف غير مقدس مع الطبقات  الحاكمة للدول السائرة فى طريق النمو. وهكذا، فإن الحل فى نظرها يكمن فى  الإطاحة بهذه النخب الطفيلية وتأسيس حكومات ثورية تلتزم بتنمية ذاتية.
وبانتهاء الحرب الباردة أصبحت الدراسة الأكاديمية للشؤون الدولية أكثر تنوعاً بحيث برزت الأصوات غير الأمريكية، كما حصل عدد كبير من المناهج والنظريات على الشرعية. بل وأكثر من ذلك، فقد أدرجت مواضيع جديدة فى أجندة الباحثين على الصعيد العالمى، ومن بينها النزاعات الإثنية، والبيئة ومستقبل  الدولة.
ومع ذلك، فإن الاتجاه نحو التجديد لم يكن فى حقيقة الأمر سوى نسخة مكررة للقديم. وبدلا من حل الصراع القائم بين مختلف المقاربات النظرية المتنافسة، فإن نهاية الحرب الباردة لم يعقبها سوى إطلاق سلسلة جديدة من النقاشات، ثم إن اعتناق أغلب التجمعات لنفس القيم المتعلقة بالديمقراطية، والسوق الحرة، وحقوق الإنسان لم يؤد إلى نوع من الوفاق، بل إن الباحثين الذين عكفوا  على دراسة هذه التطورات هم الآن أكثر انقساما من ذى قبل فى ظل التنازع الشديد بين المدرسة الواقعية التى تعطى للقوة كل الأولوية فى تسيير العلاقات الدولية والمدرسة الليبرالية التى طورت ما سمى بـ “نظرية السلام الديمقراطى”.
* فنظرية “السلام الديمقراطى” تعتبر تحويرا للطرح المبكر القاضى بأن الدول الديمقراطية نادرا ما تحارب بعضها البعض بالرغم من أنها قد تدخل فى حروب ضد دول أخرى. وقد قدم لنا بعض الباحثين من أمثال مايكل دويل، وجيمس لى رى وبروس راسيت، عددا من التفسيرات فى هذا الاتجاه، ومن أكثرها انتشارا تلك القائلة بأن الدول الديمقراطية تعتنق ضوابط التوفيق التى تمنع استعمال القوة بين أطراف تعتنق نفس المبادئ.
هذا الانقسام أو التنازع النظرى بين اتجاه يعتمد القوة فى تسيير العلاقات الدولية وآخر يدعو إلى التحول الديمقراطى لنشر السلام فى العالم وجد ضالته فى السنوات الأخيرة فى تيار المحافظين الجدد فى الولايات المتحدة الذى صاغ “مبدأ بوش” عام 2002 الذى مزج بين استخدام القوة، والقوة المفرطة، والدعوة إلى الديمقراطية كغطاء لاستخدام هذه القوة التى اعتمدت استراتيجية “الضربات الاستباقية” فى شن الحرب الأمريكية الكونية ضد الإرهاب الذى حمل عادة اسم “الإرهاب الإسلامى” و”الدول الفاشلة” على الأخص فى العالم العربى والشرق الأوسط المتهمة بـ “تفريخ الإرهابيين”. إسقاط هذه الدول الفاشلة وإقامة دول ديمقراطية بديلة والحرب ضد الإرهاب والدول الداعمة له، كل ذلك جاء ضمن النزوع الأمريكى الجديد نحو فرض الإمبراطورية الأمريكية على العالم، وتحويل النظام العالمى إلى نظام الإمبراطورية الأمريكية.
لم يكن غريباً فى ظل هذا المناخ الذى بدأت بشائره فى أعقاب انتهاء الحرب الباردة أن تكون له تعبيراته الثقافية على نحو ما جاء على لسان كل من المستشرق الأمريكى برنارد لويس وعالم السياسة الأمريكى صموئيل هنتنجتون.
* ففى مقال له نشر فى مجلة (The Atlantic Monthly) فى سبتمبر 1990 حول حتمية الصراع بين الإسلام والغرب أكد لويس حتمية هذا الصراع باعتبارهما نقيضين لا مجال للحوار بينهما، أما صموئيل هنتنجتون فقد تحدث صراحة عن “الصراع بين الحضارات” فى مقالته الشهيرة فى صيف 1993 بمجلة (Foreign Affairs) حيث اعتبر أن الثورة المركزية للصراع فى المستقبل ستكون بين الغرب والحضارة الإسلامية منبهاً إلى الخلفية التاريخية العميقة لهذا الصراع بدءاً من سقوط الإمبراطورية الرومانية على يد العرب وقيام الحروب الصليبية، وسيطرة الأتراك على القسطنطينية (اسطنبول)، وانتهاءً بظهور القومية العربية والحركات الأصولية... الخ. فى هذه المقالة التى طورها هنتنجتون فيما بعد إلى كتاب حمل العنوان نفسه حرص على التمييز الحاسم بين الغرب والباقى (The West and The Rest) ويعنى بذلك باقى الأمم والشعوب والثقافات.
كان الاستعلاء واضحاً فى مقولاته بقدر ما عبر عنه الفكر الاستراتيجى الأمريكى من استعلاء فى الدعوة إلى الإمبراطورية الأمريكية.
إن من يحلل بدقة الخطاب الغربى الذى جاء تلقائيا كرد فعل فورى لـ “يوم الهول العظيم” (11 سبتمبر 2001)، حين حدث الهجوم المفاجئ على المعاقل الاقتصادية والسياسية والعسكرية الأمريكية ورموزها الساطعة التى كانت محل فخرها، باعتبارها مؤشرات مبهرة للقوة الفائقة التى تتمتع بها الإمبراطورية الأمريكية، يدرك أن هذا الخطاب الذى ترددت أصداؤه فى واشنطن ولندن وباريس، على ألسنة الرؤساء بوش وشيراك وبلير، يعيد إنتاج الخطاب الغربى التقليدى الذى ساد منذ عصر التنوير، والذى قام على أساسه مشروع الحداثة الغربية كله، ويقوم على التفرقة بين البربرية والمدنية. والبربرية - فى هذا الخطاب- تميز شعوب الأرض جميعا، أما المدنية فهى التى يتصف بها الغرب الظافر الذى خرج منتصرا من غياهب القرون الوسطى، مفتتحا عصر الثورة الصناعية، ومزودا بالعلم والتكنولوجيا، وبالآلة الحربية الحديثة، التى سمحت له بالقيام بأكبر عملية استعمارية فى التاريخ الحديث، لاحتلال بلاد العالم الثالث وخصوصا فى أفريقيا وآسيا.
هذا هو الخطاب العنصرى ذاته الذى ابتكر نظرية “عبء الرجل الأبيض” فى تمدين الشعوب البربرية الغارقة فى جهالاتها، والسادرة فى تخلفها. لقد كانت هذه النظرية وغيرها من الإدراكات الغربية المتحيزة إزاء شعوب العالم غير الغربى وثقافاته، هى الغطاء الأيديولوجى لإضفاء الشرعية على الاستعمار، وهى بذاتها التى أصبحت المكونات الرئيسية للنظرية العنصرية التى سادت طوال القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.
غير أن التطورات الحديثة فى أوروبا فى العقود الأخيرة، وما أدت إليه التغيرات الاقتصادية، والتطورات التكنولوجية، حفزت على انبعاث النظرية العنصرية، وإن كانت فى ثوب جديد. واتخذت هذه العنصرية صورا وأشكالا شتى سياسية واجتماعية وثقافية. فى الجانب السياسى شهدت بعض البلاد الغربية وعلى الأخص فرنسا، صعودا للحزب اليمينى العنصرى الذى يقوده جان ميرى لوبان والذى أدى به إلى النجاح فى الانتخابات ودخول حزبه بنسبة كبيرة فى البرلمان الفرنسى. كما شهدت ألمانيا أيضا بروزا واضحا للجماعات والأحزاب العنصرية.
 وتجمع هذه الأحزاب والجماعات على اتخاذ موقف سلبى من العمال والمهاجرين من أصول عربية وإسلامية وتركية، ليس فقط ذلك، بل تتصاعد الدعوات إلى طردهم من البلاد. وفعلا تأثرت الحكومات بهذه التيارات وعدلت من تشريعاتها لتقييد الهجرة، وترحيل أعداد كبيرة من المهاجرين على أسس قانونية مفادها مخالفتهم لقوانين الإقامة والهجرة.
أما التجليات الاجتماعية العنصرية الغربية الجديدة، فتبدو فى محاولة الهيمنة على أسلوب الحياة للمهاجرين والمواطنين من أصول عربية وإسلامية، من خلال سياسات التهميش والاستبعاد والقهر الاجتماعى. وتبرز التجليات الثقافية للعنصرية فى تشويه صورة الإسلام والمسلمين والحرب ضدهم.
هذا الانكفاء حول النزعة العنصرية التسلطية وبالذات من جانب الولايات المتحدة جاء متزامناً، وربما كرد فعل لظهور العصر الإمبراطورى الأمريكى خصوصاً بعد أن تحولت القوة الأمريكية إلى قوة فائقة (Hyper Power) غداة نشوة النصر المشهود فى الحرب الباردة. وتم التعبير عن ذلك فى الوثيقة التى أعدتها مجموعة بول وولفوتيز فى وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) فى عهد الرئيس بيل كلينتون وأثارت ردود فعل سلبية شديدة حتى فى أوساط الحلفاء الأوروبيين بسبب ما أظهرته هذه الوثيقة من نزعة تسلطية استعلائية أمريكية وحرص على الهيمنة وإقصاء كل القوى المنافسة حتى ولو كانت حليفة وعلى الأخص الاتحاد الأوروبى.
وقتها تم سحب هذه الوثيقة، ولكن وولفوتيز وفريقه من تيار المحافظين الجدد الذين سيطروا على القرار داخل البنتاجون أولاً، والإدارة ثانياً فى عهد الرئيس جورج بوش (الابن) أعادوا مجدداً صياغة تلك الوثيقة وبالذات بعد انفجارات 11 سبتمبر مع بعض التعديلات وحملت اسم “مبدأ بوش”.
مجمل هذه الأفكار تدور حول حق التمتع الأمريكى بالقوة والتفرد بالنفوذ العالمى، ومنع ظهور منافس خطر على الولايات المتحدة كما حدث مع كل الإمبراطوريات وذلك بالاستيلاء على الحضارة الإنسانية فيما عبر عنه حينئذ عالم السياسة الأمريكى فرانسيس فوكوياما بـ “نهاية التاريخ” بما يعنى تمكين الولايات المتحدة من تأكيد سطوتها الأبدية بإظهار تفوقها وخصوصا السلاح، وهكذا وقعت استعراضات التفرد الأمريكى فى كل الميادين ابتداءً من استثناء كل أمريكى من أى مساءلة دولية مهما فعل، وإلى تميز التجارة الأمريكية فى كل الأسواق بصرف النظر عن حرية السوق، وإلى الاستئثار بحقوق الملكية العلمية والفنية فى كثير مما كان متاحا فى مجمع الحضارة الأكبر قبل أن تظهر الدولة الأمريكية من الأصل، ثم إنها   لا تقبل أن تردع نفسها عن تلويث البيئة تملصا من قيود تفرض على غيرها حرصا على كوكب الأرض نفسه، كما أنها تطلب احتكار موارد الطاقة وليس مجرد النهم فى استهلاكها، ثم زاد أن الإمبراطورية الأمريكية تريد الآن أن تستولى بوضع اليد على الحضارة الإنسانية بأسرها لتختم طابعها على المحيط بأسره تأكيدا نهائيا وتقنينا شرعيا لتفوق أبدى خطط له المحافظون الجدد.
وضمن هذه المحاولة لجأت الإمبراطورية إلى حروب رخيصة تستغل بطش الصدمة والرعب (Shock &Awe) فى مناطق ضعيفة ورخوة بأقل التكاليف، كى تظهر هول الجحيم الذى أعدته لمن يعصى، وكذلك تحولت أفغانستان وتحول العراق إلى ساحات دم ولهب مأساتها أنها لا تعرف فى معظم الأحيان هدفا واضحا أو خطة استراتيجية مدروسة وعلى أى حال فقد جاءت النتائج الواقعة مغايرة للمطامع والغزوات.
نتائج الحرب الأمريكية فى العراق، بل وحتى فى أفغانستان تؤكد أن النصر مازال بعيداً وربما قد أضحى مستحيلاً وبالذات مع اقترانه بهدف “الديمقراطية” التى تبدو أبعد ما تكون عن ما تسعى إليه الولايات المتحدة فى العراق وأفغانستان.
إن ما تهدف إليه الولايات المتحدة ضمن مشروعها الإمبراطورى هو فرض السيطرة والهيمنة على الشرق الأوسط بما يضع نهاية حقيقية لأى فرص لحوار حقيقى مشترك مع العرب والمسلمين بناء على ما كشفت دعوة تأسيس “نظام الشرق الأوسط الكبير”.

2 – الشرق الأوسط الكبير: صدام أم حوار؟
تزامن طرح مشروع الشرق الأوسط الكبير مع المسعى الأمريكى لفرض المشروع الإمبراطورى على المنطقة من خلال الدعوة إلى إعادة هندسة الشرق الأوسط التى اعتبرت الحرب على العراق هى أول مراحلها. لقد اعتبر منظروا تيار المحافظين الجدد أن الحرب الأمريكية على الإرهاب هى الحرب العالمية الرابعة باعتبار أن الحرب الباردة هى الحرب العالمية الثالثة، وأكدوا أن الحرب على العراق هى الخطوة الأولى ضمن مشروع إعادة هندسة الشرق الأوسط.
وقد عبر الكثير من مفكرى هذا التيار عن هذا الطموح على نحو ما أوضح ريتشارد كراوتهامر، وهو أحد أبرز المعبرين عن هذا التيار فى شرحه لمطلب التغيير وإعادة رسم الخريطة الإقليمية للشرق الأوسط. فقد قال كراوتهامر أمام معهد “ أمريكان انتر برايز إنستتيوت”: “إن الولايات المتحدة الآن فى صراع مع العالم العربى – الإسلامى مثل الصراع الذى خاضته فى سنوات الحرب الباردة مع العالم الشيوعى”. معنى هذا أنه يعبر عن مشروع يضع هذه المنطقة على خط مواجهة معهم، ويعتبرها بتكوينها الحالى مصدر الخطر عليهم، ومن حقهم التدخل فيها لإعادة تشكيلها بالصورة التى يرونها منزوعة الخطر من وجهة نظرهم، من خلال إعادة صياغة المجتمعات والأنظمة العربية والنظام العربى وأغلب العالم الإسلامى، لكنه يتعامل مع المنطقة أيضاً كمصدر للكسب من خلال تجيير كل ثرواتها لخدمة المشروع الإمبراطورى الأمريكى من ناحية ولخدمة الكيان الصهيونى، وذلك بالربط بين الديمقراطية والسلام.
بدايات التفكير فى هذا المشروع ترجع إلى عملية البحث عن صيغة أفضل للحفاظ على المصالح والأهداف الأمريكية طويلة المدى والتى تتم من خلال تقريرى الاستراتيجية الشاملة اللذين تعدهما كل من وزارة الدفاع ووكالة الاستخبارات كل عقد من الزمان لرسم الخطوط العريضة للاستراتيجيات الأمريكية المستقبلية على ضوء توقعاتهم لخريطة العالم خلال المرحلة التالية .
وإذا كان هذان التقريران لم يركزا بشكل محدد على العالمين العربى والإسلامى، فإن أفكاراً أخرى أهم تم الدفع بها من خلال مساهمات عدد من أبرز مراكز البحوث والدراسات التى لها صلات قوية بمراكز صنع القرار فى الولايات المتحدة . فخلال مرحلة ما بعد 11 سبتمبر 2001 بدأت المشروعات تتوالى بداية بما سمى بـ “ مشروع مارشال جديد للشرق الأوسط” والمعروف باسم “الشراكة الأمريكية الشرق أوسطية”، وامتداداً لمشروع “دمقرطة العالم العربى” وغيرها، وكانت أغلبها تركز على ثلاثة محاور أساسية هى : تغيير المنطقة سياسياً واقتصادياً وثقافياً، على أساس تعريف الولايات المتحدة لمصالحها فى محيط هذا الشرق الأوسط الكبير .
    مؤسسة “راند” للأبحاث، مثلاً، قدمت تعريفاً مهماً لهذه المصالح يشمل :
حماية بقاء إسرائيل، والتوصل لسلام فى الشرق الأوسط، واستمرار تدفق النفط بسعر مناسب، ومنع قيام أنظمة قوية تعادى الولايات المتحدة فى أنحاء المنطقة، ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل، والدفع بعملية إصلاح سياسى واقتصادى ومكافحة الإرهاب. وهناك دراسات أخرى قدمت إسهامات بشأن تلك الأهداف ووسائل تحقيقها، مثل الدراسة التى أجراها المعهد الدولى للدراسات الاستراتيجية والتى أشرف عليها فرانسوا هايبورج وحملت عنوان “أى استراتيجية نتبع من أجل شرق أوسط كبير؟” ، أو مثل الدراسة التى أصدرها معهد أبحاث السياسة الخارجية والتى حملت عنوان “الشرق الأوسط الكبير عام 2005” والتى كتبها آدم جار فينكل، وكتاب زالماى خليل زاد بعنوان “مصادر الصراع فى القرن الواحد والعشرين – الاستراتيجية الأمريكية ومصادر المناطق” الصادر ضمن مطبوعات “راند” عام 1998.
    بعض هذه الدراسات روج لمفهوم “الشرق الأوسط الكبير” باعتباره الحل الأمريكى الأمثل من منظور السلبيات والمخاوف، أى أنه الحل الأمثل لمواجهة السلبيات والمخاوف والمخاطر التى تتهدد الولايات المتحدة ومصالحها وأهدافها الاستراتيجية، والبعض الآخر روج للمفهوم باعتباره الحل الأمريكى الأمثل لتحقيق أعلى درجات المكاسب .
    فوفقاً لمشروع معهد أبحاث السياسة الخارجية “الشرق الأوسط الكبير لعام 2005” الذى كتبه آدم جار فينكل وساهم فيه كل من وارن رودمان وآن ارمسترونج ونورمان أوجيستن وجون دانس وجون كالفن، ونيوت جينجريتش ولى هاملتون وجيمس شليزنجر وغيرهم، فإن الشرق الأوسط الكبير هو العالم العربى وإسرائيل وتركيا وإيران وآسيا الوسطى والقوقاز، وهى المنطقة التى تصادف أن تكون حاضنة لأكبر احتياطيات النفط والغاز، وأن تكون مسرحاً لصراعات كل القوى الصاعدة والطموحة فى العالم، وهى المنطقة التى تضم أيضاً حلفاء الولايات المتحدة الأساسيين ومصالح الولايات المتحدة الأكثر أهمية وهى نفسها المنطقة التى شهدت أبرز محاولات تملك أسلحة الدمار الشامل، وشهدت آخر الحروب الكبرى التى قادتها الولايات المتحدة لتأكيد وجودها ونفوذها بعد انهيار النظام العالمى القديم، وهى المنطقة الوحيدة فى العالم التى شهدت فى العقد الأخير تمديد الوجود العسكرى الأمريكى المباشر على أراضيها، بغض النظر عما إذا كان هذا الوجود سيمتد أو سيتقلص فى المستقبل .
    الشرق الأوسط الكبير – وفق هذا المشروع أيضاً – هو المنطقة التى تشكل مصدر الأهمية ومصدر القلق فى ذات الوقت، ليس بسبب الصراع العربى – الصهيونى فقط، ولكن أيضاً بسبب عشرات الصراعات الموازية. وهو المنطقة التى تحتوى على أعلى درجات الاستبداد السياسى والأنظمة الفاشلة غير الفعّالة، وتشكل موطناً للأصولية المسلحة شديدة الخطر على الحضارة الغربية ومجتمعاتها، وهو أيضاً مركز الأنشطة الخارجة عن الشرعية القانونية وبؤر الإجرام فى العالم خاصة زراعة وتجارة وتهريب المخدرات، وهو من أهم مراكز تجارة السلاح، وعلاوة على هذا كله هو أرض الصراعات الإثنية والعرقية والطائفية. والنتيجة التى يراها آدم جار فينكل، هى أن ترك الأمور فى منطقة الشرق الأوسط الكبير إلى التطور التلقائى – أى دون تدخل لضبط التفاعلات – سيعقد الأمور كثيراً، أى أن المطلوب هو التدخل الأمريكى لضبط هذه التفاعلات، من أجل درء الأخطار .
المنظور الآخر الذى يفرض “الشرق الأوسط الكبير” كحل أمريكى بدافع من تعميق المكاسب، يطرحه زالماى خليل زاد وهو من أهم خبراء الإدارة الأمريكية الحالية ومهندس الحرب الأمريكية فى أفغانستان والسفير الأمريكى الأسبق فى العراق، فهو يستعمل تعبير “الشرق الأوسط الكبير” بوصفه يتعلق بالمنطقة ذات الأهمية المركزية للمصالح الجيوستراتيجية الأمريكية والتى تتعرض فيها هذه المصالح للخطر، وحيث تتصاعد الصراعات، ويحتاج الأمر إلى المزيد من التدخل العسكرى الأمريكى. كذلك فإن تطور الأوضاع فى هذه المنطقة وتفاقم مضاعفاتها يمكن أن ينتهى – على المدى البعيد – بتأثيرات سلبية بالغة ليس على أصحابها فقط وإنما على الاستقرار والازدهار العالمى، وفى القلب منه المصالح الأمريكية .
ويعتقد زالماى خليل زاد أن تعبير “الشرق الأوسط الكبير” أصبح ضرورياً لالتقاط ونظم المحاور الأساسية التى تميز البيئة الاستراتيجية المتجانسة لهذه المنطقة والتى تميزها عما عداها، والتى تصبح ، يوماً بعد يوم، أكثر أهمية، وذلك لتآكل الحدود الفاصلة بين أمن الشرق الأوسط والأمن الأوروبى والأمن الاورو- آسيوى . هذا التآكل حدث نتيجة لتطور وانتشار التقنيات والأنظمة العسكرية الحديثة ونمو التداخل والاعتمادية الاقتصادية والسياسية المتبادلة بين هذه المناطق، وتمدد الظواهر المختلفة مثل الإرهاب العابر للمناطق، وتهريب المخدرات والسلاح، وتدفق اللاجئين.

تنويه | المقالات المنشورة في الموقع تمثل رأي صاحبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي أسرة الموقع

جميع الحقوق محفوظة لموقع جامعة الأمة العربية © 2021 - 2013