علاقة الدين بالدولة في زمن الربيع العربي التقارير والمقالات | علاقة الدين بالدولة في زمن الربيع العربي
تاريخ النشر: 03-08-2017

بقلم: الدكتور داؤود خيرالله
عند الحديث عن علاقة الدين بالدولة، لا يمكن اعتماد مقياس واحد لتقويم هذه العلاقة في جميع الدول العربية. فمنها من اعتمد الدين والمؤسسات الدينية ركائز أساسية لنظام الحكم ومصدراً أساسياً للتشريع، إذ يستمد الحاكم شرعيته من مؤسسات دينية لا من اختيار شعبي (كالمملكة العربية السعودية)، ومنها من أعلنت دساتيرها أنّ دين الدولة هو الإسلام، وأنّ الشريعة هي مصدر أساسي للتشريع، لكن دون أن تعطي لذلك ترجمة فعلية في الواقع المعيش أو حتى معنىً توضيحياً للآثار القانونية لمثل هذه العبارات (وهذا ينطبق على معظم الدول العربية). ومنها من اعتمد الإسلام ديناً لرئيس الدولة كسوريا. أما لبنان، فلم يذكر دستوره للدولة أو رئيسها ديناً، أو أنّ الدين هو من مصادر التشريع، إلا أنّه اعتمد الطوائف والمذاهب الدينية أساساً لنظامه السياسي، وذلك، على ما يبدو لضمان الانفجار السياسي الموسمي، ومنع الوحدة بين أبنائه.
إن معظم الدول العربية اعتمدت، ولو بالشكل، مؤسسات الدولة الحديثة ودساتير مستوحاة أو منقولة عن مؤسسات ودساتير دول غربية، لكنّها فشلت في زرع أسس الدولة الحديثة وإقامة حكم ديموقراطي أساسه مشاركة شعبية في الحكم، حيث الفرد يتمتع باستقلال معنوي، وهو سيّد القيم ومصدر القوانين جميعاً، وحيث الحكم هو للقانون لا لفرد أو لقبيلة أو طائفة أو مذهب. ولعل غياب مفهوم الشرعية القانونية العقلانية عن الوعي الاجتماعي العربي هو السبب الرئيس لأزمات مستدامة للشرعية في معظم، إن لم يكن جميع، أقطار العالم العربي، وهو سبب مهم كذلك للفجوة التي تزداد عمقاً واتساعاً بين الحاكم والمحكوم.
منذ منتصف القرن التاسع عشر، أخذت نخب من المجتمعات العربية وكذلك من داخل الإمبراطورية العثمانية المهيمنة في حينه على أقطار عربية عدة، أخذت تتأثر بالثقافة السياسية السائدة في الدول الأوروبية والقيم التي تقوم عليها مؤسسات الدولة الحديثة كضمانة أساسية لحقوق الإنسان والمواطن. زاد ارتباط المجتمعات العربية بمؤسسات الدولة الحديثة، ولو بالشكل، عن طريق الدول الاستعمارية المنتدبة على معظم الأقاليم العربية، وبخاصة تلك التي تقع على حوض المتوسط. وترك المستعمر دساتير وقوانين للدول التي استقلت، لا يزال بعضها ساري المفعول حتى يومنا هذا، وما تعٌدل منها كان مستوحى من قوانين ومؤسسات غربية. باستثناء الأحوال الشخصية، لم يكن للدين والمؤسسات الدينية تأثير يذكر في التطور السياسي والقانوني في معظم الدول العربية، ما خلا طبعاً المملكة العربية السعودية وبعض دول الخليج التي لم تظهر للوجود إلا في النصف الثاني للقرن العشرين.
ربما بالإمكان القول إنّه حتى منتصف السبعينيات من القرن الماضي لم يكن للدين، وبالتحديد لمؤسسات الإسلام السياسي، أثر يذكر في حياة وسلوك الدولة في العالم العربي، وكان الخطاب القومي هو الغالب في رسم السياسة إن على الصعيد الإقليمي أو العربي. مع وفاة جمال عبد الناصر أطلق أنور السادات الذي تسلّم الحكم من بعده في مصر، يد الإسلاميين بهدف التخلص من إرث عبد الناصر. ترافق ذلك مع تعاظم شأن الثروة النفطية وجعلها والدين من قبل دول الخليج وسيلة من أجل توسيع نفوذ هذه الدول، وفي طليعتها المملكة العربية السعودية. كذلك بعد الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، أخذ الدين وبالتحديد المؤسسات ذات المرجعية الدينية يؤدي دوراً أساسياً في مصير الدولة الإقليمية وفي مصير العالم العربي كافة.
قبل الثورة الإيرانية كان دور المؤسسات الدينية والقيمين عليها منحصراً في المجال السياسي بتبرير وإضفاء الشرعية على أعمال الحاكم العربي بما في ذلك تعاونه وانصياعه للدول الغربية. لم يكن الغرب ينظر إلى الإسلام كعدو، بل على العكس من ذلك قام الغرب بتوظيف الإسلام لتحقيق مآرب سياسية. فالطرح السائد كان أنّ الإسلام هو الحليف الطبيعي للغرب المؤمن في وجه الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي الملحد. وهكذا رعت الولايات المتحدة وساعدت تنظيم القاعدة على إخراج الاتحاد السوفياتي من أفغانستان.
نشرت صحيفة «واشنطن بوست» على أثر دخول القوات الأميركية الأراضي الأفغانية إثر اعتداء الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001 خبراً عن العثور على كتيبات طبعتها ووزعتها وكالة التنمية الأميركية USAID باللغة الأفغانية تحتوي آيات قرآنية تحض على الجهاد، وذلك لتسهيل مهمة القاعدة والثوار الأفغان في تجنيد وتحفيز الأفغان لمحاربة السوفيات. فعندما نرى الحملة المسعورة من الغرب على الإسلام، وجعله مصدراً للإرهاب وتصويره عدواً للحضارة الغربية في طرح صراع الحضارات، السؤال الذي يتبادر للذهن هو متى انقلب الإسلام من صديق وحليف للغرب إلى عدو؟
لقد أصبح الإسلام في منزلة العدو للغرب بعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي، وبالتالي إثر استنفاد دوره في هذه الحرب، لكن بالتحديد أصبح الإسلام عدواً بعدما اتخذت بعض المنظمات ذات المرجعية الدينية موقفاً عدائياً من إسرائيل، وانخرطت في مقاومة فاعلة لها. وبهذا الصدد لا بد من الإقرار بأنّه كان للثورة الإسلامية في إيران دور أساسي في إعادة تظهير صورة الغرب الظالم الداعم لإسرائيل وأطماعها التوسعية. يبدو أنّ بعض منظري الغرب والصهاينة على وجه التحديد، قد أدرك أنّ الدين الذي يمكن توظيفه كمحفز لصد العدوان ورفع الظلم، يمكن كذلك توظيفه في إضعاف المجتمع عن طريق القضاء على وحدته وتمزيق النسيج الاجتماعي فيه. وهناك أدلة تاريخية عديدة على ذلك.
العلة التي يدركها ويستغلها القيمون على المصالح الصهيونية والغربية تكمن في التناقض الذي هو في صلب مقولة «الإسلام دين ودولة»، فالدين ثابت والسياسة تتغيّر. الدين يقين واعتقاد والسياسة حوار دائم مستمر تتبدل بتبدل الأحوال والمصالح. ويسهل توظيف المؤسسات ذات المراجع الدينية لإضعاف المجتمع وتدمير وحدته خاصة عندما يكون هذا المجتمع مؤلفاً من عدة طوائف ومذاهب وهويات وانتماءات فرعية، وبغياب ثقافة سياسية متجذرة في المجتمع لمفهوم الدولة والوطن. وإذا كانت الهيمنة على حكم الفرد هي أسهل من الهيمنة على حكم ديموقراطي يعكس المصالح الشعبية والوطنية في مؤسسات متعددة، فإنّ التاريخ السياسي العربي يسهل ذلك، لأنّه لم يعرف الصراع من أجل الحد من سلطة الفرد وهذا واضح في الدول الأكثر اقتراباً من الحكم الديني في الزمن الذي نعيش.
لا شك أنّ القيمين على المصالح الصهيونية والغربية يدركون أنّ منظمات الإسلام السياسي التي لديها نفور غريزي من الفكر القومي ومن القومية العربية بالتحديد، ولها تصور للأمة يختلف جذرياً عن التصور القومي للأمة، وترفض بالأساس فكرة الدولة القومية (the nation State) أي الدولة الحديثة، يسهل توظيفها للقضاء على وحدة المجتمع ومناعته. لذلك بدأنا نرى أنّ مناخ العداء المطلق للإسلام في عهد جورج بوش الابن تحوّل في عهد باراك أوباما إلى عداء نسبي. بدأ ذلك بخطاب أوباما في القاهرة في مطلع ولايته الأولى، وبدأنا نسمع مديحاً لإسلام معتدل، وخاصة إذا كان هذا الإسلام قد اتخذ قدوة له دولة عضواً في الحلف الأطلسي تلتزم قرارات هذا الحلف مثل تركيا.
وإذا كانت بعض الأحزاب والمنظمات التي تعتمد الدين أساساً لعقيدتها السياسية وتعيش شهوة الحكم منذ مدة طويلة لكنها تلتزم عدم الإضرار بالمصالح الإسرائيلية والأميركية في الشرق الأوسط، فلماذا لا تكون هذه المنظمات والأحزاب الحليفة للولايات المتحدة والغرب جديرة بالمديح والثناء حتى لو تناقض سلوكها مع أبسط مبادئ الديموقراطية وقيم ومؤسسات الدولة الحديثة؟
من هذا المنطلق يمكن فهم ما يجري الآن في العالم العربي وأسباب التفاعلات التي ميّزت وتميّز ما سمي الربيع العربي. فلو نظرنا إلى الدول العربية التي يمثل الدين أهم مقومات ثقافتها السياسية والاجتماعية، وكذلك أهم ركائز نظامها السياسي كالمملكة العربية السعودية وبعض دول الخليج، لوجدنا أنّها الأقرب إلى الولايات المتحدة والمشيئة الغربية بعامة، والأبعد عن الديموقراطية والمشاركة الشعبية في الحكم، واحترام حقوق الإنسان وبخاصة المرأة ومحاربة الفساد. باختصار إنّها الأبعد عن كل ما هو في جوهر مطالب الجماهير التي انتفضت في ما سمي الربيع العربي، وهي الأقل اهتماماً بالقضية الفلسطينية.
فتوظيف هذه الدول بثرواتها وإعلامها وقدراتها على تحريك الغرائز والهواجس الطائفية والمذهبية، وتجنيد وتمويل المقاتلين بدوافع دينية في رسم مسار الربيع العربي أمر غدا في منتهى الوضوح. سوف يكون من الصعب جداً أن نرى في جهود تلك الدول، من ليبيا إلى البحرين ومن اليمن إلى سوريا، ما يمكن اعتباره إضراراً بالمصلحة الإسرائيلية والمصالح الغربية في الوطن العربي. وسوف يكون من الأصعب أن نعثر في تلك الجهود على ما يمكن اعتباره اقتراباً من المؤسسات الديموقراطية في الحكم لجهة تفعيل احترام الحقوق والحريات العامة، كذلك حكم القانون ومحاربة الفساد وكل ما يمثل السبب الرئيس الذي دفع بالجماهير العربية إلى انتفاضات الربيع العربي.
وفي المقابل، فإنّ القوى المعادية لإسرائيل والمقاومة لمطامعها، أكانت ذات مرجعية دينية أو قومية، هي الضحية المستباحة لمسار التغيير في دول الربيع العربي، وهي موضوع جهود وكفاح الدول والمنظمات الأقرب إلى الالتفاف بالعباءة الدينية. هذه باختصار هي علاقة الدين بالدولة في الزمن الذي يعيشه العالم العربي.

تنويه | المقالات المنشورة في الموقع تمثل رأي صاحبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي أسرة الموقع

جميع الحقوق محفوظة لموقع جامعة الأمة العربية © 2021 - 2013