الابداع - Creativity- ( المنظومات ) المجلس الثقافي | الابداع - Creativity- ( المنظومات )
تاريخ النشر: 03-11-2021

بقلم: الدكتور فاخر عاقل

تذكر في تحديد الإبداع، أو الإبداعية Creativity لدى الإنسان تعريفات متعددة في الدراسات النفسية والنقطة المشتركة بين هذه التعريفات الإشارة إلى «خاصة الإبداع» أو «القدرة على الإبداع»، وإلى وجودها لدى الأشخاص المبدعين بوجه خاص. وتكون هذه القدرة من مستويات متعددة، وتبدو في أشكال من السلوك المبدع، وفي مقدمة ما يشمله هذا السلوك: التأليف والتخطيط والاستنباط والاختراع.
فإذا وضع الإبداع موضع التحليل من حيث ما يشمله من نشاط مبدع أمكن القول إنه القدرة على حسن تفهم علاقات قديمة في خبرة الشخص، وتصور أو استنباط علاقات جديدة، والانتهاء من الاختيار والتمييز بين الإمكانات المتعددة إلى حلول مبتكرة وذات معنى لمسألة أو موضوع. ويحتمل في هذا الموضوع أن يكون فكرياً أو أن يكون متصلاً مباشرة بما هو مادي. من هذه الزاوية تبدو هذه القدرة في نوع الانفكاك في منظومات فكرية سابقة أخذت صيغة جديدة تنطوي على الأصالة وتوصف بالإبداع أو الابتكار.
الاهتمام بالإبداع:
إن المبرزين في مختلف ميادين الأعمال كانوا دوماً موضع تقدير الناس واهتمامهم. إلا أن دراسات غالتون Galton في إنكلترة عام 1869 كانت في مقدمة ما لفت أنظار العلماء إلى العباقرة والبحث في مكونات عبقريتهم. لم يحاول غالتون جدياً فهم العمليات العقلية الموجودة في إبداع العباقرة لأفكارهم الجديدة، بل اتجه بدراساته نحو محدِّدات الإبداع الوراثية.
ولقد اهتم ـ أكثر من اهتم ـ بدراسة الأسر التي أنتجت العباقرة وبصلات القربى فيها. ثم أصبحت دراساته من «كلاسيكيات» علم الوراثة وإن لم يتوصل إلى تعيين ماهية الإبداع وكيفية توارثه.
على أن دراسات علم النفس للذكاء والمتفوقين فيه [ر. الذكاء وقياسه]، والموهوبين منهم بوجه خاص، واستعمال طرائق علمية مبتكرة في ذلك، مثل التحليل العاملي، هي التي يسّرت لعلماء النفس في النصف الثاني من القرن العشرين فهم الإبداع وتحديد عوامله وروزه والاهتمام بالكشف عنه وتربيته.
ومن الممكن القول أن النصف الأول من القرن العشرين يتصف باهتمام خاص يتجه نحو الذكاء وروزه، وفهم طبيعته، وظهور روائز الذكاء الأولى وتطورها وانتشارها، في حين أن النصف الثاني منه يتصف بالاهتمام المتجه نحو الإبداع وروزه والمبدعين وتربيتهم بغية الوصول إلى مزيد من إنماء إبداعهم والإفادة من مواهبهم.
ويعدّ عام 1950 نقطة تحول في دراسة الإبداع وفهمه. والعوامل في ذلك كثيرة بينها آثار الحرب ودراسات الذكاء.
فقد استدعت الحرب العالمية الثانية بذل جهود عظيمة للاختراع والتجديد والابتكار في مختلف ميادين الحياة، ولاسيما ما اتصل منها بأدوات الحرب والقتال. وكان بين ما وقع في ذروة المخترعات القنبلة الذرية وما إليها من أسلحة الدمار الهائلة. وبعد انتهاء الحرب وحلول السلام بدأ عصر الفضاء، وذلك حين أطلق الروس قمرهم الصناعي الأول «سبوتنك» ثم تصاعد السباق بين الدولتين العظميين، ولحقت بهما دول أخرى، وظهرت الصواريخ وأشكال الحاسوب وتقنياته، وبرز تطور كبير وسريع في كل هذه المجالات. وكان مما لحق بذلك كله ازدياد الطلب على المبدعين والمخترعين والكاشفين، كما ازداد الإلحاح على علماء النفس والتربية للكشف عن المبدعين ومميزاتهم، ودراسة الإبداع وعوامله وتربيته، وتهيئة المبدعين للإفادة منهم في مختلف ميادين العلم والعمل وتقنياته.
ومن جهة أخرى قدمت دراسات تيرمان Terman ومعاونيه عن العلاقة بين الذكاء والإبداع قاعدة غنية للتوسع في الاهتمام بالإبداع والمبدعين. ففي عام 1920 بدأ تيرمان ومعاونوه دراسة طويلة الأمد لفريق من الأطفال في كاليفورنية بالولايات المتحدة الأمريكية يقدر عددهم بربع مليون طفل كان بين نتائجها استخراج من يزيد حاصل ذكائهم على 140، وهو حاصل ذكاء لا يشاهد لدى أكثر من 1٪ تقريباً من الأطفال. وقد كشف هؤلاء الباحثون أن ألفاً وخمسمئة طفل، من أصل ربع مليون طفل، كانوا موضوع الدراسة، بلغ متوسط حاصل ذكائهم مئة وخمسين، وكان بينهم ثمانون بلغ حاصل ذكائهم مئة وسبعين أو أكثر، ولقد تابع الباحثون دراسة هؤلاء الأذكياء مدة تزيد على ربع قرن، وقدمت هذه الدراسات خدمة كبيرة في فهم معنى الإبداع والموهبة والعبقرية والعوامل التي ترتبط بذلك والإنجازات التي تظهر مع الإبداع.
طبيعة الإبداع:
يقدر العلماء أن نسبة المبدعين المرموقين بين الناس، منذ فجر التاريخ لا تتجاوز اثنين في المليون، وقد تساءل الناس دوماً عن سبب ندرة المبدعين وعن العلاقة بين العبقرية والتربية. ومن هنا كانت المشكلة الحاضرة مع الإبداع مشكلة ذات وجهين، أولهما كشف المقدرات الإبداعية الواعدة عند الأطفال والشباب، وثانيهما كيفية تنمية شخصياتهم المبدعة.
وبدهي أنه لا فائدة من محاولة الإجابة عن هذين السؤالين ما لم تعرف ماهية الإبداع وتحدد عوامله وما لم يتم التوصل إلى طرائق للكشف عنه لدى الأحداث والشباب والعمل على تنمية شخصياتهم المبدعة.
إن ثمة قناعة عامة عند علماء النفس المتخصصين بدراسة الإبداع تذهب إلى أن جميع الأفراد يملكون، إلى درجة ما، كل القدرات، ولا يستثنى من ذلك إلا الحالات المرضية. ولذلك فإننا نستطيع أن نتوقع وجود الأعمال الإبداعية عند جميع الأفراد بقطع النظر عن مقدارها وقوتها وتكرارها، بيد أن العلماء مجتمعون على توقع الأعمال المبدعة من الأعظم ذكاء أكثر ممن هم أقل ذكاء، ويستدرك علماء النفس فيقولون: ليس كل متفوق في الذكاء عبقرياً وإن كان العكس صحيحاً. ومعلوم أن روائز الذكاء العادية لا تروز الإبداع بقد رما تروز وظائف عقلية تتأثر كثيراً بالإنجاز المدرسي والمعلومات.
لقد لجأ غيلفورد Guilford إلى التحليل العاملي لتبيُّن القدرات العقلية، ورسم لذلك مكعباً مشهوراً يعرف باسم «مكعب غيلفورد» أظهر فيه وجود مئة وعشرين قدرة أو عاملاً للنفس البشرية. ووضع عدداً من الفرضيات عن طبيعة التفكير الإبداعي. وكان في ذهنه، حين وضع هذه الفرضيات، نماذج من المبدعين من مثل العالم والفنان والمخترع، وكان يعتقد أن ثمة فروقاً بين أنواع الإبداع وفي ميادينه المختلفة. وذلك مع اعتقاده، بوجود عوامل مشتركة بين المبدعين وأنماط قدرتهم. ويرى غيلفورد أن القدرات الأولية التي يمكن أن تسهم في الجهود الإبداعية لمختلف المبدعين هي من مكونات المحاكمة، ولكنه يخص بالذكر منها الإحساس بالمشكلات والطاقة والمرونة والتجديد والتوسيع والقدرة التركيبية، والقدرة التحليلية وإعادة التنظيم والتقعيد والتقويم. بيد أن تورانس Torrance وكاتيناKhatena وغيلفورد، وهم القادة في روز قدرات التفكير المبدع، يولون الأهمية لقدرات أربع هي: الطلاقة والمرونة والأصالة والتوسيع أو التفصيل.
الطلاقة Fluency: هي القدرة على إنتاج الكثير من الأفكار فيما يخص مهمة ما. ومعنى هذا أن الشخص القادر على إنتاج عدد كبير من الأفكار في وحدة زمنية معينة فإنه - إذا تساوت الشروط الأخرى - يكون صاحب حظ أكبر في إبداع أفكار ذات معنى. ويوجه غيلفورد ومعاونوه اهتماماً شديداً ودقيقاً للعوامل المكونة للطلاقة. وقد وجدوا أن لها في فئة الاختبارات الذهنية (أو الكلامية) وحدها ثلاثة عوامل مميزة هي: الطلاقة الفكرية والطلاقة الترابطية والطلاقة التعبيرية.
المرونة Flexibility: هي القدرة على إنتاج الأفكار التي تظهر تحرك الإنسان من مستوى تفكير إلى آخر أو تظهر نقلاته التفكيرية في حال مهمة معينة. أما الأفكار التي تكرر الأعمال ذاتها فإنها لا تظهر مثل هذه النقلات التفكيرية. وعلى هذا فإن مرونة الفكر ذاته أو سهولة تغييره لتهيئه النفسي، عامل مهم من عوامل الإبداع.
والإنسان الذي يقف عند فكرة، أو يتصلب بشأن طريقة من الطرائق، هو أقل قدرة على الإبداع من إنسان مرن التفكير قادر على التغيير حين يكون ذلك لازماً. ويميز غيلفورد بين أنواع المرونة مثل: المرونة العفوية والمرونة الكيفية وسواهما.
التفصيل أو التوسيع Elaboration: هو القدرة على إضافة التفاصيل إلى فكرة أساسية ثم إنتاجها. وهكذا ففي واحد من الاختبارات يُعطى الممتَحَن مخططاً بسيطاً لموضوع ما ويطالَب بتوسيعه ورسم خطوات تؤدي إلى جعله عملياً، وبطبيعة الحال فإن الدرجة التي يحصل عليها تتناسب مع مقدار التفصيلات التي يعطيها.
الأصالة Originality: هي القدرة على إنتاج أفكار غير عادية ولا يستطيع إنتاجها الكثير من الناس وذلك بوصفها أفكاراً بعيدة عن المألوف وذكية.
ويميز علماء النفس المختصون في دراسة الإبداع بين نوعين من التفكير هما التفكير المطابق Convergent thinking والتفكير المجانف Divergent thinking ويرون أن بعض الناس يتصفون بتفكيرهم المجانف وهم المبدعون حقاً. إنهم لا يقبلون المألوف بل يخرجون عليه طلقين مرنين متوسعين أصيلين. على أن كل نوع من نوعي التفكير هذين ألزم لبعض الناس من النوع الآخر. وقد أضاف تورانس ومعاونوه فيما بعد قدرات جديدة مثل القدرة على التجديد والقدرة على التحليل والتركيب والقدرة على الإغلاق Closure أي القدرة على تأجيل إكمال مهمة ما إلى وقت يسمح بإنتاج الأفكار الأصيلة.
نموّ الإبداع
يرى تورانس أن بعض الأطفال يبدون، منذ الولادة، أكثر إبداعاً من بعضهم الآخر. إنهم يبدون فعالين نشيطين ويظهرون كأنهم يلاحظون كل شيء ويستجيبون لكل صوت أو رائحة أو صورة. إنهم يتعلمون بسرعة كيف ينقلون حاجاتهم وطلباتهم إلى من حولهم وكيف يفسرون سلوك هؤلاء الذين يحيطون بهم. إنهم يتفحصون كل شيء ويحشرون أنوفهم في كل شيء، وحينئذ يقال عنهم إنهم فضوليّون.
ومن الغريب أن هذه الفروق الفردية في الإبداع التي تبدو ظاهرة منذ الولادة تضعف أو تزول بتأثير الطريقة التي يلجأ إليها الأهل في مواجهتهم لهذه القدرة الإبداعية وهذا الفضول. وبطبيعة الحال فإن الأمر لا يقتصر على الأهل بل يتعداهم إلى كل من يحيط بالطفل وله دور في حياته وخاصة المدرسة. ولما كانت فاعلية الأطفال الصغار أو نشاطهم أمراً يزعج الراشدين ويتعبهم، فإنهم لا يشجعون دائماً مثل هذه الفاعليات أو النشاطات. وليس من المبالغة أن يقال أن الطفل النشيط الطُلَعَة يعاقب على سلوكه هذا أكثر من الطفل الطيّع.
وثمة أمر آخر اهتم به العلماء المختصون بدراسة الإبداع وهو علاقة الإبداع بالعمر، والسؤال عما إذا كانت هناك مرحلة من العمر يكون فيها الطفل المبدع أكثر إبداعاً منه في المراحل الأخرى أم أن الإبداع يتزايد مع التقدم في العمر؟ وهل يتم نمو الطفل الإبداعي في مراحل مختلفة أم هو مستمر؟!
إن للعالمين غوان Goan وتورانس فكرتين متمايزتين في هذا الصدد. يميل غوان إلى النظر في الإبداع والنمو الإبداعي بوصفهما على صلة بمراحل محددة من عمر الإنسان، أما تورانس فيميل إلى أن النمو الإبداعي عملية مستمرة تتبدى مع التقدم في العمر.
ويرى غوان أنه إذا كان من الممكن النظر إلى النمو الإبداعي على أنه مشابه لأي نمو آخر، أي أنه مستمر وينمو مع نمو الطفل، فإن هذه النظرة ليست دقيقة ولا صحيحة، وذلك لأن النمو، في رأيه، يحدث على مراحل تشبه المراحل التي قال بها فرويد Freud وإريكسون Erickson وبياجيه Piaget عن النمو العقلي والنفسي عامة.
ويحدد غوان هذه المراحل بما يلي:
ـ مرحلة الكمون latency Period وهي تشمل المراحل (1-4-7) وفيها يتعرف الطفل الأشياء من حوله.
ـ مرحلة الهوّية identity period وهي تشمل المراحل (2-5-8) وفيها يقوم الطفل والحدث والراشد بالتساؤل عن هوّيته.
ـ مرحلة الإبداع creativity period وهي تشمل المراحل (3-6-9). وفي المرحلة (3) ينمو الإبداع وفي المرحلة (6) يتزايد إبداع المراهقين.
ويرى غوان أن الحب أساسي للإبداع. فإذا أراد أحد أن يكون مبدعاً فإن عليه أن يغني حياته بمزيد من الحب.
تلك هي أهم أفكار غوان عن مراحل النمو أما تورانس فيقول إنه ومعاونيه وجدوا أن عدم الاستمرار هو ما يميز قدرات التفكير الإبداعي. ولقد وجدوا أن ثمة أطواراً واضحة من التدني في قدرات التفكير الإبداعي تحدث عند الأطفال ولاسيما في الأعمار 3-9-13-17 وأن أسوأها يحدث في التاسعة من العمر، وذلك العمر الذي تحدث فيه أسوأ اضطرابات الشخصية ومشكلات السلوك ومصاعب التعلم.
ويوافق كاتينا على ذلك لكونه قد شارك في دراسات تورانس وكان واحداً من معاونيه. وأياً ما كان الأمر، فإن من المهم أن يلاحظ لدى كل من غوان وتورانس أن السن قبل المدرسية الممتدة من الرابعة إلى السادسة سن إبداعية، وأنه حين يدخل الطفل المدرسة الابتدائية لا يتاح للإبداع إلا النمو القليل. لذلك فإن من واجب الأهلين والمتعلمين مساعدة الطفل على أن يكون مبدعاً في المرحلة الثالثة (4-6 سنوات) وفي المرحلة الرابعة (9-10 سنوات).
ومن الواجب أن يذكر هنا، أن الانتقال من مرحلة تعليمية إلى مرحلة أخرى، أو من مدرسة إلى أخرى، أمر يسبب حدوث الشدّات والقلق وأن من واجب الأهل والمعلمين أن يساعدوا الطفل على حسن التكيف مع محيطه الجديد مما يتيح له الإبقاء على شعلة إبداعية لاهبة.
الإبداع والذكاء والموهبة والعبقرية:
الذكاء شرط لازم للإبداع ولكنه غير كاف. وقد ثبت للعلماء أن العلاقة بين القدرات الإبداعية الكامنة والإنتاج الإبداعي، من جهة، وحاصل الذكاء، من جهة أخرى، منخفضة القيمة وذلك حين يكون الأمر مختصاً بفئات من الناس يكون حاصل ذكائهم مرتفعاً. أما في النسب المتدنية من حاصل الذكاء فإن ثمة علاقة واضحة بين حاصل الذكاء والقدرات الإبداعية.
فإذا أخذت حاصلات الذكاء من أدناها إلى أعلاها، أو قل مثلاً من 65 إلى 150، فإنه يلاحظ اختلاف وتنوع. ومعنى ذلك أنه حين يكون حاصل الذكاء عالياً فإن القدرات الإبداعية تراوح بين الانخفاض والعلو. وهكذا فإن حاصل الذكاء - فيما يبدو - يضع حداً أعلى للقدرات الإبداعية، ولكنهم يقصرون عن تحقيقها ووضعها موضع الاستخدام والإفادة، وأن هناك عدداً قليلاً جداً ممن يتجاوزون قدراتهم الإبداعية في إنجازاتهم.
وأياً ما كان الأمر، فإن علماء النفس اليوم يرون أن الإنسان قد يكون موهوباً بأشكال متعددة، كما يرون أن المرتفع الذكاء يمتلك، إلى جانب قدرات التعامل مع المعلومات، قدرة تعاملية أخرى هي المحاكمة التي تقود إلى عدة حلول ممكنة لمشكلة ما: وهو قدرة «التفكير المجانف» التي يمكن القول إنها القدرة على التفكير المبدع.
وهنا يطرح السؤال: هل يكون الشخص ذاته مبدعاً، وبدرجة متساوية في مجالات العلوم والفنون وغيرها؟ ويجيب غيلفورد عن هذا السؤال بقوله: «استناداً إلى نتائجنا التحليلية نستطيع القول إن هذا الأمر ممكن الوقوع ولكننا نادراً ما نتوقع أن يكون الشخص عينه قادراً على الإبداع وبصورة متساوية في العلوم والفنون والرياضيات والإدارة والتأليف الموسيقي. إن الأفراد المبدعين بدرجة عالية في كثير من هذه الميادين المختلفة قد تكون لها صفات ممتازة مشتركة فيما بينهم، ولكن الدراسات النفسية تدل كذلك على أن بينهم فروقاً واضحة»
وأما ما يتصل بالعباقرة والموهوبين فيمكن القول أن واحداً من الأخطاء الكبيرة التي وقع فيها بعض علماء النفس في تاريخ روز الذكاء كان إطلاقهم كلمة «عبقري» على الشخص الذي يبدو حاصل ذكائه عالياً جداً (أو فوق 140) وكان هذا الخطأ سبباً في كثير من الاضطراب، لأنه عنى أن كل فرد عنده مثل حاصل الذكاء المرتفع هذا من الأطفال واليافعين سيصبح عبقرياً. وقد خابت آمال الأهل وآمال العبقري الموعود. ولذلك فإن من الأنسب علمياً أن يسمى أمثال هؤلاء بالموهوبين، ونسبتهم لا تزيد على 1٪ من مجموع السكان، والاحتفاظ بكلمة عبقري لأولئك الذين يتصفون بالذكاء المبدع من بين هؤلاء الموهوبين. إن صفة الموهوب تعني قدرة عقلية عالية جداً، في حين تعني صفة العبقري إنجازاً إبداعياً وأصيلاً تماماً. ولا يتسع المجال هنا للتحدث عن التكوين النفسي لكل من الموهوب والعبقري مما يستطيع القارئ أن يرجع فيه إلى المراجع المختصة. ولكن يفضل تأكيد خطأ النظرية التي تقرب بين العبقرية والجنون لأن الغالبية الساحقة من العباقرة أشخاص أسوياء تماماً.
روز الإبداع:
صمم كل من غيلفورد وتورانس اختبارات لروز الإبداع عند الأطفال. لقد وضع غيلفورد اختبارات سماها «اختبارات الإبداع عند الأطفال» Creativity Tests for Children عام 1971، كما وضع تورانس اختبارات سمّاها «التفكير إبداعياً بالكلمات» Thinking Creatively with Words، «التفكير إبداعياً بالصور» Thinking Creatively with Pictures 1974، و«التفكير إبداعياً بالأصوات والكلمات» Thinking Creatively with Sounds and Words وذلك بالاشتراك مع كاتينا عام 1973.
أما اختبارات غيلفورد التي وضعها بمساعدة بعض العاملين معه. والتي تقوم على أساس من فكرته عن القدرة الإنتاجية المجانفة، فقد وضعت بصورة أساسية لتلامذة الصفوف الرابع والخامس والسادس مع قوله إنها ممكنة الاستعمال في حال الأطفال الأكبر سناً. وحتى حال الراشدين. وعدّد القدرات المجانفة المقيسة وهي عشر من أربع وعشرين. أما في الاختبارات المعدة للراشدين فإن القياسات تشمل ثماني عشر من أربع وعشرين قدرة.
وتتألف اختبارات غيلفورد للإبداع من المهام التالية: أسماء الحكايات، وماذا تفعل بها، والمعاني المتشابهة، وكتابة الجمل، وأنواع الناس، وافعل منه شيئاً ما، والجماعات المختلفة، وعمل الأشياء، والحروف المخبوءة، وإضافة التزيينات. والمهام الخمس الأولى ذهنية (أو كلامية)، أما الخمس الأخرى فإجرائية (أو غير كلامية).
أما اختبارات تورانس عن التفكير المبدع فتعمل على قياس القدرات التفكيرية الأربع التي سبق ذكرها وهي: الطلاقة والمرونة والأصالة والتوسيع أو التفصيل. وتتكون الاختبارات من صيغ بديلة من اختبارين سماهما «التفكير إبداعياً بالكلمات» و«التفكير إبداعياً بالصور». وتستعمل من سن ما قبل المدرسة الابتدائية حتى سن الرشد، ويمكن تطبيق الاختبارات بصورة إفرادية أو جماعية.
وتشمل الاختبارات الذهنية (أو الكلامية) الاختبارات التالية: اسأل واحزر، تحسين الإنتاج، الاستعمالات المألوفة، الأسئلة غير العادية، افترض. أما الاختبارات الإجرائية فتشمل الاختبارات: بناء الصور، الوحدة غير الكاملة، الوجوه المتكررة.
والجو الذي تجري فيه الاختبارات يجب أن يشبه جو اللعب والتفكير وحل المشكلات، فلا يشعر الشخص الذي يختبر بالرهبة بل بالتشجيع على الاستمتاع بالفاعليات التي يقوم بها، ويكون الجو مريحاً ومثيراً في الوقت ذاته.
ولما كانت عملية التحمية warm-up ضرورية من أجل السلوك الإبداعي فإن تصميم كتيب الاختبارات وغلافه يجب أن يكون مساعداً على ذلك بما يثيره من فضول الممتحن وخياله. ويرى تورانس أن هذا الأمر مهم وأساسي في عملية الاختبار.
أما مقياس «التفكير إبداعياً بالأصوات والكلمات» ففيه اختباران للأصالة الكلامية هما: الكلمات والصور. وقد وضع تورانس الأول مع كنغتون Cunnington وشاركهما كاتينا في الثاني. وفي حين أن اختبار «الأصوات والصور» يعطي الأصوات، فإن اختبار «الكلمات والصور» يعطي الكلمات البدائية بوصفها مثيرات للشخص الذي يراز إبداعه.
وكل من المقياسين يتطلب الاستدعاء الحر من أجل إعطاء صورة كلامية أصيلة لها علامات عن الأصالة. والمقياسان يتطلبان الخيال المبدع من أجل مجانفة الأمور الواضحة المألوفة والابتعاد عنهما وذلك استجابة للأصوات والكلمات البدائية ومن أجل إعطاء صورة كلامية أصيلة.
بعض مشكلات الأطفال الموهوبين:
دلت دراسات تيرمان Terman عام 1959 ودراسات أودن Oden عام 1968 وكوكس Cox عام 1969 على أن الأطفال المتفوقين الذين درسوهم كبروا وأصبحوا راشدين متفوقين، وقد حافظوا على قدراتهم العقلية المتفوقة، وكانت نسبة الوفيات المبكرة بينهم أقل منها عند متوسط السكان كما كانت صحتهم الجسمية والنفسية ممتازة بجودتها. وكانت نسبة الإجرام عندهم في أدنى الحدود كما كانت إنجازاتهم التربوية والمهنية عالية جداً، وكانوا فعالين في خدمة مجتمعاتهم، كما كانت آراؤهم السياسية والاجتماعية معتدلة، وقد شعر ثلثاهم بأنهم حققوا ما كانوا يصبون إليه. ويشير كوكس إلى أن المتفوقين لا يتصفون في طفولتهم بالذكاء العالي فحسب بل إنهم يتصفون كذلك بالاهتمامات المتعددة والمتحمسة، وبالفعالية وقوة الإرادة، وجودة الطبع، وحسن الأخلاق مما ينبئ بإنجازات مستقبلية متميزة.
ولكن علماء النفس المشتغلين بالإبداع ينبهون إلى المشكلات التي يعانيها الأطفال الموهوبون في أثناء نموهم وتقدمهم في العمر. إن الطفل حين يواجه المشكلات فإن السبب قد يعود إلى كونه موهوباً، والكثير من المشكلات التي تبدو عند أمثال هؤلاء الأطفال تنجم عن الصراع بينهم وبين من حولهم من أهل ومعلمين وأصحاب نفوذ.
إن الطفل الموهوب كثيراً ما يكون تحت تأثير قواه الداخلية الناجمة عن قدراته الإبداعية التي تدفعه إلى القيام بأعمال يعجز عن التحكم فيها.
إنها قد تدفعه إلى أن يكون استقلالياً، متحرراً ومجانفاً للأعراف والتقاليد في علاقاته مع الآخرين الذين يريدون منه أن يقوم بأعماله وفقاً لما تعارفوا عليه. وهذه الحال كثيراً ما تقود إلى صراعات ومجابهات تتطلب من الطفل أن يتكيف تكيفاً جديداً قد يستطيعه وقد يعجز عنه. وهكذا فإما أن يتعلم مواجهة الضغوط المتزايدة، وإما أن يكبت حاجاته الإبداعية. فإذا استطاع معالجة هذه المصاعب ومواجهتها انتهى به الأمر إلى سلوك إبداعي وصحة نفسية طيبة.
أما إذا عجز عن ذلك وكبت قدراته الإبداعية فإنه قد يواجه مشكلات نفسية يحتمل أن تكون خطيرة. وكثيراً ما قيل إن الإنسان المبدع إنسان لا يضايقه التعقيد أو عدم التوازن أو الغموض أو عدم التكامل، وهو يتعامل بـ «اللامعقول»، لأنه يجد فيه ينبوع تفكيره الأصيل المبتكر. ثم إنه يرفض ادعاء المجتمع أن على كل إنسان أن يكيف نفسه وفق معايير معينة محددة لكل زمان ومكان، ويؤكد أن الثورة ورفض الانصياع لقيود المجتمع والإصرار على تحقيق الذات والاستمتاع بالفردية كثيراً ما تكون علامات تدل على طبع صحيح سليم. وهو أخلاقي عادة بالمعنى البسيط للكلمة.
ولعل أكثر مصاعب الطفل الموهوب شيوعاً شعوره بالعزلة عن مجتمعه، والغربة عن أقرانه وأهله ومعلميه، وذلك بسبب من إصراره على المجانفة والتحرر من الاتباع في تفكيره وعمله مما يخلق له ضغوطاً وتوترات بينه وبين الآخرين الذين يريدون إرجاعه إلى صراطهم «المستقيم».
شواهد من مجالات الإبداع:
يتصور عامة الناس أن العبقري إنسان مهزوز وأنه مغفل في كل شيء ما عدا اختصاصه الضيق، وأنه يخالف قواعد الذوق العام، وأن من الصعب معايشته. ولكن هذه الصفات ـ لحسن الحظ ـ لا تنطبق على الواقع إطلاقاً.
إن العباقرة ـ سواء أكانوا فنانين أم كتاباً أم علماء ـ يصعب فهمهم في كثير من الأحيان، وهذا أمر صحيح. ولكن معايشتهم ليست أصعب من معايشة سواهم من معظم الناس. وليس معنى هذا عدم وجود عباقرة ذوي مشكلات، فبعضهم كذلك. إن فناناً مثل فان غوغ Van Gogh [ر] الهولندي انتهت حياته بالجنون ثم الانتحار، وكذلك فإن الكاتب الأمريكي إدغار آلان بو E.Alan Poe [ر] كان مدمناً الخمر، كما كان الروائي الروسي دوستويفسكي Dostoyevsky [ر] مقامراً مدمناً، وكان إبسن Epsen [ر] كاتبا القصة النروجي طاغية في أسرته، كما كان مختالاً فخوراً حتى إنه كان يلصق بقبعته مرآة يستطيع أن ينظر فيها إلى نفسه إذا ما جلس في متنزه. وفي مقابل هؤلاء، فقد كان سلوك عشرات العباقرة من أمثال أرسطو [ر] وكوبرنيك [ر] ودانتي [ر] وابن سينا [ر] طبيعياً سوياً. إن باستور Pasteur [ر] العالم الفرنسي كان يعيش عيشة بسيطة جداً، أما داروين Darwin [ر] فقد وصفه أحد أولاده بأنه بشوش ومحب، وكذلك أينشتاين Einstein [ر] كان لطيفاً وعطوفاً ومحبوباً من كل الناس. لهذا فالقول الصحيح هو أنه ليس من الضروري أبداً أن يكون العبقري مجنوناً أو غريب الطباع أو شاذاً، حتى وإن كان بين العباقرة من دلل سلوكه على قدر ما من الشذوذ.
تربية الإبداع
الحاجة إلى تربية الإبداع: تتعرض التربية الحاضرة إلى كثير من النقد، وترد بأشكال من الدفاع. والواقع أن التحدي الذي تواجهه التربية في أواخر القرن العشرين لا يكفي، في التغلب عليه، النقد والدفاع الشائعان لأن هذا التحدي يتجاوز كل حدود التوقع.
إن هذا العصر لم تعد تناسبه الأفكار القديمة. والحق أنه لا يعرف إطلاقاً ما سوف يكون عليه الإنسان والعالم بعد نحو خمسين سنة من الزمن. فالتطور سريع جداً، وكبير لدرجة مذهلة، ولذلك كان لابد لإيجاد المبدعين الذين عليهم أن يضطلعوا بأعباء العالم المقبل، من تغيير جذري للتربية في أهدافها ومناهجها وطرائقها ووسائلها، وتغيير يصنع ذوي الفكر الخلاق والعزم والخيال والمثابرة.
إن أول تغيير ينتظر أن يحدث يجب أن يتناول الأهداف التربوية، أو الهدف الأساسي من التربية. إن هدف التربية كان حتى وقت قريب تعلم الحقائق والمعارف التي وصل إليها العلم. والواقع أن هذا الهدف، وما يستتبعه من مناهج وطرائق ووسائل، بات قديماً، إن هدف التربية في عصر الفضاء وعصر الحاسوب يجب أن يكون التفكير، التفكير بكل معانيه: التفكير الناقد، والتفكير البناء، والتفكير الحر، والتفكير المنطقي والتفكير التحليلي، والتفكير التركيبي. وهذا الهدف «التفكيري» يغير المناهج والطرائق والوسائل والبرامج والعلاقات وكل شيء آخر في البيت والمدرسة والمجتمع.
ولقد سبقت الإشارة إلى نوعي التفكير: التفكير المجانف والتفكير المطابق. والتفكير المجانف هو لب الإبداع وجوهره. ولذلك فإن تشجيع التفكير المجانف وتعهده بالرعاية والتوجيه هو الطريق إلى تفتيح العملية الإبداعية وازدهارها.
إن المدارس والبيوت تشجع التفكير المطابق وتكاد تقتل التفكير المجانف. فالطفل الذي يحفظ ما في الكتاب ويقول ما يقوله المعلم طالب «ذكي» ممتاز يستحق النجاح وينال الدرجات العالية. أما الطالب الذي يخرج على المألوف، ويناقش المعلم، وينقد الكتاب، فكثير ما يقال عنه أنه طالب مشاغب يجب إسكاته وتأديبه، لكن هذا الطالب المخالف، الناقد السؤول، المستفسر، المناقش، هو في الأغلب الطالب المبدع. وفي اليد أن يسمح له بالانطلاق والإبداع أو أن يكبت وتقتل مواهبه.
وإذا كان لابد من تغيير هدف التربية فلا بد من أن تغير طرائقها ومناهجها وأساليبها، وأساليب تقويم الطلاب خاصة. ومن هنا كانت الحاجة ماسة إلى البحث التربوي ودراسة الإبداع بغية فهمه وتنميته ووضع المناهج اللازمة لهذه التنمية. لقد دلت الدراسات الإبداعية الجادة على أن القدرات الإبداعية لدى تلامذة رياض الأطفال أكثر بكثير مما كان يعتقد، وأن هذه القدرات متوافرة عند تلامذة المدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية، ولذلك فإن تعهد هذه القدرات في جميع مستويات التعليم واجب مقدس من واجبات السلطات التربوية.
والقدرات الإبداعية - كما دلت على ذلك الدراسات العلمية - تنمو بسرعة منذ الدخول إلى رياض الأطفال حتى الصف الثالث الابتدائي. وفي الصف الرابع يحصل هبوط ملحوظ ثم يحدث كسب في الصفين الخامس والسادس وهبوط جديد في الصف السابع، ثم يحدث كسب في الصفوف الثامن والتاسع والعاشر والحادي عشر. إن علميات التفكير، عمليات آلية وسريعة وعفوية إذا لم تواجه إعاقة خارجية. والمزعج أن علاقات الراشدين بالأطفال، والأحوال في البيت والمدرسة، تتدخل في هذه العملية التفكيرية الطبيعية.
والسؤال المهم هنا هو: كيف يتحاشى الأهلون والمعلمون إيقاف تيار الإبداع عند الأطفال؟ إن الجواب يكمن في العلاقة بين المربي والطفل التي يجب أن تكون علاقة إبداعية.
إنها ليست علاقة الفعل برد الفعل، ولكنها علاقة تجريبية اختبارية مشتركة. وهذا الواقع يتطلب أن يكون المربي - والداً أو معلماً - ذا نفس محبة للتفكير، مستعدة للمغامرة متمتعة بقدركاف من الخيال، تسمح بالسؤال والمناقشة والنقد والخروج عن المألوف، مما يشجع الأطفال على التفكير الأصيل والتخيل المبدع. وبالتالي على الإبداع والابتكار.
تربية الإبداع في البيت: يختلف الأطفال الموهوبون عن سواهم اختلافاً قد يؤدي إلى سوء فهمهم وارتكاب الأخطاء الجسيمة بحقهم، ولذلك كان من الأهمية بمكان أن ينظر بتمعن في نفسية الطفل الموهوب المبدع، وأن يتم استكناه خفاياها وتعرفها. ووالدا الطفل الموهوب هما أولاً الشخصان المهمان في حياة هذا الطفل، وهما بالتالي أول من يجب أن يساعداه على إظهار مواهبه الكامنة والتعبير عنها. ولذلك كان مهماً جداً أن يكون للأبوين القدرة الكاملة والمعرفة المتبصرة والطرائق الصحيحة لإعانة الولد على إظهار مواهبه والتعبير عنها وصقلها ووضعها في خدمة المجتمع. إن من واجب الوالدين إظهار المحبة للطفل وتفهمه وإشعاره بأهميته وإعطاء معنى لحياته وتقدير مواهبه تقديراً يكفي لدفعه إلى الدأب والمثابرة في إنتاج ما هو مبتكر.
إن الطفل المبدع طفل يبدو لامعاً وفقاً لروائز الذكاء التقليدية، ولكن هذه الروائز قد تشير أحياناً إلى أنه استثنائي، لكن روائز الذكاء لا تسمح للأطفال الموهوبين بإظهار مواهبهم الخاصة. إن الأطفال الموهوبين المبدعين لا يختلفون عن الأطفال ذوي حاصل الذكاء المرتفع إلا بأنهم يستعملون استراتيجيات تفكيرية مبدعة ويلجؤون إلى خيالهم أكثر من سواهم في تعاملهم مع البيئة المحيطة بهم. ويلاحظ العلماء اليوم أن على المشتغلين بكشف المبدعين أن يستعملوا مركباً يضم عدداً من روائز الذكاء والإبداع. ويوجد اليوم عدد كبير من المقاييس لهذا الغرض. بيد أن الملاحظة كانت ومازالت الطريقة المثلى في الكشف عن الموهوبين المبدعين ولاسيما حين يكون الحديث عن الطفل في البيت، وهذه الملاحظة يجب أن تكون دقيقة ومنهجية.
اقترح أكثر من باحث بعض الطرائق العملية التي يمكن أن يلجأ إليها الوالدان والتي تعين على الكشف عن الطفل المبدع بينها أن يكون الوالدان منتبهين إلى فاعليات الطفل ومقدرين نوعية هذه الفاعليات. وما إذا كانت من طبيعة إنتاجية، وإذا كان الطفل يستذكر النواحي الجمالية من أعماله التي يقوم بها. ومدى حبه للفاعليات العقلية وتفضيله حل المشكلات على الحفظ عن ظهر قلب. إن مدى تصور الطفل للمشكلة واستراتيجيته في مواجهة مشكلة تتطلب الحل يدلان على تمتعه بالقدرات الإبداعية العالية أو عدم تمتعه بها. إن على الوالدين أن يلاحظا طفليهما فيما يخص الأمور التي تقع ضمن واحدة أو أكثر من الزمر الست التالية:
• إذا كان الطفل حساساً بمحيطه فإن الوالدين سيجدانه يربط أفكاره بما تمكن رؤيته أو لمسه أو سمعه ويظهر اهتماماً بالوجوه الجمالية لما خبره ومواضع النكتة فيها. إضافة إلى إحساسه بالعلاقات ذات المعنى.
• وإذا كان لدى الطفل روح المبادرة فقد يجده الوالدان قائداً أو زعيماً في التمثيل أو الموسيقى أو غيرهما. مجدداً ومغيراً في الإدارة والتنظيم.
• وإذا كان ذا شخصية قوية فإنه سيبدي الثقة بالذات والقدرة على التقويم واستسهال أداء الأعمال، والرغبة في المخاطرة، والتوق إلى التفوق، والقدرة على التنظيم.
• وإذا كان الطفل يتمتع بالعقلانية فإنه سيظهر فضولاً عقلياً وسروراً بالتصدي للمهمات الصعبة، وخيالاً خصباً، وتفضيلاً للمغامرة، وحباً لإعادة بناء الأشياء والأفكار، وكرهاً للقيام بالأعمال وفق رتابة محددة.
• وإذا أظهر الطفل ملامح فردية فإن مما يلاحظ لديه أنه يفضل العمل منفرداً على العمل مع الجماعة، وقد تلاحظ فيه بعض الأطوار الغريبة والميل إلى نقد الآخرين، كذلك الميل إلى العمل مدداً طويلة من دون كلل أو ملل.
• وإذا كان لديه الروح الفنية فإنه سيبدو ميولاً إلى الإنتاج ولاسيما الصور والرسوم والنماذج وكتابة الشعر والقصص والروايات وغير ذلك.
إن ملاحظة هذه الصفات تعطي الوالدين إشارات إلى أن طفلهما مبدع، وإلى نوع الإبداع الذي سينجح فيه. وحينئذ سيجدانه بحاجة إلى مزيد من العناية، وتعهد مواهبه، وإتاحة الفرص له في البيت والمدرسة والنوادي والمنظمات وسواها. ثم إن من المناسب أن يكافأ على إبداعاته ويشجع بالقول والفعل.
إن معرفة الوالدين طفلهما ومواهبه ستساعدهما بالتأكيد على تقرير ما يجب فعله من أجله. وليس من الصعب تقديم المساعدة التي قد توثق الصلة بين الوالدين وأولادهما.
لقد أنشأ سدني بارنس Sydney Parnes ورشة للعمل الإبداعي ألح فيها على الصفات التي يجب تشجيعها عند الطفل في لعبه وأعماله ومحادثاته مع الأهل والرفاق. وهذه الصفات هي الطلاقة (قابلية إنتاج أفكار متعددة) والمرونة (قابلية إنتاج أفكار متعددة تظهر التنقل في التفكير) والأصالة (القدرة على إنتاج أفكار غير عادية ولا مبتذلة) والتوسيع أو التفصيل (القدرة على إضافة تفاصيل جديدة إلى الفكرة الأساسية) والحساسية (القدرة على الوعي الشديد للمضاعفات الممكنة).
وثمة محاولة أخرى لدى تورانس في كتابه عن الإبداع وفيها يفصّل ما يستطيع الوالدان فعله لمساعدة الطفل. إنه يذكر ثماني طرائق يستطيع الآباء باتباعها إعانة أولادهم. هذه الطرائق هي تشجيع روح الريادة والبحث، وتشجيع التجريب، وتشجيع الخيال، وقياس المواهب الإبداعية، وإعداد الطفل لتقبل الخبرات الجديدة، وتحويل قدرات الطفل التخريبية إلى سلوك بنائي، والتشديد على أهمية النمو وعدم اللجوء إلى العقاب، واستعمال طرائق إبداعية لحل صراعات الطفل، وتمكين الطفل من إسهاماته، والتعاون مع المدرسة في هذه المجالات.
أما كاتينا فقد أكد في دراساته التجريبية التي أجراها في الأعوام 1971-1973 الجدوى العظيمة التي تنشأ عن طريق مساعدة الأطفال على التفكير بطرائق إبداعية باستعمال استراتيجيات تفكيرية إبداعية والابتعاد عن الطرائق المألوفة واللجوء إلى طرائق غير عادية في التفكير، وكذلك بإعادة تحليل الأفكار وتركيبها من جديد، وإعادة تنظيم الأفكار ومزجها مزجاً جديداً، والجمع بين كليات جمعاً جديداً، وغير ذلك من طرائق برهنت على جدواها في استثارة الأفكار المبدعة.
تربية الإبداع في المدرسة: إن الكثيرين من الآباء والمعلمين يضيقون ذرعاً بأبنائهم أو تلامذتهم إذا أظهروا ميولاً للتعلم والتفكير بطريقة إبداعية فعلية. إن واحداً من أسباب هذا الضيق هو الخوف من أن يحسب الناس أن أولئك الأولاد مختلفون عن غيرهم أو أنهم ملحاحون أو أنهم شاذون. والصحيح أن الطفل المبدع طفل سوي أصلاً ومن اللازم رعايته لإنماء قدرته على الإبداع، وأن في هذه الرعاية ما يدعم عدداً من جوانب حياته وإنتاجه في مقدمتها ما يلي:
إن الوالدين والمعلمين يرغبون في أن يتمتع أطفالهم بالصحة النفسية الكاملة ولكنهم قد يجهلون أن مثل هذا التمتع رهن بأن يسمح لهم بالتعبير عن أفكارهم وميولهم ورغباتهم وأن تشجع تساؤلاتهم وفضولهم، وإلا فإنهم سيصابون بالإحباط.
يريد الأهل والمعلمون أن يكون الطلاب عاملين جديين وأن ينموا قدراتهم العقلية، ولكن كل البحوث التربوية الحديثة تؤكد أن هذا الأمر لا يتم حين يكون التعليم قائماً على السلطة. ولكي يتعلم الطفل إبداعياً وينمي قدراته عليه أن يسأل وأن يبحث ويجرب. ويجب أن يوضح للوالدين والمعلمين أن مجرد حصول الطفل على علامات عالية في الامتحانات، أو على حاصل ذكاء عال، لا يدل على أنه يتعلم التعلم الصحيح أو يتقن عملية التفكير الإبداعي.
ويريد الأهل من أبنائهم أن يتعلموا في المدرسة، ولكن يجب أن يعرف الأهل والمعلمون أن التعلم عن طريق التفكير الإبداعي يتطلب جهداً ووقتاً وتصميماً أكثر مما يتطلبه التعلم بالسلطة، وأن هذا التعلم الأخير هو الأضعف.
كذلك يرغب الآباء والأمهات في أن ينجح أبناؤهم في مهنهم ولكنهم ينسون أن الإبداع في أي مهنة من نصيب المفكر الواعي المجرب الدؤوب. وأن الكشوف العلمية، والاختراعات العلمية، والتقدم التكنولوجي، والتميز في الآداب والفنون، إنما هي حكر على المبدعين الذين يتقنون التفكير الإبداعي.
إن الأب والأم، كليهما، يريدان أن يتميز أولادهما اجتماعياً ولكن مثل هذا التميز الاجتماعي يتوقف على الذكاء والإبداع والتخيل المبدع ومواجهة المشكلات وحلها حلاً إبداعياً.
وأن التعلم والتفكير المبدعين ينطلقان من تحسس المشكلات والمصاعب، ورؤية الخطأ والمخاطر، ثم التخمين وصوغ الفرضيات، ثم التجريب والتقليب والاختبار، وأخيراً صوغ المبادئ العامة والقوانين والنظريات.
ولذلك كله يجب أن يتاح للأطفال الوقت اللازم للتفكير، وأن يعطوا حق المخالفة، وأن تنمى فيهم روح التساؤل والمناقشة، وأن تربى فيهم القدرة على مواجهة المشكلات والتصدي لها والعمل على تذليلها.
يبدو أن الكثير من الضغوط البيتية والمدرسية والاجتماعية تتدخل في كبت العملية الإبداعية. إننا جميعاً نتشدد في أهمية أن يكون الطفل مطابقاً لآرائنا وسلوكنا ومفاهيمنا وقيمنا. وإن مجمل حضارتنا يقف من التعلم هذا الموقف الخاطئ ويضغط البيت والمدرسة والمجتمع من أجل عدم المخالفة، من أجل المطابقة وعدم الشذوذ، وهذا ما يقف حجر عثرة في وجه الإبداع والتفكير المبدع، وإن من واجب البيت والمدرسة والمجتمع مكافأة التفكير المبدع. وقد أورد تورانس في التعبير عن مثل هذه المكافأة، ست نقاط، هي ما يلي:
ـ عامل الأسئلة غير العادية باحترام.
ـ عامل الأفكار غير العادية باحترام.
ـ أظهر للأطفال أن لأفكارهم قيمة.
ـ هيأ فرصاً للتفكير الذاتي عند الأطفال واعترف بأهميته.
ـ هيأ فرص تدريب وتعلم خيالية من التقويم بالدرجات.
لتكن المهام التي يقوم بها الطفل من النوع الذي يطالبه باستخدام خياله في تطبيق الحقائق، ولا تشجعه على «الحفظ» من دون فهم وتطبيق.


جميع الحقوق محفوظة لموقع جامعة الأمة العربية © 2021 - 2013