قانون الأجواء والفضاء الخارجي الدراسات والتوثيق | قانون الأجواء والفضاء الخارجي
تاريخ النشر: 12-05-2020

بقلم: ماهر ملندي

نظريات السيادة على الأجواء الوطنية
تنظيم الملاحة الجويـة الدوليــة
النظام القانوني للفضاء الخارجي

تنشأ الدولة بتوافر أركانها الثلاث، وهي الإقليم والشعب والسلطة، ويشمل إقليم الدولة مكوناته الطبيعية من البر والبحر والجو وبما يتوافق مع قواعد القانون الدولي المتعلقة بالحدود والمناطق البحرية الخاضعة للولاية الوطنية. وقد أُثيرت بعمق مسألة تحديد النظام القانوني للأجواء التي تعلو إقليم الدولة منذ نشوب الحرب العالمية الأولى واستخدام الطائرات وسيلة لنقل الأشخاص والبضائع ما بين الدول وسلاحاً فتّاكاً في الحروب. ومع تسارع الاختراعات والتطور التقني واكتشاف الأقمار الصناعية والمركبات الفضائية والصواريخ بعيدة المدى؛ اخترق الإنسان طبقة الفضاء الخارجي التي ينعدم فيها الهواء والجاذبية الأرضية، وهذا ما جذب اهتمام الدول والهيئات الدولية والفقهية للبحث عن نظام قانوني يتلاءم مع طبيعة الأجواء الوطنية التي تعلو إقليم الدولة مباشرة وتتصل بالأرض وتدور معها، وكذلك الفضاء الخارجي الذي يعلو الغلاف الهوائي للكرة الأرضية وتحلّق فيه الكواكب والأجرام السماوية بفعل انعدام الهواء والجاذبية.
أولاً ـ نظريات السيادة على الأجواء الوطنية
بدأت مسألة تحديد النظام القانوني للأجواء الوطنية وحقوق الدول فيها وما تتمتع به من سلطان عليها تجذب اهتمام فقهاء القانون الدولي ومؤسساته منذ نهايات القرن التاسع عشر بعدما استطاع الإنسان بفعل التطور العلمي ارتياد هذه الأجواء بالمنطاد، ثم بواسطة الطائرات الشراعية والعادية. ولكن مالبث أن اختلف الفقهاء فيما بينهم حول مسألة التكييف القانوني لمدى ممارسة الدولة لسيادتها وولايتها الوطنية على المجال الجوي الذي يعلو إقليمها البري والبحري. وقد برزت بهذا الشأن ثلاث نظريات فقهية رئيسة، واستقر التعامل الدولي في نهاية المطاف على الأخذ بإحداها فقط، لكونها تعد الحل الوسط بين هذه النظريات وأقربها إلى منطق التعايش والتعاون الدوليين.
1ـ نظرية الأجواء الحرة
وبموجبها لا تتمتع الدولة بحق ممارسة السيادة على جميع الأجواء التي تعلو إقليمها، ويشمل ذلك جميع الطبقات الهوائية والفضاء الخارجي والتي يجب أن يكون استخدامها متاحاً لجميع الدول، فالأجواء لا تعد إحدى عناصر إقليم الدولة لعدم إمكانية تحديدها بدقة، ويتشابه نظامها مع ذاك المقرر للبحار العامة أو أعالي البحار؛ من حيث إنها لا تخضع لسيادة أي دولة ولا يمكن حيازتها بوضع اليد أو بالتملك، ويجب بالتالي الانتفاع بها بكل حرية ومن دون قيود من قبل جميع الدول. وقد تعرّضت هذه النظرية لانتقادات شديدة نظراً لمغالاتها في التغاضي عن حقوق الدول ومصالحها. فإذا ما كان من الجائز الأخذ بها فيما يتعلق بالفضاء الخارجي لكونه يخرج عن السيطرة الفعلية لسلطات الدول؛ بيد أنها تعد خطراً على السلامة الإقليمية للدولة التي لم يعد بإمكانها ممارسة الرقابة على المجال الجوي الذي يعلو إقليمها مباشرة، وهذا ما قد يحول دون ممارسة حقها في الدفاع عن نفسها ضد الطائرات وغيرها من المركبات الجوية والفضائية الأخرى والتي تستطيع القيام بأعمال عدائية وتجسسية في هذه الأجواء، مما يهدّد أمن الدول وسلامتها.
2ـ نظرية السياد المقيّدة:
وبمقتضاها تتمتع الدولة بالسيادة على الأجواء التي تعلو إقليمها حتى ارتفاع معين من سطح الأرض، وما علا ذلك يعد حراً لاستخدامه من قبل جميع الدول. ويتشابه مضمون هذا الاتجاه الفقهي مع النظام القانوني للبحر الإقليمي الذي يخضع لولاية الدولة الساحلية حتى مسافة معينة؛ تمَّ تحديدها باثني عشر ميلاً بحرياً بدءاً من خطوط الأساس على الشاطئ، وكما وردت في اتفاقيتي جنيڤ لعام 1958م وجامايكا لعام 1982 حول قانون البحار. وبالتالي تتمتع الطائرات الأجنبية بحق المرور البريء في الأجواء الوطنية ضمن حدود معينة كما هو الأمر بالنسبة إلى السفن العابرة للمياه الإقليمية، أما ما علا ذلك من هذه الأجواء فتبقى حرة باستخدامها من قبل جميع الدول كما هو الأمر بالنسبة إلى الوضع القانوني في أعالي البحار. ومع ذلك فقد عجز مؤيدوا هذه النظرية عن تحديد مدى ارتفاع الجو الذي تستطيع الدولة من خلاله ممارسة السيادة عليه، وذلك على الرغم من بروز بعض المقترحات حول إمكانية تحديده بأقصى ارتفاع يمكن للدولة أن تبلغه بما تقيمه من منشآت ومبانٍ، وهذا ما لا يتوافق حتماً مع التطورات العلمية المعاصرة.
3ـ نظرية السيادة المطلقة
ومؤداها أن الدولة تستطيع ممارسة سيادتها التامة على جميع طبقات الهواء التي تعلو إقليمها، وتعد بالتالي أجواءَها الوطنية وعنصراً أساسياً من عناصر إقليم الدولة، أما ما يعلو هذه الطبقات من فضاء خارجي فلا يخضع لسيادة أي دولة. وقد انطلقت هذه النظرية من مبدأ أنه لا يمكن أن تستقيم الحياة من دون الانتفاع من الهواء الذي يعلو الأرض ويحوم حولها، مما يسمح للطائرات بالتحليق بردّ فعل الهواء. وهنا لا يُشترط أن تمارس الدولة سيطرتها الفعلية على الأجواء الوطنية نظراً لعدم استطاعتها فرض حيازتها المادية عليها، وإنما يُكتفى بإمكانية فرض سلطانها على هذه الأجواء بواسطة ما تملكه من طائرات ووسائل دفاعية أخرى. ولا ينطبق هذا التعريف على طبقات الفضاء الخارجي التي ينعدم فيها الهواء والجاذبية، ولا تستطيع الدولة فرض سيطرتها عليها وعلى المركبات الفضائية والأقمار الصناعية التي تحلّق لمسافات شاهقة وتدور حول الأرض بسرعة هائلة. وقد استقرّ القانون الدولي على الأخذ بهذه النظرية لكونها تمثّل تسوية توفيقية بين هؤلاء الذين يؤيدون فكرة حرية الأجواء مهما علت فوق الأرض وعدم خضوعها لسيادة أي دولة، وأولئك الذين يناصرون الاتجاه القائل بتحديد ممارسة الدولة لسيادتها على الأجواء الوطنية حتى ارتفاع معين فقط.
من حيث النتيجة تمارس الدولة سيادتها التامة على الأجواء الوطنية التي تعلو إقليمها وتحلّق فيها الطائرات بردّ فعل الهواء، أما الفضاء الخارجي الذي يعلو هذه الأجواء فلا يخضع لسيادة أي دولة ويبقى حراً باستخدامه من قبل جميع الدول، ولكن ضمن حدود قواعد القانون الدولي المتعلقة بتنظيم الملاحة الجوية الدولية واستخدام الفضاء الخارجي.
ثانياً ـ تنظيم الملاحة الجويـة الدوليــة
اهتمّ المجتمع الدولي بتنظيم الملاحة الجوية الدولية ـ أي تلك التي تتعدى حدود الدولة الواحدة ـ بعدما انتشر استخدام الطائرات المدنية في نقل الركاب والبضائع بين الدول منذ بدايات القرن العشرين. وفي نهاية الحرب العالمية الأولى التي استخدمت فيها الطائرات الحربية أول مرة في التاريخ؛ تولّى مؤتمر الصلح مهمة وضع نظام قانوني دولي للملاحة الجوية بعدما تبيّن عدم وجود قواعد قانونية عامة وعرفية مستقرة بهذا الشأن، وانتهى فيها المؤتمر بعقد اتفاقية باريس بتاريخ 13/10/1919م حول تنظيم الملاحة الجوية الدولية؛ والتي دخلت حيّز النفاذ بدءاً من عام 1922م، ولكن بقيت معظم الدول الأمريكية خارج هذه الاتفاقية، وعقدت فيما بينها اتفاقية إقليمية مماثلة، وهي اتفاقية هاڤانا لعام 1928. كما لم تنل اتفاقية باريس لعام 1919م تصديق جميع الدول التي وقعتها، بل رفضت بعض الدول الانضمام إليها لكونها اعتمدت مبدأ ممارسة الدولة لسيادتها على أجوائها الوطنية، وهذا ما يخالف وجهة نظر بعض الدول كسويسرا وهولندا التي كانت تفضّل اعتماد مبدأ حرية الأجواء الوطنية. وهكذا عمد العديد من الدول إلى عقد اتفاقيات ثنائية تمنح بمقتضاها حقوقاً متبادلة بين بعضها باستخدام مجالاتها الجوية الوطنية؛ لكون اتفاقية باريس كانت نتيجة لتسويات اتفاقية بين أطرافها أكثر منه اعترافاً بنظام موضوعي مستقر. وقد أتاح التقدم العلمي في صناعة الطائرات ضرورة وضع قواعد جديدة للملاحة الجوية، فانعقد مؤتمر دولي آخر تمخّض عنه إبرام اتفاقية شيكاغو بتاريخ 7/12/1944 في نهايات الحرب العالمية الثانية. ومع تكاثر عمليات خطف الطائرات وتحويل مساراتها؛ فقد تمّ إبرام مجموعة من الاتفاقيات الدولية لقمع المخالفات المرتكبة على ظهر الطائرات والاستيلاء غير المشروع عليها؛ كاتفاقية طوكيو المعقودة بتاريخ 14/9/1963م؛ واتفاقية لاهاي المؤرخة في 16/12/1970م؛ واتفاقية مونتريال المبرمة في 23/9/1971م. كما تجدر الإشارة هنا إلى أنه قد تمّ توحيد القواعد القانونية الخاصة بالمسؤولية المدنية عن حوادث الطيران ضمن ما يُعرف باتفاقية وارسو لعام 1929م؛ المعدّلة وفق بروتوكول لاهاي لعام 1955م واتفاق مونتريال لعام 1999م حول النقل الجوي الدولي.
1ـ اتفاقية باريس لعام 1919م
اعتمدت اتفاقية باريس لعام 1919م عدداً من المبادئ المتعلقة بتنظيم الملاحة الجوية والتي خضعت فيما بعد لعدة تعديلات لاحقة، وأهمّ هذه المبادئ:
1ـ سيادة الدولة على أجوائها الوطنية؛ إذ تتمتع كل دولة طرف بممارسة كامل السيادة على الأجواء التي تعلو إقليمها البري ومياهها الإقليمية، ولكن ضمن حدود ضمان حرية الطيران والملاحة الجوية.
2ـ حرية الملاحة الجوية؛ إذ تلتزم الدول الأطراف المتعاقدة فيما بينها بتأمين ممارسة حق المرور البريء وقت السلم لطائراتها التجارية والمدنية في الأجواء الوطنية لهذه الدول وفقاً للأحكام الواردة في الاتفاقية.
3ـ المساواة في المعاملة بين جميع الطائرات الأجنبية التي تحلّق في الأجواء الوطنية لدولة ما ومن دون أي تمييز ذي طابع سياسي أو تبعاً لجنسية الطائرة.
4ـ حق الدولة المتعاقدة بمنح الترخيص المسبق من قبلها لتنظيم الخطوط الملاحية الجوية المارّة في أجوائها الوطنية.
5ـ حق الدولة المتعاقدة بمنح تصريح خاص من أجل السماح للطائرات الحربية وتلك التي لا تقوم بأداء خدمات تجارية كطائرات الشرطة والجمارك والبريد؛ بالتحليق في أجوائها الوطنية.
6ـ يجوز للدولة المتعاقدة تقييد حق المرور البريء للطائرات الأجنبية التي تسعى إلى التحليق فوق أجوائها الوطنية لاعتبارات عسكرية أو لأسباب تتعلق بالأمن والسلامة العامة.
7ـ لكل دولة طرف في الاتفاقية الحق بأن تحتفظ بممارسة الملاحة الجوية الداخلية لرعاياها فقط أو لشركات الطيران الوطنية فيها.
8ـ لا يجوز لطائرات أي دولة غير طرف في الاتفاقية ممارسة حق التحليق فوق إقليم إحدى الدول الأطراف فيها إلاّ بتصريح خاص من الدولة المعنية.
9ـ إرساء التعاون لتنظيم الملاحة الجوية، وذلك بإنشاء اللجنة الدولية للملاحة الجوية والتي تمارس اختصاصاتها فيما يتعلق بشؤون الطيران المدني تحت إشراف عصبة الأمم، وكانت هذه اللجنة تتمتع بسلطات واسعة إدارية وتشريعية وقضائية.
10ـ تتحدد جنسية الطائرة بمكان تسجيلها لدى دولة معينة، ولكن لا يمكن لأي دولة أن تسمح بتسجيل طائرة ما لديها مالم تكن ملكيتها عائدة بالكامل إلى رعاياها. وهذا ما يساعد على تحديد مسؤولية الدولة فيما يتعلق بالتدابير العامة للسلامة الجوية وحماية طائراتها عند الاقتضاء.
وقد تمّ فيما بعد إدخال تعديلات عديدة على نصوص اتفاقية باريس لعام 1919م بحيث أجازت للدول الأطراف في الاتفاقية التعاقد مع دول أخرى غير أطراف للسماح لها بممارسة حرية الملاحة في أجوائها؛ شريطة عدم المساس بحقوق الدول الأطراف وبالمبادئ العامة للاتفاقية، كما تمّ إقرار مبدأ المساواة المطلقة في التصويت بين جميع الدول الأعضاء في اللجنة الدولية للملاحة الجوية.
2ـ اتفاقية شيكاغو لعام 1944م
أرست اتفاقية شيكاغو لعام 1944م نظام الملاحة الجوية المعمول به حالياً. وهي تتألف في حقيقة الأمر من عدة وثائق تتعلق بالطيران المدني الدولي وتنظيم الخطوط الجوية، وبعض الشؤون الإدارية والفنية المتعلقة بتسجيل الطائرات ومنح شهادات الملاحين وغيرها من الأمور الأخرى المتصلة بهذا الشأن. وتقرّ هذه الاتفاقية الحريات الرئيسية التالية المتعلقة بممارسة حق الملاحة الجوية في الأجواء الوطنية لدولة ما، وهي:
1ـ حرية الطائرات التجارية للدول الأطراف بعبور الأجواء الوطنية بين بعضها في أثناء تحليقها المنتظم ومن دون هبوط.
2ـ حرية الطائرات التجارية للدول الأطراف بالهبوط في مطارات بعضها لأسباب فنية بحتة؛ كالتزود بالوقود أو إصلاح عطب فني طارئ.
3ـ حرية الطائرات التجارية المستعملة في الملاحة الجوية المنتظمة بنقل الأشخاص والبضائع والبريد بين إقليم الدولة التي تحمل الطائرة جنسيتها وإقليم دولة طرف أخرى وبالعكس.
4ـ حرية الطائرات التجارية المستعملة في الملاحة الجوية المنتظمة بنقل الأشخاص والبضائع والبريد من إقليم كل دولة طرف في الاتفاقية وإليه.
وقد نصّ نظام شيكاغو على ضرورة عقد اتفاقيات ثنائية بين الدول لمنح المزيد من الحريات المنصوص عليها في هذا النظام ولتنظيم الخدمات الجوية الدولية، سواء أكان ذلك مع دول متعاقدة أم مع دول أخرى. وأخيراً فقد أحدثت اتفاقية شيكاغو لعام 1944م منظمة الطيران المدني الدولي، وقد أُلحقت منذ عام 1947م بهيئة الأمم المتحدة بوصفها إحدى وكالاتها المتخصصة. وتهدف هذه المنظمة إلى إنماء التعاون الفني، وتوحيد قواعد الملاحة الجوية الدولية، وتشجيع صناعة الطيران، وتوفير وسائل النقل الجوي وتطويرها، وكذلك تأمين سلامة الطيران، وحظر المنافسة غير المشروعة والتمييز في المعاملة، وضمان عدالة ملائمة لاستخدام الخطوط الجوية الدولية، والاهتمام بالمسائل الفنية المتعلقة بشهادات الطيارين والشروط الصحية وقواعد الطيران والنقل…إلخ. وتتألف المنظمة من الجمعية العامة التي تضم ممثلي جميع الدول الأعضاء على قدم المساواة؛ والمجلس التنفيذي ويتألف من ممثلي إحدى وعشرين دولة تنتخبهم الجمعية العامة لمدة سنتين مراعية التمثيل الجغرافي والدول ذات الأهمية الخاصة في النقل الجوي، وهنالك أخيراً الأمانة العامة التي تتألف من الأمين العام وعدد من الإداريين والفنيين، ومقرها مدينة مونتريال في كندا. وقد قامت فيما بعد شركات الطيران بإنشاء الهيئة الدولية للنقل الجوي كمنظمة دولية غير حكومية تهدف إلى توحيد أسعار النقل الجوي وأجوره.
وقد تكاثرت عمليات خرق الأجواء الوطنية من قبل الطائرات الأجنبية، سواء المدنية منها أم الحربية، كما قامت بعض الدول بمحاولات لممارسة سلطاتها الإدارية أو القضائية على الطائرات التي تعبر مجالها الجوي، وقد عمدت أحياناً إلى قصف الطائرة وتدميرها أو إجبارها على تغيير مسارها أو الهبوط في إقليمها؛ مستندة في تبرير تصرفها هذا بما ورد في اتفاقية شيكاغو لعام 1944م حول حق الدولة بممارسة سيادتها على الأجواء الوطنية التي تعلو إقليمها، مما أدى في معظم الأحيان إلى إثارة نزاعات وأزمات دولية خطرة. ففي عام 1946م خرقت عدة طائرات حربية أمريكية الأجواء الوطنية ليوغسلاڤيا السابقة فقامت هذه الأخيرة بإسقاط بعضها أو إجبارها على الهبوط واستجواب ملاحيها وركابها. وخلال حقبة الستينيات من القرن الفائت أقدمت القوات السوڤييتية سابقاً على إسقاط عدة طائرات تجسس أمريكية أو إجبارها على الهبوط. وقد تمكنت المدفعية السورية عام 1981م من إسقاط طائرة تجسس إسرائيلية من دون طيار. كما استطاعت المدفعية البلغارية عام 1955م من إسقاط طائرة تجارية إسرائيلية أقدمت على خرق الأجواء الوطنية لبلغاريا، مما أسفر عن مقتل جميع ركاب الطائرة وملاحيها، وقد تم الاتفاق حينها على أن تقوم بلغاريا بدفع تعويضات لضحايا الطائرة على سبيل الأخلاق والمبادئ الإنسانية. بالمقابل قامت المقاتلات الإسرائيلية عام 1973م ومن دون إنذار مسبق بإسقاط طائرة مدنية ليبية فوق شبه جزيرة سيناء المحتلة في ذلك الوقت، بعدما أخطأ الطيار مساره نتيجة سوء الأحوال الجوية، وقد أدانت حينها المنظمة الدولية للطيران المدني هذا الإجراء وعدته خطراً على سلامة الملاحة الجوية وخرقاً لبنود اتفاقية شيكاغو لعام 1944م. وكانت إحدى أهم الحوادث الشهيرة بهذا الصدد ما حصل عام 1988م عندما أقدمت البحرية الأمريكية على إسقاط طائرة مدنية إيرانية كانت تحلق فوق الخليج العربي، مما أدى إلى مقتل جميع ملاحيها وركابها. وقد وافقت السلطات الأمريكية فيما بعد، وبعد مفاوضات عسيرة، على أداء تعويضات لأسر الضحايا.
ونتيجة لما أثارته هذه الحوادث الخطرة على سلامة الطيران والملاحة الجوية؛ فقد استقرّ التعامل الدولي بهذا الشأن على ضرورة التمييز بين حالتين:
> خرق الطائرات المدنية الأجنبية للأجواء الوطنية لدولة ما، وهنا لا يجوز استخدام القوة لإسقاط الطائرة أو تدميرها أو تعريض حياة ركابها للخطر؛ وحفاظاً على سلامة الطيران المدني، وذلك مع الاعتراف بأن هذا الخرق يعد تعدياً على سيادة الدولة التي تمّ خرق أجوائها الوطنية، وهي تتحمل مع ذلك المسؤولية فيما إذا أسقطت الطائرة. وجلَّ ما تستطيع فعله هو إجبار الطائرة على الهبوط من دون تعريض ملاحيها وركابها أو سلامة الملاحة الجوية للخطر، أو إجبار هذه الطائرة على مغادرة أراضيها، ثم الاحتجاج لدى الدولة التي تحمل الطائرة جنسيتها وتحميلها مسؤولية هذا التصرف.
> خرق الطائرات الحربية الأجنبية للأجواء الوطنية لدولة ما، وهنا تستطيع هذه الدولة إجبار الطائرة المعتدية على مغادرة أجوائها الوطنية وتغيير مسارها؛ أو الهبوط في إقليمها وممارسة ولايتها الإدارية والقضائية عليها؛ أو تدمير الطائرة في حال عدم الإذعان لتعليمات الدولة التي خرقت هذه الطائرة أجواءَها.
3ـ اتفاقية روما لعام 1952م
تتعلق هذه الاتفاقية بالمسؤولية عن الأضرار التي تصيب طرفاً ثالثاً على الأرض بواسطة طائرات أجنبية، فقد تمّ الأخذ بمبدأ المسؤولية المشدّدة، وليس على المدعي المتضرر سوى إثبات أن الضرر الذي أصابه قد نتج مباشرة من طائرة في حالة تحليق؛ أو بسبب شخص؛ أو شيء سقط من الطائرة في أثناء طيرانها، وذلك وفق القواعد العامة المطبقة على الملاحة الجوية. كما اعتمدت هذه الاتفاقية أيضاً مبدأ المسؤولية المطلقة أو ما يسمى بالحيطة المتوجبة؛ إذ يتحمل الناقل المسؤولية عن الأضرار التي تصيب طرفاً ثالثاً في أثناء تحليق الطائرة، حتى لو لم يتم إثبات ارتكاب أي خطأ من جهته؛ إذ من المتوجب على الناقل اتخاذ جميع الإجراءات الضرورية والحيطة لمنع وقوع ضرر كهذا، ما لم يتم إثبات أن هذا الضرر قد وقع نتيجة لإهمال المتضرر أو خطئه. وبخلاف ذلك، يستطيع الشخص المتضرر المطالبة بالتعويض بعد التأكد من وجود علاقة السببية بين الطائرة الأجنبية والضرر الذي أصابه منها.
4ـ اتفاقية طوكيو لعام 1963م
تمّ عقد هذه الاتفاقية برعاية المنظمة الدولية للطيران المدني، وذلك بعدما انتشرت منذ النصف الثاني من القرن العشرين حوادث خطف الطائرات والجرائم المرتكبة على متنها. وهذا ما أثار المجتمع الدولي للبحث عن أفضل السبل لقمع مثل هذه الظاهرة وتلافيها، وخاصة مع قصور التشريعات الوطنية بفرض العقاب المناسب على جرائم خطف الطائرات التي غالباً ما يتم ارتكابها لدوافع سياسية، وكذلك بسبب بروز حالات تنازع بين القوانين الوطنية النافذة بهذا الصدد. ويمكن إيجاز أهم ما تضمنته اتفاقية طوكيو من أحكام بما يلي:
1ـ تلتزم الدول المتعاقدة باتخاذ جميع التدابير اللازمة لإعادة الرقابة على الطائرات واستمرارها من قبل طاقمها؛ فيما إذا تعرضت خلال تحليقها للعنف أو التهديد به بطريقة غير مشروعة بهدف عرقلة استخدامها أو للاستيلاء عليها؛ أو في حال الشروع للقيام بهذا العمل.
2ـ يتوجب على الدول المتعاقدة في حال ارتكاب جريمة خطف الطائرة والاستيلاء عليها؛ تمكين طاقمها بإعادة فرض سيطرته ورقابته عليها والسماح للركاب ولطاقمها بعد هبوطها بالسفر في أقرب وقت ممكن، وكذلك إعادة الطائرة مع حمولتها إلى من لهم الحق بحيازتها، واتخاذ جميع التدابير اللازمة بحق المتهم بخطف الطائرة لتتم محاكمته جنائياً أو تسليمه أو إبعاده.
3ـ يطبق القانون الوطني لمكان تسجيل الطائرة على الأفعال الجنائية المرتكبة على متنها، وأيضاً قانون الدولة التي تمتد إليها آثار الجريمة فيما إذا أُرتكبت ضد رعاياها أو تضر بأمنها العام.
4ـ يجوز لقائد الطائرة ممارسة سلطة التحقيق على متن طائرته بالنسبة إلى المسائل السيادية، أو فيما إذا تعرضت هذه الطائرة لمحاولات خطف أو مضايقة للطاقم في أثناء التحليق.
ويُلاحظ ـ عامة ـ أن اتفاقية طوكيو لعام 1963م لم تحدّد بالتفصيل من يحق له الأولوية في ممارسة الاختصاص بالنسبة إلى الجرائم المرتكبة ضد الطائرات أو على متنها؛ أو كيفية تسليم المتهم بارتكاب هذه الجرائم، ولذلك اتسمت نصوصها بالغموض والعمومية.
5ـ اتفاقية لاهاي لعام 1970م
وهي تتعلق فقط بقمع جرائم الاستيلاء غير المشروع على الطائرات في أثناء تحليقها في الأجواء الوطنية لدولة ما. وقد عرّفت المادة الأولى من الاتفاقية هذه الجريمة بأنها أي فعل غير مشروع يُقدم عليه شخص موجود على متن الطائرة في أثناء التحليق بواسطة استخدام العنف أو التهديد به أو الشروع بارتكاب هذا الفعل بقصد الاستيلاء على الطائرة أو السيطرة عليها، أو فيما إذا اشترك مع أي شخص آخر للقيام أو الشروع في ارتكاب مثل هذه الأفعال. وبموجب هذه الاتفاقية تباشر إحدى الدول التالية اختصاصاتها من أجل ملاحقة مرتكبي هذه الجرائم وإيقاع العقاب بهم، وهي: دولة تسجيل الطائرة أو دولة الهبوط أو الإقامة الدائمة أو عمل مستأجر الطائرة أو الدولة التي يتواجد الخاطف على أرضها. وقد تعرّضت هذه الاتفاقية لانتقادات عديدة لكونها لا تتضمن أي تعريف للطائرة؛ ولعدم تحديدها من يملك حق الأولوية في ممارسة الاختصاص على الخاطف بين الدول الآنفة الذكر؛ أو مقدار العقوبات المتوجب فرضها بهذا الصدد؛ ولعدم شمولها للجرائم المرتكبة ضد الطائرات الجاثمة في المطارات؛ أو لصلاحيات قائد الطائرة عند ارتكاب جريمة الاستيلاء غير المشروع على طائرته في أثناء تحليقها في الجو.
6ـ اتفاقية مونتريال لعام 1971م
تمّ عقد هذه الاتفاقية لتلافي القصور في النصوص القانونية الواردة في اتفاقيتي طوكيو لعام 1963م ولاهاي لعام 1970م والتي لم تستطع الحد من حوادث خطف الطائرات والاستيلاء عليها. لذلك جاءت بنود اتفاقية مونتريال شاملة لجميع الأفعال غير المشروعة المرتكبة ضد سلامة الطيران المدني، سواء تلك الموجهة ضد الطائرات في أثناء التحليق أم خلال وجودها على الأرض، أو ضد المنشآت الأرضية في المطارات. وهذه الأفعال هــي:
1ـ ارتكاب عمل من أعمال العنف ضد شخص على متن طائرة في أثناء التحليق يخلّ بسلامة الطائرة.
2ـ تدمير طائرة في الخدمة أو التسبب بأضرار بها تجعلها غير صالحة للطيران أو تخلّ بسلامتها في أثناء التحليق.
3ـ وضع جهاز أو مواد في طائرة خلال خدمتها من شأنها تدمير الطائرة أو التسبّب بأضرار تجعلها غير صالحة للطيران أو تخلّ بسلامتها في أثناء التحليق.
4ـ تدمير منشآت الملاحة الجوية أو إيقاع الضرر بها أو عرقلة عملها، مما يعرّض سلامة الطائرات للخطر في أثناء الطيران.
5ـ التبليغ عمداً عن معلومات خاطئة ومضللة يمكنها تعريض سلامة الطائرة للخطر في أثناء التحليق.
يُستنتج إذاً من هذه النصوص أنها تشترط دائماً توافر النية الجرمية واللامشروعية في ارتكاب الأفعال ضد سلامة الطيران المدني. وهي تشمل جميع الأفعال المرتكبة ضد الطائرة من شخص على متنها أو خارجها. كما أن تدمير الطائرة أو الإضرار بها يجب أن يتم في أثناء وجودها في الخدمة. وقد حدّدت الاتفاقية الفترة التي تكون فيها الطائرة في الخدمة منذ لحظة إعدادها للقيام برحلة معينة وفي أثناء تحليقها في الجو حتى انقضاء مدة أربع وعشرين ساعة على الهبوط.
ولا تزال حوادث خطف الطائرات والاعتداء عليها تتكرر من حين إلى آخر على الصعيد الدولي. وقد ترفض بعض الدول تسليم الفاعل وتحيله إلى المحاكمة أمام سلطاتها القضائية التي قد تكون أكثر تعاطفاً مع ميوله السياسية وتتهاون في فرض العقوبات المناسبة عليه، أو قد تعمد إلى منحه حق اللجوء السياسي وتطبيق مبدأ عدم تسليم المجرمين السياسيين. وتاريخ العلاقات الدولية حافل بالشواهد على ذلك.
7ـ اتفاقية مونتريال لعام 1999م
كما هو الحال بالنسبة إلى تنظيم الملاحة الجوية فقد حظيت مسألة النقل الجوي بالكثير من الاهتمام من قبل المشرع الدولي؛ إذ تمّ بتاريخ 12/10/1929م توقيع اتفاقية وارسو حول عقد النقل الجوي الدولي، بيد أن هذه الاتفاقية قد طرأ عليها عدة تعديلات فيما بعد لتتلاءم نصوصها مع التطورات الحديثة، كان آخرها ما ورد في اتفاقية مونتريال المؤرخة في 28/9/1999م حول توحيد النظام القانوني للنقل الجوي الدولي.
وكانت اتفاقية وارسو تنص على أن الناقل الجوي يتحمل مسؤولية تعاقدية محدودة، أساسها الخطأ المفترض من قبله، فالراكب أو الشاحن لا يلتزم بإقامة الدليل على وجود الخطأ من جانب الناقل؛ الذي يستطيع مع ذلك التحلل من المسؤولية إذا أثبت أنه هو وتابعوه قد اتخذوا جميع التدابير اللازمة لتلافي الضرر، أو كان من الاستحالة عليهم اتخاذها، أو أن المضرور قد أسهم بخطئه في إحداث الضرر. كما حدّدت الاتفاقية مقدار التعويض المتوجب أداؤه في حال إثبات مسؤولية الناقل عن الأضرار التي تصيب الركاب والأمتعة والبضائع. وقد تمّ تعديل اتفاقية وارسو عام 1971م بحيث أصبحت مسؤولية الناقل مطلقة، أي الإحالة إلى ما يسمى بالمسؤولية الموضوعية أو الحيطة المتوجبة، فالناقل مسؤول في حال وفاة المسافر أو إصابته بأذى جسدي أو ضياع أمتعته أو تلفها، حتى لو لم يتم إثبات أي خطأ من قبله؛ إذ تقوم المسؤولية المطلقة على فكرة حصول الضرر، باستثناء ما إذا أسهم المتضرر في حصوله أو كانت الحالة الصحية للراكب لا تسمح بتلافيه.
ومن جهة أخرى نصت المادة الأولى من اتفاقية مونتريال الجديدة لعام 1999م على أنها تسري على كل نقل دولي للأشخاص أو الأمتعة أو البضائع تقوم به طائرة بمقابل، أو على النقل المجاني بطائرة تقوم به مؤسسة للنقل الجوي. أي إن بنود الاتفاقية تنطبق فقط على النقل المدفوع لغايات تجارية، أو ذاك الذي تقوم به مؤسسة للنقل الجوي كما يحصل عادة عندما يتم نقل بعض الشخصيات الدولية المشهورة؛ أو عند منح تذاكر مجانية كمزايا عينية لموظفي شركات الطيران. والمقصود بالنقل الجوي الدولي هو ذاك الذي تكون فيه نقطتا المغادرة والمقصد النهائي ـ وفقاً للعقد المبرم بين الأطراف ـ واقعتين إما في أقاليم دولتين طرفين في الاتفاقية، وإما في إقليم دولة واحدة طرف في الاتفاقية، وفيما إذا كانت هناك نقطة توقف متفق عليها في إقليم دولة أخرى؛ حتى وإن لم تكن تلك الدولة طرفاً في الاتفاقية. كما يُعد النقل الجوي دولياً إذا قام به عدد من الناقلين المتتابعين نقلاً واحداً لا يتجزأ، وسواء أكان الاتفاق بشأنه قد أبرم في صورة عقد واحد أم في سلسلة من العقود. بالمقابل لا تشمل هذه الاتفاقية النقل الجوي الدولي لأغراض غير تجارية كنقل الرسائل والطرود البريدية أو عمليات الإنقاذ؛ أو النقل لأهداف علمية؛ أو الذي تقوم به الدولة بوصفها سلطة ذات سيادة، أو النقل الجوي لتابعي الناقل كقائد الطائرة وطاقمها الذين يرتبطون بعقد عمل مع الناقل لخدمة المسافرين.
وبموجب اتفاقية مونتريال لا تختلف طبيعة عقد الناقل الجوي عن غيره من عقود النقل الأخرى، وهو اتفاق يتم إبرامه بين المسافر أو مرسل البضاعة وبين الناقل الجوي، يتعهد هذا الأخير بمقتضاه بنقل المسافر وأمتعته أو البضاعة بواسطة الطائرة من مكان إلى آخر خلال مدة معينة، وذلك لقاء أجر محدد. ويخضع هذا العقد في إبرامه للقواعد العامة في العقود من حيث ضرورة توافر الأهلية والرضا والمحل والسبب. وتمثل تذاكر السفر ووثائق الشحن إحدى أهم وسائل إثبات عقد النقل الجوي الذي يُعدّ في حقيقة الأمر من عقود الإذعان التجارية، ويجوز بالتالي إثباته بجميع طرق الإثبات المعروفة في القانون التجاري بما في ذلك البينة والقرائن. وإذا ما تحقّقت أركان العقد وشروط صحته؛ يكون الناقل حينها مسؤولاً عن جميع الأضرار التي قد تؤدي إلى وفاة الراكب أو إصابته أو هلاك البضاعة أو ضياعها أو إفسادها على متن الطائرة أو في أثناء أي عملية من عمليات صعود الركاب أو نزولهم. كما تنعقد مسؤولية الناقل نتيجة التأخير في نقل الركاب أو تحميل البضائع في الوقت المحدّد حسب ما هو وارد في عقد النقل الجوي. ولا يستطيع الناقل التحلل من المسؤولية إلاّ إذا أثبت وتابعوه ووكلاؤه أنهم قد اتخذوا جميع التدابير اللازمة للحيلولة دون وقوع الضرر، أو أن الضرر قد نشأ نتيجة إهمال أو ارتكاب خطأ من جانب الغير أو بفعل المتضرر. وهنا تجدر الإشارة إلى أنه لا يوجد حد أعلى للتعويض في حال وفاة الراكب أو إصابته؛ بعكس ما هو وارد بالنسبة إلى الأضرار الناشئة عن التأخير في نقل الراكب أو شحن البضائع أو إتلافها أو إفسادها. وقد نصت المادة (26) من اتفاقية مونتريال لعام 1999م على أن كل بند يهدف إلى إعفاء الناقل من مسؤوليته يكون باطلاً ولاغياً، ولكن لا يترتب على ذلك بطلان العقد بأكمله. وأخيراً فقد منحت المادة (33) من الاتفاقية للمدعي الخيار في إقامة دعوى التعويض سواء أمام محكمة مكان إقامة الناقل، أم محكمة مركز أعماله الرئيسي المسجلة فيه شركة الطيران، أم محكمة المكان الذي أبرم فيه الراكب أو الشاحن عقده واشترى منه تذكرته، أم محكمة المقصد النهائي للراكب، أم أمام محكمة مكان إقامته الرئيسي والدائم.
ثالثاً ـ النظام القانوني للفضاء الخارجي
فرضت التطورات والإنجازات العلمية الباهرة في مجال غزو الفضاء الخارجي ضرورة البحث عن نظام قانوني دولي يحدّد حقوق الدول التي ترتاد الفضاء والتزاماتها ولمواجهة جميع المسائل المتعلقة بهذه الظاهرة التي فاقت التصور والخيال. وكان الاتحاد السوڤييتي السابق أول من أطلق مركبته الفضائية «سبوتنيك» بتاريخ 4/10/1957م والتي أطلقت قمراً صناعياً دار حول الأرض على ارتفاع تسعمئة كيلومتر فوق سطح الأرض، أتبعته بقمر صناعي آخر بعد شهر، حلّق على ارتفاع ألف وخمسمئة كيلومتر. ثم سارعت الولايات المتحدة الأمريكية بالردّ عبر إطلاق ثلاثة أقمار صناعية على التوالي في عام 1958م. وقد ازداد النشاط الفضائي فيما بعد، وذلك عندما أطلق الاتحاد السوڤييتي مركبته الفضائية «فوستوك» بتاريخ 13/4/1961م وهي تحمل أول رائد فضاء؛ الروسي غاغارين، وقد قامت المركبة بدورة واحدة حول الكرة الأرضية قبل هبوطها بأمان في المكان المحدد لها. فقامت الولايات المتحدة الأمريكية بتاريخ 5/5/1961م بإطلاق المركبة الفضائية «ميركوري» وعلى متنها رائد الفضاء آلان شبرو، وذلك لمدة ربع ساعة فقط. وتتابعت بعد ذلك الرحلات الفضائية الناجحة إلى أن تحقق الإنجاز الرائع عندما تمكن الاتحاد السوڤييتي في أوائل شهر شباط/فبراير لعام 1966م من إنزال أول محطة فضائية «لونا 9» على سطح القمر، أتبعتها بمحطة أخرى «الزهرة 3» هبطت على سطح كوكب الزهرة بعد رحلة استغرقت نحو ثلاثة أشهر ونصف الشهر. ثم ما لبثت الولايات المتحدة أن حققت أهم إنجاز لها في مجال ارتياد الفضاء الخارجي عندما استطاعت في شهر تموز/يوليو لعام 1969م إنزال ثلاثة رواد فضاء على سطح القمر، بعدما حطت بهم المركبة الفضائية «أبولو 11» وأخذوا عينات من تربة القمر، كما قاموا بتثبيت أجهزة علمية على سطحه قبل أن يعودوا أدراجهم سالمين إلى الأرض وفق ما هو مخطط له. ومنذ ذلك الوقت بدأت الدول الكبرى بإرسال المركبات الفضائية للقيام باستكشاف الفضاء الخارجي والكواكب والأجرام السماوية وإجراء الاختبارات العلمية، كما أطلقت العديد من الأقمار الصناعية لتدور حول الأرض وتراقب ما يحدث في العالم وتجمع المعلومات عبر التنصت أو التجسس على المكالمات الهاتفية واللاسلكية. واستغلت كذلك هذا التطور العلمي الهائل من أجل استغلال الفضاء لأغراض عسكرية، كان أخطرها ما يسمى بـ«حرب النجوم» التي أعلنت عنها الولايات المتحدة الأمريكية خلال حقبة الثمانينيات من القرن الماضي. وباعتبار أن هذه النشاطات تتجاوز بآثارها حدود الدولة الواحدة لكونها تجري في الفضاء الخارجي الذي استقر التعامل الدولي بشأنه على أنه لا يخضع لسيادة أي دولة، لذلك أصبح من المنطقي إيجاد نظام قانوني خاص باستخدام الفضاء الخارجي يحدّد بموجبه حقوق جميع الدول التي ترتاد الفضاء وواجباتها؛ والمسؤولية الدولية عن الأضرار الناجمة عن هذه النشاطات.
1ـ جهود هيئة الأمم المتحـدة
بعد إطلاق القمر الصناعي السوڤييتي الأول إلى الفضاء أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة مباشرةً عدة قرارات متتابعة ما بين أعوام 1957و1961، طالبت بمقتضاها بدراسة جميع الوسائل اللازمة لاستخدام الفضاء الخارجي في الأغراض العلمية وإنشاء لجنة دولية حول الاستعمال السلمي للفضاء. وبتاريخ 13/12/1963م اعتمدت الجمعية العامة قرارها الشهير بشأن "إعلان المبادىء القانونية التي تحكم أنشطة الدول في مجال استكشاف واستخدام الفضاء الخارجي"، والذي يعبّر عن إرادة جميع الدل، بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوڤييتي السابق اللذان أبديا موافقتهما صراحة على احترام مبدأ حرية الفضاء واستخدامه للأغراض السلمية وفق قواعد القانون الدولي وإرساء التعاون والمساعدات المتبادلة، وخاصة فيما يتعلق بالمسؤولية عن الأضرار الناشئة من النشاطات التي تقوم بها الدول والمؤسسات الدولية في الفضاء الخارجي. وباعتبار أن قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة ليست مبدئياً سوى توصيات غير ملزمة؛ فقد كان من الصعوبة بمكان في ذلك الوقت اعتبار المبادئ التي أقرتها الجمعية العامة بإعلانها الصادر عام 1963م بمنزلة القواعد القانونية العامة الملزمة؛ لعدم توافر أركان العرف الدولي من حيث تواتر الدول على اتباع هذه المبادئ خلال فترة من الزمن والالتزام بها فعليا؛ نظراً لكون النشاطات المتعلقة بارتياد الفضاء الخارجي كانت لا تزال في بداياتها، لذلك فقد أشرفت الجمعية العامة على إبرام عدة اتفاقيات دولية تتضمن قواعد قانونية ملزمة بهذا الصدد، وهي:
1ـ معاهدة الفضاء الخارجي المؤرخة في 17/1/1967م والتي تشكّل الإطار العام لاستكشاف الفضاء الخارجي واستخدامه.
2ـ اتفاقية 3/12/1968م حول إنقاذ رواد الفضاء وإعادتهم.
3ـ اتفاقية 29/11/1971م المتعلقة بالمسؤولية الدولية عن الأضرار التي تسبّبها الأجسام الفضائية.
4ـ اتفاقية 5/12/1979م التي تحكم أنشطة الدول على سطح القمر والأجرام السماوية الأخرى.
وبناءً عليه فقد أبرم عدد من الدول الكبرى المهتمة بارتياد الفضاء اتفاقات ثنائية فيما بينها لترسيخ التعاون وتبادل الخبرات ضمن إطار المبادئ العامة لاستخدام الفضاء الخارجي، وأهمها الاتفاقيات المعقودة بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوڤييتي السابق في أواخر القرن العشرين حول التعاون العلمي لاستخدام الفضاء في الأغراض السلمية وحظر التجارب النووية في الجو والفضاء. وإضافة إلى قرارها الصادر عام 1963م حول إعلان المبادىء القانونية لاستكشاف الفضاء الخارجي واستخدامه؛ فقد اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة عدة قرارات أخرى بهدف توطيد هذه المبادئ واستكمالها. وأهم هذه القرارات:
1ـ القرار المؤرخ في 18/12/1982م المتعلق بالمبادئ التي تحكم استعمال الدول للأقمار الصناعية في خدمة البث التلفازي على المستوى الدولي.
2ـ القرار المؤرخ في 3/12/1986م حول المبادئ الخاصة بالاستشعار عن بُعد.
3ـ القرار المؤرخ في 14/12/1992م بخصوص استعمال مصادر الطاقة النووية في الفضاء.
وعموماً لا تخرج جميع الاتفاقيات والقرارات الدولية عن الإطار العام للمبادئ التي اعتمدتها معاهدة عام 1967م حول استكشاف الفضاء الخارجي واستخدامه، مما يستدعي إعطاء لمحة موجزة عنها.
2ـ معاهدة الفضاء الخارجي لعام 1967م
تشكّل هذه المعاهدة التي تمّ إبرامها بتاريخ 17/1/1967م الإطار القانوني العام الذي يحكم ارتياد الفضاء واستخدامه بما في ذلك الأجرام السماوية في الأغراض السلمية، وهي تقع في سبع عشرة مادة، وتتضمن المبادىء التي سبق وأقرّتها الجمعية العامة للأمم المتحدة بقرارها المؤرخ في 13/12/1963م حول استكشاف الفضاء الخارجي. ومن أهم هذه المبادئ:
1ـ يتوجب ارتياد الفضاء الخارجي واستخدامه، بما في ذلك القمر والأجرام السماوية الأخرى لمصلحة جميع الدول وفائدتها؛ بغض النظر عن مستواها الاقتصادي والعلمي.
2ـ يكون استكشاف الفضاء الخارجي واستخدامه ـ بما في ذلك الأجرام السماوية ـ حراّ لجميع الدول من دون تمييز، وعلى أساس المساواة، ووفقاً لقواعد القانون الدولي.
3ـ إن حرية البحث العلمي في الفضاء والقمر والأجرام السماوية الأخرى مكفولة للجميع، وعلى الدول أن تسهّل التعاون الدولي وتشجعه في هذا المجال.
4ـ لا يكون الفضاء الخارجي والأجرام السماوية محلاً للتملك الوطني على أساس السيادة أو الاستعمال أو وضع اليد أو لأي سببٍ آخر.
5ـ تقوم الدول بممارسة أنشطتها في استكشاف الفضاء الخارجي واستخدامه ـ بما في ذلك القمر والأجرام السماوية الأخرى ـ وفقاً لقواعد القانون الدولي وميثاق هيئة الأمم المتحدة؛ بغية الحفاظ على السلم والأمن الدوليين وتعزيز التعاون والتفاهم الدولي.
6ـ تتعهد الدول بألاّ تضع في الأجهزة التي تطلقها في مدار الأرض أي أسلحة نووية أو أي نوع آخر من أسلحة الدمار الشامل، وألاّ تضع كذلك أسلحة مماثلة في أي من الأجرام السماوية أو في الفضاء الخارجي وبأية صورة أخرى كانت.
7ـ يقتصر استخدام القمر وبقية الأجرام السماوية على الأغراض السلمية، ويحظّر إقامة قواعد ومنشآت عسكرية أو أي تحصينات أو إجراء تجارب ومناورات عسكرية.
8ـ يجب اعتبار الرواد والملاحين الفضائيين مبعوثين للإنسانية والالتزام بتقديم جميع المساعدات لهم في حالات الحوادث أو المخاطر أو الهبوط الاضطراري في إقليم دولة أجنبية أو في أعالي البحار، وتأمين عودتهم سالمين إلى الدولة التي تمّ تسجيل مركبتهم الفضائية فيها.
9ـ يتوجب على الرواد والملاحين الفضائيين عند قيامهم بممارسة أنشطتهم في الفضاء الخارجي والأجرام السماوية أن يقدموا كل مساعدة ممكنة لزملائهم من الرواد والملاحين التابعين لدول أخرى غير بلدانهم.
10ـ تلتزم الدول بإخطار الأمين العام للأمم المتحدة وجميع الدول الأخرى بأي ظاهرة تكتشفها في الفضاء الخارجي بما في ذلك القمر والأجرام السماوية الأخرى؛ إذا كان من شأنها أن تصبح خطراً على صحة رواد الفضاء والملاحين وحياتهم.
11ـ تتحمل الدول المسؤولية عن أنشطتها الوطنية في الفضاء الخارجي والأجرام السماوية، سواء أكان القائم بها هيئات حكومية أم غير حكومية، وتكون هذه النشاطات في حدود المبادىء المستقرة بهذا الشأن. بينما تمارس الهيئات غير الحكومية نشاطاتها في هذا المجال بترخيص من الدول التابعة لها وتحت رقابتها المستمرة.
12ـ تكون الدولة مسؤولة دولياً عن الأضرار التي يسبّبها إطلاقها لأي جسم في الفضاء والأجرام السماوية؛ أو لسماحها باستخدام إقليمها أو منشآتها لإجراء أي عملية من هذا النوع، وذلك في مواجهة الدول الأخرى أو رعاياها الطبيعيين والاعتباريين.
13ـ تحتفظ الدولة بفرض سلطتها وولايتها ورقابتها على الأجسام التي تطلق إلى الفضاء والمسجلة لديها، وكذلك على الأشخاص الذين يكونون على متنها. كما تبقى ملكية الدولة مستمرة لهذه الأجسام المسجلة لديها والأجزاء التابعة لها عند تحليقها في الفضاء أو في الأجرام السماوية أو عند عودتها إلى الأرض. ويجب إعادتها مع أجزائها المكونة لها عندما يتم العثور عليها خارج حدود الدول المسجلة فيها، شريطة تقديم جميع المعلومات اللازمة بهذا الشأن.
14ـ تسترشد الدول عند ارتيادها واستخدامها الفضاء الخارجي والأجرام السماوية بمبادئ التعاون والمساعدة المتبادلة واحترام مصالح جميع الدول الأخرى. وكذلك بالتشاور فيما بينها إذا ما تكونت لديها من الأسباب ما يحملها على الاعتقاد أن نشاطاتها وتجاربها الفضائية قد تؤدي إلى عواقب مضرّة بأنشطة دول أخرى في هذا المجال أو بالاستخدام السلمي للفضاء الخارجي.
وهكذا أصبح للفضاء الخارجي والأجرام السماوية التي تحوم فيه نظام قانوني دولي مستقر يستند إلى فكرة اعتباره تراثاً مشتركاً للإنسانية، تماماً كما هو الحال بالنسبة إلى قيعان البحار وبعض الأوابد التاريخية، وحيث لا يجوز التملك فيه، بل يتوجب استكشافه واستخدامه لمصلحة الإنسانية جمعاء من دون تمييز، وعلى أساس المساواة السيادية والتعاون المتبادل والاستخدام السلمي والمسؤولية الدولية وفقاً لقواعد القانون الدولي وميثاق هيئة الأمم المتحدة.

مراجع للاستزادة:

ـ حامد سلطان وعائشة راتب وصلاح الدين عامر، القانون الدولي العام (دار النهضة العربية، الطبعة الرابعة، القاهرة 1987م).
ـ عبد الكريم علوان، الوسيط في القانون الدولي العام، الكتاب الثاني (مكتبة دار الثقافة للنشر والتوزيع، عمان 1997م).
ـ محمد المجذوب، القانون الدولي العام (منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت 2004م).
ـ محمود أحمد الكندري، النظام القانوني للنقل الجوي الدولي وفق اتفاقية مونتريال لعام 1999م (تحديث نظام وارسو) (مجلس النشر العلمي، جامعة الكويت، 2000م).
- P. M. MARTIN, Droit international des activités spatiales, (Masson, Paris, 1992).
- J. NAVEAU, Droit du transport aérien, (Bruylant, Bruxelles, 1980).
- K. G. PARK, La protection de la souveraineté aérienne (Pédone, Paris, 1991).
- L. PEYREFITTE, Droit de l’espace, Dalloz, Paris, 1993).

________________________________________

التصنيف : القانون الدولي
النوع : القانون الدولي
المجلد السادس: علم الفقه ــ المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان
رقم الصفحة ضمن المجلد : 111
مستقل

 


جميع الحقوق محفوظة لموقع جامعة الأمة العربية © 2021 - 2013