الإعلام والأخلاق في ضوء التجربة العربية التقارير والمقالات | الإعلام والأخلاق في ضوء التجربة العربية
تاريخ النشر: 11-07-2020

بقلم: توفيق شومان

محاضرة في : الإعلام والأخلاق في ضوء التجربة العربية

سأتحدث بما يُتاح لي من وقت عن ثلاثة  عناوبن ترتبط بمضمون هذه الندوة الموقرة ، والعناوين هي :

ـ الأول : الإعلام واللغة

ـ  الثاني : مهنة الصحافة  والإعلام بدلالاتها ورمزيتها

ـ  الثالث : علاقة الصحافة  والإعلام بالأخلاق .

ابدأ بمعنى الإعلام : : الإعلام  كما جاء في اللغة : من أعلم ، أعلم بالخبر وبالواقعة وبالحدث .

وعلى ذلك يقال : أخذت علما .

نتوقف عند  فعل أعلم : ومنه : الإشتقاق التالي :  العلم / وصلة  قرابة المعنى بين الإعلام و العلم  ، وأيضا بين الإعلام والمعرفة ، وحين يقال علمت بالأمر : يعني عرفته .

وصلة  قرابة المعنى  تمتد  من الإعلام إلى العلم  الذي هو الحقيقة .

ـ ويقال ايضا : عالم ـ  ويقال ايضا معلم  ، وكلها ذات قرابة في المعنى والدلالة وإن توسعت أبعاد الدلالات والمعاني .

تحت هذه المعاني نكون أمام حقائق مرتبطة بمهنة أو صنعة  الإعلام .

أبدأ أولا بجذور المعنى / بالأصول الأولى الرمزية والدلالية لمهنة الصحافة أو الإعلام ( الإعلام  أصبح المصطلح  الشائع الآن )، وهذه المهنة تعني أولا وأخيرا: الإشتغال بالكلام / الإشتغال بالحرف / الإشتغال بالنص ، والإشتغال بالصورة .

فكل خبر هو كلام / كلام مكتوب أو كلام مسموع / هذا إذا تحدثنا عن الصحيفة أو الإذاعة ، وأما في التلفزيون ، فإن العين والأذن تجتمعان في تلقي الخبر / وفي الحالات الثلاث يحضر الإحساس ، الإحساس بالكلمة المقرؤة ، والإحساس بالكلمة المسموعة ، والإحساس بالخبر المرئي / يعني الكلمة المرئية .

هذا يعني حضور الكلمة الناتجة عن التفكير ، والتفكير الناتج عن العقل .

وإلى جانب العقل يحضر الإحساس والشعور ، مما يعني أيضا حضور القلب .

هذه هي معادلة الكلمة ، حضور العقل والقلب معا ، يعني حضور الإنسان كاملا ، ولا فرق في ذلك بين من يرسل الكلمة أو يتلقى الكلمة ، أو يرسل الصورة ويتلقى الصورة ، فمن ينتج الكلمة  أو الصورة يحضر عقله وقلبه في عملية الإنتاج ، ومن يتلقى الكلمة  والصورة يحضر عقله وقلبه في تلقي المنتوج .

من هنا بالضبط تأتي أهمية  مهنة الصحافة والإعلام ، وتأتي خطورتها أيضا ، من كونها مهنة ترتكز على الكلام وعلى تعاطي الكلام وعلى التعاطي مع اللغة .

ولنلاحظ هنا أيضا أهمية وخطورة التعاطي بالكلمة واللغة من خلال الكتب المقدسة ومن خلال الفلسفة :

في الكتب المقدسة ، وأبدأ بالقرآن الكريم :

ـ أول آية قرآنية نزلت على النبي محمد (ص) : إقرأ باسم ربك الذي خلق .( لنلاحظ هنا قداسة الكلمة : إقرأ).

ـ في الإنجيل المقدس : وفي البدء كان الكلمة ، والكلمة كان عند الله ، وكان الكلمة الله ، ( انجيل يوحنا ) / يعني السيد المسيح (ع).

أكثر قداسة من ذلك لا يوجد .

وأكثر جلالا ومهابة من ذلك لا يوجد .

انتقل الى الفلسفة وأتوقف عند كلمة " لوغوس " .

اختلف الناس حول معنى هذه المفردة / المصطلح ، لكنهم اتفقوا على معناها : الكلمة / او العقل / أو ما ينتجه العقل .

وذهب بعضهم إلى القول بأن ال" لوغوس" هي اللغة ومن ال "لوغوس" تم اشتقاق الكلمة العربية : اللغة ، وها نحن مرة أخرى نعود الى الكلام ، وما اللغة الا الكلام ، وما الكلام إلا اللغة .

وحول ال " لوغوس " : أمر مرورا فلسفيا سريعا :

ـ يقول الراوقيون : إن العقل أو ال " لوغوس" هو المبدأ الفعال في العالم.

ـ ويقول فيلون الفيسلوف : إن ال " لوغوس" أول القوى الصادرة عن الله.

ـ تحول ال " لوغوس" في بعض دلالاته إلى معنى ديني، ، كما هي الحال مع المتصوفة المسلمين ، وخصوصا إبن عربي .

في المعنى اللغوي ، وأستعين بعنوان الندوة : الإعلام والأخلاق في ضوء التجرية العربية ، لأشير إلى التالي :

ـ الصحافة كصفة مهنية مأخوذة من صحف : هنا تتجه الأنظارمباشرة إلى القرآن الكريم مرة أخرى : (صحف إبراهيم وموسى ) ـ اي المعنى المقدس والرسالي للصحف ، اي للكلام الوارد فيها ، وبما تحمل من يقين وصدق .

هذا ينطبق على معنى المجلة : وهي من فعل : جلا : أي علا وبان وظهر بوضوح ، يعني جلاء الحقيقة والرؤية ووضوحها .

حسنا : بعد كل هذا الذي استعرضته :

هل تنطبق معايير المعنى علي واقع المهنة ؟ .

هل يتم الإلتزام بقداسة الكلمة ؟.

هل يتم اعتماد قاعدة أحسن القول ؟ ، مثلما جاء في القرآن الكريم " الذين يستمعون إلى القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب ".

هل يتم نقل الأخبار اوكتابة التعليقات اوعرض التحقيقات بآمانة ، فتكون تعبيرا عن الصدق واليقين؟.

للأسف أقول : لا .

وأراني في هذا المجال  أن أعود قليلا إلى الوراء من أجل أن :

استعرض ما سعت إليه نقابات وروابط الصحافة اللبنانية بإعتبارها رائدة في هذا المجال ، منذ مراحل تبلورها الأولى في بداية القرن العشرين ، وأعود بالتحديد إلى العام 1911 ، مع أول لجنة للصحافة دعا إلى إنشائها فارس نمر صاحب مجلتي "المقتطف " و"المقطم " ، وكانت تصدران في مصر ، وفي هذه اللجنة تم إطلاق مجموعة من معايير العمل الصحافي ، وأترك لحضراتكم المقارنة بين المأمول من الصحافة والإعلام وبين واقع الإعلام والصحافة الآن ، ومن هذه المعايير :

ـ تتنزه الصحافة عن المطاعن الشخصية.

ـ المناداة بالإلفة والتفاهم بين الصحافيين .

ـ كل جريدة ترتكب خطأ الطعن الشخصي تدفع غرامة مالية .

في قانون المطبوعات اللبناني الصادر في العام 1962 ومع تعديلاته ، يمكن أن نقرأ التالي ونقارن ، مقارنة بالتخيل والتأمل على الأقل ، بين القانون والصحافة والواقع وبين المأمول والصحافة والواقع :

ـ إذا نشرت إحدى المطبوعات أخبارا كاذبة من شأنها تعكير السلام العام ، فيعاقب المسؤولون بالحبس ( ألغيت عقوبة الحبس ـ ولكن استمرت وسائل الإعلام بتعكير السلام العام).

ـ يحظر على جميع المطبوعات نشر: وقائع التحقيقات الجنائية والجناحية ـ التقارير المنافية للأداب العامة والأخلاق.

لنلاحظ هنا التالي : تتنزه الصحافة عن المطاعن الشخصية ـ المناداة بالإلفة والتفاهم بين الصحافيين ـ يحظر على جميع المطبوعات نشر: وقائع التحقيقات الجنائية والجناحية ـ التقارير المنافية للأداب العامة والأخلاق.

كم نسبة الإلتزام بهذه المعايير في العمل الإعلامي والصحافي في هذه المرحلة ؟ تكاد تكون منعدمة أو نادرة أو منخفضة إلى الحدود الدنيا .

واقع الحال ، ان ثمة ضياعا بين الحرية والمسؤولية ، وبين الرأي والإتهام ، وبين المهنة والإهانة ، وبين الخبر كواقعة حدثت وبين الخبر كإفتراء واختلاق ، أو بصريح العبارة بين الخبر اليقين وبين الخبر المفتعل والمجرد من أي دقة وصحة  وموثوقية .

أين رسالة الكلمة هنا ؟: سقطت .

أين قداسة الكلمة هنا ؟: تحطمت.

أين الصواب من الخطأ ؟: ذاك من علم الغيب .

في هذه المحاضرة  أسمحوا لي أن أمر على نشرات الأخبار التلفزيونية ، وبالتحديد مقدمات نشرات الأخبار .

هذه المقدمات التي تسبق تفاصيل الأخبار وإذاعة وقائعها لا علاقة لها بأصول المهنة ، لا من قريب ولا من بعيد.

لماذا ؟.

لا يوجد شيء إسمه مقدمات نشرات الأخبار .

هذه تظهر خلال  فترات الحرب ، وبعدما يتم تحويل وسائل الإعلام المرئية والمسموعة إلى أدوات للقتال والحرب .

الهدف منها استلاب  المتلقي واحتلال عقله قبل بث الخبر وإذاعته.

 ومن المؤسف  المضاف والإضافي   ـ  كما هو ملاحظ  ـ إنه حتى بعد توقف الحروب تستمر مقدمات نشرات الأخبار الحادة والموجهة ، مما يُبقي  المجتمعات  تحت سطوة الإنفعال والإضطراب  وتزيد من عوامل الإنقسام الوطني .

 وفي هذا الجانب أقول :

إن هدف المقدمات الإخبارية هو الشحن والتعبئة ، ولكن أزيد على ما يقال : إن هدفها أيضا احتلال المُشاهد واستلابه وتوجهيه بما يقتضي الإتجاه السياسي لهذا الفريق السياسي أو ذاك .

إذا : هذا ليس من الإعلام بشيء من حيث المهنة والحرفة .

وهذا ليس من الإعلام بشيء من حيث المسؤولية بالحفاظ على السلام العام والأمن العام .

وهذا ليس من حرية التعبير والرأي ، طالما أنه يتعاطى مع  المشاهدين  أو المستمعين أو القارئين كجماعات متعددة ومتفرقة وليس مجتمعا واحدا .

إن الأسئلة الناتجة عن كل ذلك تدور في إطار : ما العمل ؟.

برأيي : تتعدد الإجابات والمعنى واحد :

ـ الإجابة الأولى : تتعلق بإعادة الكلمة إلى قداستها .

ـ الإجابة الثانية : بالخروج من عالم البذاءات .

ـ الإجابة الثالثة : تتمثل بميثاق شرف إعلامي ملزم يأخذ بالإعتبار الحفاظ على السلم الوطني  وآداب المهنة والكلمة والحوار .

ويبقى ما يمكن قوله:

إن الإعلام ضحية السياسيين  أولا وضحية الطارئين على المهنة ثانيا .

كيف؟

هؤلاء الطارئون  هم أكثراعتمادا على الكلام المتفلت والبذيء ، ونظرا لضيق معرفتهم وقلة ثقافتهم وانعدام خبرتهم  يلجؤون إلى التعويض بما يخرج من ألسنتهم  من بذاءات  وشتائم أسهمت في التردي الأخلاقي في مجتمعاتنا حيث  تطبعت الشتيمة  مع انماط الحياة العامة وغدت متداخلة في التداول الكلامي  اليومي وفي قواعد العلاقات بين الأفراد ، حيث يسود الإضطراب على الأغلب ، وهذا أوضح تعبير عن انتقال مجتمعاتنا من حالة الإستقرار التي تنبذ الشتيمة إلى حالة الإضطراب التي تشيع فيها الشتيمة كدلالة ولا أبلغ عن العدوانية السائدة وعنوانها : الشتيمة المتبادلة.

في هذا الجانب لا بد  من القول : كما هو الفساد السياسي والمالي والإقتصادي والأخلاقي من صناعة السياسيين  الفاسدين فإن الإعلام الفاسد هو من صناعة السياسيين  الفاسدين.

هنا ، لا أنحاز إلى الإعلاميين كوني إعلاميا ، إنما أضع اللائمة الكبرى على السياسيين لأن أغلب وسائل الإعلام الرسمية والخاصة تحت قبضاتهم المالية ونفوذهم  التوظيفي ، وبطبيعة الحال لا يعني ذلك أن فئة من الإعلاميين ( وأضعها بين قوسين ) لا تتحمل مسؤولية التردي الذي وصل إليه إعلامنا العربي.

حين يُراد للإعلام أن يكون  شتاما ، لا يبقى الإعلام إعلاما

 وحين يُراد للإعلام أن يكون  إعلانا ، لا يبقى إعلام ولا صحافة ولا رسالة  ولا مهنة ولا حرفة.

و حين يُراد للإعلاميين والصحافيين أن يكونوا أبواقا ، لا يبقى من الصحافة  والإعلام شيء.

نعم لا بد ان يكون الإعلام مضبوطا ومنضبطا .

ولا بد للإعلام ان يلتزم بالأخلاق والأخلاق هي قوانين  وأعراف .

ثمة فرق بين الحرية والفوضى ، وأول أعداء الحرية هي الفوضى .

ثمة فرق بين ممارسة المهنة وممارسة الإهانة .

ما يجري في كثير من إعلامنا فساد أخلاق بكل معنى الكلمة .

لذلك إذا أردنا أن نكون صحافيين حقيقيين وإعلاميين حقيقيين ، علينا الإلتزام بأخلاقيات المهنة ، وهي لا تحتاج لا إلى تعريف ولا إلى تفصيل.

بطبيعة الحال : أتفهم واقع خضوع أكثر المؤسسات الصحافية والإعلامية العربية لجهات وأطراف سياسية  سلطوية أو معارضة أو لجماعات التمويل ، ولكن ، ومع ذلك ، فإن التعبير عن الخط السياسي لهذه الأطراف أو تلك الجماعات ، ليس بالضرورة أن يكون بالشتيمة ، وليس بالضرورة  أن يتحول الصحافي والإعلامي إلى بوق ، وليس بالضرورة أن تكون الكلمة أو الصورة حقنة من السُم الزعاف  الذي يوزع الحقد والكراهية على كل جانب .

وها ... نحن نحصد الثمار المرة لذلك .

عشتم وعاشت الجزائر

عشتم وعاش لبنان

عشتم وعاش الوطن العربي


تنويه | المقالات المنشورة في الموقع تمثل رأي صاحبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي أسرة الموقع

جميع الحقوق محفوظة لموقع جامعة الأمة العربية © 2021 - 2013