القيادة الأمريكية من الخلف التقارير والمقالات | القيادة الأمريكية من الخلف
تاريخ النشر: 29-11-2015 / 11:00:34

بقلم: الدكتور غالب قنديل
يعتقد كثيرون أن الولايات المتحدة تسعى إلى تسويات تغلق الحروب بالواسطة التي أشعلتها في المنطقة العربية ويذهب بعضهم إلى تبني فكرة الانكفاء الأميركي والانسحاب الأميركي الذي يربطونه بفرضية تبدل الأولويات الاستراتيجية الأميركية كتقدم اهمية الباسفيك والتصدي للتمدد الصيني هناك ولذلك يفترضون بناء عليه نشوء فراغ استراتيجي في المنطقة وهذه الفرضيات تسقطها الوقائع فثمة فرق بين الارتباك الأميركي والاضطرار لتقديم تنازلات مثل الاعتراف بالقوة الإيرانية نتيجة التوازنات القاهرة وبين الانسحاب المزعوم، فالإمبراطورية الأميركية تسعى لخوض الصراعات على جبهات متعدة وثمة في الشرق آلاف الحوافز لتمسكها بنفوذها في مقدمتها موارد الطاقة الضخمة وطرق نقلها والكيان الصهيوني.
أولاً: يتعامل أصحاب تلك الفرضيات مع تحركات الحكومات الإقليمية الدائرة في الفلك الأميركي على أنها مبادرات ذاتية ناتجة عن التورط في الأزمات والحروب وتعكس رغبة في إفشال التسويات التي يفترضون تجاوب القادة الأميركيين معها وهذا المنهج في تفسير الأحداث والتطورات يقود إلى ارتكاب العديد من الأخطاء التي تؤسس لاستنتاجات خاطئة ومضللة سياسيا وقد أثبتت الأحداث عدم صحته.
إن فرضية السعي الأميركي إلى الاستقرار في أي مكان من العالم تناقض تاريخ السياسة الأميركية منذ الحرب العالمية الثانية وهي سياسة تفجير الحروب والأزمات والاستثمار من خلالها لتوسيع النفوذ الأميركي ويمكن القول ان تاريخ العالم المعاصر خلال السنوات السبعين الماضية هو تاريخ الحروب والأزمات التي تسببت بها الولايات المتحدة وحصدت عشرات الملايين من البشر وألحقت الدمار والخراب بعشرات البلدان في قارات آسيا وأفرقيا واميركا اللاتينية واوروبا الشرقية والوسطى وحيث تحولت نسبة مهمة من مشاريع الإعمار بعد الحروب إلى ورش تديرها شركات أميركية.
الولايات المتحدة تعتمد في مصالحها الاقتصادية العالمية على سلعتي السلاح والطاقة وهي دائما حصدت من تفجير الحروب والأزمات مزيدا من العائدات المتضخمة لصفقات السلاح وحققت موقعا مهيمنا على موارد الطاقة العالمية وأسواقها وخطوط نقلها وقد استخدمت أساطيلها وجيوشها وسائر قدراتها الاقتصادية والتكنولوجية المتطورة لترسيخ همينتها الأحادية على العالم منذ انهيار الاتحاد السوفيتي وجعلت من محاولة منع قيام قوى عملاقة منافسة في العالم هدفا مركزيا لسياستها ولحروبها خلال الثلاثين عاما الماضية .
ثانياً : الفشل الاستراتيجي الأميركي في منع نهوض القوى المنافسة تبدى في السنوات العشر الأخيرة وترسخ في مناخ الاستقطاب الدولي الذي أعقب الإخفاق الأميركي بعد غزو أفغانستان والعراق وتبنت الإمبراطورية الأميركية خيار التكيف لاحتواء ذلك الفشل من خلال استراتيجية جديدة هي إدارة الحروب بالوكالة او ما يسميه بعض الخبراء " القيادة من الخلف " أي إدارة الحروب من خلال حكومات وقوى عميلة للولايات المتحدة وبأقل قدر ممكن من التورط الأميركي المباشر وهذا ما فرضته الهزائم العسكرية والأزمة الاقتصادية الخانقة في الولايات المتحدة والغرب الصناعي منذ عام 2008 والتحولات المتراكمة عالميا ( صعود روسيا والصين وإيران والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا) وقد تبلورت تلك التغييرات سياسيا منذ انطلاق العدوان على سورية الذي تبدت فيه استراتيجة الحرب بالوكالة في أوضح صورها.      يمثل الإرهاب التكفيري القاعدي والداعشي والتنظيم العالمي للأخوان المسلمين قوة عالمية احتياطية في الاستراتيجيات الأميركية الجديدة لحماية الهيمنة الاستعمارية عبر خوض حروب متنقلة وتمزيق دول واستنزاف حكومات مستقلة ومتمردة وتستخدم الولايات المتحدة هذا الاحتياط التدميري في استنزاف الخصوم وفي تسويغ التدخلات السياسية والعسكرية في اكثر من بقعة في العالم من شرق آسيا إلى أفريقيا حيث مسرح الصراعات الكبرى على موارد الطاقة والأسواق الاستهلاكية الواعدة والموارد المالية الضخمة المهيأة للاصطياد في صفقات سلاح خيالية كما جرى مثلا على هامش الحرب الأميركية السعودية في اليمن .
ثالثاً: "القيادة الأميركية من الخلف" تعني ان الولايات المتحدة تريد التخفف قدر الإمكان من اعباء التورط المباشر وتضع الحكومات العميلة في الواجهة كما تضع القاعدة وداعش وغيرها من فصائل الإرهاب التكفيري العالمي في الواجهة ذاتها وتقود حروب منظومة الهيمنة والعدوان بأقل قدر من التورط المباشر في النزاعات التي تنتحل واشنطن صفة السعي إلى حلها واحتوائها لاستثمار فعل عملائها في التأثير على التوازنات والمعادلات السياسية ولمنع تصفية هؤلاء العملاء او هزيمتهم بصورة نهائية فالأفضلية الأميركية هي تمديد النزيف حيث لا تستطيع فرض الإذعان لهيمنتها المطلقة.
لا يمكن تفسير أي حدث او تحرك سياسيا كان ام عسكريا دون السؤال عما تريده الولايات المتحدة من ورائه وفي هذا السياق تكشف التفاصيل الدقيقة لإسقاط الطائرة الحربية الروسية مثلا تسريبا اميركيا مرجحا للمعلومات عن إحداثياتها وتوقيت تحليقها عبر قنوات الاتصال المباشر بالأركان التركية وبنتيجة التنسيق الروسي الأميركي الذي شرحه الرئيس فلاديمير بوتين بعد الحادثة وألمح بوضوح إلى احتمال التسريب الأميركي للمعلومات عن حدث استغرق ما لا يتعدى عشرين ثانية من الزمن والغاية الأميركية هي اختبار الرد الروسي بدفع تركيا إلى الاستفزاز فإن أثبت الاختبار فرصة للجم المبادرة الروسية الداعمة للدولة السورية يكون ذلك مقدمة لتدرحج الضغوط والتحركات الأميركية لفرض الانكفاء الروسي وإن فشلت المحاولة التركية تدخلت واشنطن لاحتواء التوتر مع موسكو وهذا ما حصل فعليا.
مخطيء من يتوهم ان حكومات تركيا وقطر والسعودية تملك القدرة على الاستقلال عن الخطط والمشاريع الأميركية وكذلك منظمات وشبكات الإرهاب التي تبدو في الشكل مستقلة عن المشيئة الأميركية وما تزال تحظى بواسطة تلك الحكومات ومعها إسرائيل على مساندة اميركية قوية إلا عندما تخرج إحدى تلك الجماعات فعليا عن سيطرة واشنطن كما حذر باراك اوباما بعد انفلاش داعش في الموصل وأعلن الحرب عليها بعنوان صريح هو منعها من الخروج عن السيطرة أي أن الهدف الفعلي هو استرجاع داعش إلى الحظيرة الأميركية وليس تخليص شعوب المنطقة والعالم من شرورها ومخاطرها فداعش هي ثمرة تخطيط أميركي نفذت تركيا تفاصيله بالتعاون مع السعودية وقطر وبواسطة الائتلاف الوهابي الأخواني القاعدي وبمساهمة إسرائيلية خفية.


تنويه | المقالات المنشورة في الموقع تمثل رأي صاحبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي أسرة الموقع

جميع الحقوق محفوظة لموقع جامعة الأمة العربية © 2021 - 2013