سؤال الهوية في القومية العربية التقارير والمقالات | سؤال الهوية في القومية العربية
تاريخ النشر: 14-10-2020

بقلم: يزيد جرجوس

▪بالفعل فإن سؤال الهوية لا يشغل العامة أبدا أوقات الرخاء، وينحصر الاجتهاد فيه إذ ذاك على المختصين والفلاسفة، وهم يفلحون غالبا إما في وضع التعريف المناسب لهذا السؤال، أو في دفع صيرورة البحث عنه إلى الأمام.
أما العامة من الناس، فهي لا تكترث به في الرخاء، لأنه لا يلح عليها وقتها، ولذلك وانطلاقا من ضرورة الإلحاح، فإننا نجدها تنخرط في عملية البحث تلك، وقت الأزمات وخاصة تلك المصيرية، والتي تسير بخطى ثقيلة قاسية على أطراف وعي المواطنين بالوجود، فيسيؤون له كسؤال يصر في طلب الإجابة لسببين رئيسين.. أولا لعدم امتلاك الأسلحة المعرفية المناسبة، وثانيا والأهم لأن الإجابات المصيرية لا يجب أن تبحث تحت ضغط الشعور. لأن ذلك الضغط يضعف رباطة الجأش العلمية، ويضيق هوامش الموضوعية المطلوبة لانجاز المهمات المعرفية المصيرية.
▪صحيح أن المشاعر تشكل عنصرا لازما في تشكل الهوية وفي ااتعرف عليها، وذلك يكون في حالتها الهادئة من جهة، والمتلازمة مع الشان الثقافي من جهة ثانية، ما يعني أن إيجابية تلك المشاعر هي لازمة شرطية، حتى تكون عنصرا فاعلا في التكوين. فحب الأرض والشعب والرضى والفخر بالانجاز هو ما يكون الرابط النفسي، وليس بغض الآخر أو ازدراءه أيا يكن.
ولننتبه أن كل ذلك يدرس ويفهم في إطار علمي بحت، وليس في المجال الشعور الأدبي.
▪ذلك الانتماء الشعوري الرابط بين الجغرافيا وفترة كافية من التاريخ، في وعاء اللغة والإنجاز الحضاري الذي يؤلف القلوب ويشدها، يجعل من القومية مفهوما قابلا للتصديق، وهذا كما يبدو يحتاج بالتعريف إلى زمن من النهضة حتى يتبلور بشكله حاجة ونتاجا، وليس تنظيرا وفوقية. فالرواد القوميون في القرن الماضي والذي قبله، لم يكونوا مؤسسين للقومية العربية، بقدر ما كانوا يعيدون تعريفها كمنتج تاريخي لعصور تفوق الحضارة والأمة العربية، وخاصة الدولتين الأموية والعباسية، والتين شكلتا بوقتيهما القومية العربية بمعناها الناجز كنتاج انتروبولوجي، وقبل أن يلجأ المفكرون لتعبئة ذلك في إطاره النظري.
▪لنقل بدقة إن ما حدث وأنجزه رواد القومية العربية نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، هو بلورة هذا المفهوم الحضاري وإدراكه، بمعنى أن القومية العربية نضجت علميا في عقول المنظرين وقتها، بناء على قراءة وإعادة إنتاج تلك الحقبة الحضارية في الدولتين العباسية والأموية معرفيا ودعويا. فصارت الأمة بناء على تطورها التاريخي كذاكرة جامعة وجمعية، تعي نفسها أكثر وتدرك مصلحتها السياسية في التشكل من تلك الذاكرة.
▪المفكر والقائد المجتمعي أنطون سعادة، لم يطرح رؤيته عن "اكتمال عناصر الأمة القومية في سوريا الطبيعية" من زاوية الخلاف مع المحيط العربي، أو رفضه والصدام معه بصفته "الآخر المغاير" بل على العكس من ذلك، كان يؤدي طرحه الواعي للوصول للحالة الجامعة للعرب، عبر القيادة الحكيمة والمتقدمة في الدور والتراكم الحضري العروبي "للأمة السورية"، ليس لِلَمّ شمل العرب فحسب، ولكن للدفاع عنهم.
▪محمد علي باشا يكاد يكون أنصع وأدق مثال على مرونة المفهوم الحضاري للقومية العربية، الذي لا يكتفي بإتاحة الفرصة لغير المتحدثين بالعربية للانضواء فيه فحسب، بل يضعهم في لجة السعي بأنفسهم لقيادة هذا المشروع الحضاري العربي، وتحقيق النهضة من خلاله حصرا، كثقافة وتاريخ، وكمجموع بشري متميز، يمكن له أن يكون رافعة لمشروع يحمله شخص أو زعيم قادم من شرق أوروبا مثلا.
▪إن بعض المشككين بالقومية العربية، والداعين لدفنها بحماسة، لا تغيب عن قسمات دعواتهم تلك، ملامح التمشكل مع الإسلام، والذي يقومون بتبطينه من خلال الهجوم على العرب، وكثيرا ما تفضحهم تعابير لا تخلو منها كتاباتهم مثل "١٤٠٠سنة" الرقم الجملة الذي يكاد يتواجد في خطاب معظم الداعين للانسلاخ عن العروبة، وهم يفكرون في شيء آخر.
هنا نجد أنه من اللافت قبول نمط التفكير ذلك لإيمان اليابانيين بالشينتو أو الأميركيين بالمسيحية، والهنود بالهندوسية، بكل ما فيها من ممارسات وعدم اعتبار ذلك مسا بحضارية تلك الشعوب، بينما يحرمون كل ذلك على العرب.
▪هذا لا يعني أننا يجب أن نتستر حضاريا ومفاهيميا عن إخفاقاتنا كعرب يؤمن معظمنا بالإسلام، وعن التحولات المؤلمة التي مرت بها ثقافتنا القومية أو الدينية الاجتماعية، وخاصة هذه الأخيرة، والتي صنعت من "قوميتنا" أو "ديننا الاجتماعي" أمورا أخرى لا تشبهها بشيء ربما سوى التسمية.
هذه المكاشفة لإخفاقاتنا، يجب أن تضعها في مكان تتصدر فيه مواجهتها وإصلاحها بنيويا ومعرفيا، جدول أعمالنا التاريخي.


تنويه | المقالات المنشورة في الموقع تمثل رأي صاحبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي أسرة الموقع

جميع الحقوق محفوظة لموقع جامعة الأمة العربية © 2021 - 2013