الحماية القانونية للآثار الدراسات والتوثيق | الحماية القانونية للآثار
تاريخ النشر: 12-01-2020

بقلم: أ. د. عصام مبارك

المقدّمة
هناك من أدخل الآثار في البيئة الطبيعية حيث عرفها كالآتي: "هي أشياء منقولة أو عقارية، من صنع الإنسان، أو طبيعية تتمتعّ بقيمة تاريخية ولها أهمية كبيرة كعنصر من عناصر البيئة الحقيقية، لأنّها تمثّل تراثًا حضاريًا للمجتمعات البشرية، رغم جهل الكثيرين بقيمتها التاريخية ومكانتها الجمالية. لذلك يجب اتخاذ اللازم لوقايتها مما قد يقع عليها من اعتداءات أو أضرار، ومعالجتها مما قد يصيبها من تلف أو إنهيار" [1].
هذا، وقد ضمّ البعض الأثر إلى علم الاجتماع في تعريفهم للتراث الثقافي، معتبرين أنّه "مجموعة النماذج الثقافية التي يتلقاها جيل من الأجيال السابقة، وهو من أهم العوامل في تطوّر المجتمعات البشرية، وهو الذي يدفع المجتمع إلى السير خطوة جديدة في سبيل التطوّر، حتى يصل العلماء إلى التجديد والابتكار. وتختلف الجماعات البشرية من حيث ضمانة أمنها الثقافي، فبعضها ذات إرث ثقافي ضخم يرجع إلى ماضٍ سحيق وبعضها الآخر ذات إرث غير عميق، لا يكاد يرجع إلى عدّة قرون"[2].
إنّ التراث بوجهيه المادي والمعنوي وبمختلف مظاهره أكان في مجالات الدين أو الاجتماع, والاقتصاد أو الفلسفة أو الآداب أو العلوم السياسية, بالإضافة إلى العادات والتقاليد الشعبية المتعددة الوجوه، يعبّر عن الشخصية التاريخية للشعب، ويحدّد خصائص هويته الحضارية بتعدّد عناصرها ومكوّناتها، كونه حصيلة التفاعل بين الإنسان وبيئته الطبيعية والبشرية والحضارية[3].
لقد حاولت السلطات اللبنانية جاهدة تأمين الحماية القانونية للآثار التي هي في عداد الملك العام للدولة، من دون إغفال العامل المعنوي أي التربوي الداعم لتأمين هذه الحماية، والذي يهدف إلى ترسيخ احترام الآثار من خلال تدريس التاريخ.
فالمسألة التي تواجهها الآثار اليوم تكمن في التعديات الواقعة عليها, فيقتضي التساؤل عن ماهيّة التدابير القانونية الممكن اتخاذها لوضع حد لهذه التعديات.
أولًا: معيار الأثر في القانون:
أولت معظم التشريعات الوطنية[4] عناية فائقة للآثار بغية المحافظة على الأموال الأثرية وتطوير حمايتها، وقد أوردت تعريفات مختلفة لتحديد الآثار. يلاحظ أنّه لا يوجد معيار واحد استندت عليه هذه التشريعات في هذا الإطار، بل طرحت عدّة معايير، أشهرها ثلاثة، وهي المعيار المادي، والمعيار الزمني، فضلًا عن معيار المصلحة العامة.
أ-المعيار المادي
تكون الأشياء مادية عندما تشغل حيّزًا ماديًا محسوسًا، وهي تختلف عن الأشياء غير المادية من حيث التصرّف فيها. ومن أمثلة الأشياء المادية، الأرض والآليات والأبنية والسفن، وكل ما يطرأ عليها من تغييرات وتحوّلات، ووفق هذا المعيار، لا يدخل في عداد الآثار إلّا ما كان من الأشياء المادية، فالآثار وإن كانت تمثّل نتاج العقل من أشياء غير محسوسة كالمبتكرات والاختراعات في الصناعة والتجارة، بيد أنّ تطوير نتيجة هذه المبتكرات أصبحت في ما بعد أشياء ماديّة ملموسة وترتّب عليها حق مالي، وهي محل هذا الحق[5].
وفق هذا المعيار تضطلع المادّة بدور رئيسيٍّ لاعتبار هذا الشيء أثرًا أم لا، حيث تركت المجتمعات القديمة وثائق دوّنت فيها كتابات صورية أو مسمارية طبعت على رقع الطين أو حفرت على قطع حجرية أو خشبية كرّسها علم الآثار حقائق من الماضي تكشف عن دلائل الحضارات القديمة بما فيها من تنظيمات اقتصادية واجتماعية وقانونية للجماعات القديمة.
عرّف المشرّع اللبناني الأثر في المادّة الأولى من القرار رقم 166 / ل.ر تاريخ 7/11/1933 بما يأتي: "تعتبر آثارًا قديمة جميع الأشياء التي صنعتها يد الإنسان قبل سنة 1700 ( 1107 هـ) مهما كانت المدنية التي تنتمي إليها هذه المصنوعات. تُعتبر شبيهة بالآثار القديمة وخاضعة لقواعد هذا القرار الأشياء غير المنقولة التي صُنعت بعد سنة 1700 وفي حفظها صالح عمومي من جهة التاريخ أو الفن، وقيدت في قائمة الجرد العام للأبنية التاريخية المنصوص عنه في المادّة 8". يُستشفّ من هذا النص أنّ المشرّع اعتبر جميع الأشياء المصنوعة في زمن معيّن آثارًا دون تحديد طبيعة تلك الأشياء المادية في الجزء الأول من التعريف.
أمّا في الشق الثاني منه فقد صنّف الأشياء غير المنقولة آثارًا وأعطاها تعريفًا خاصًا، وصنّفها إلى أربعة أنواع: البنايات والإنشاءات التي فوق الأرض وتلك المطمورة تحت الأرض، أمّا الآثار الباقية التي لم تدخل في التعداد، فقد اعتبرت آثارًا منقولة، وفي حال وجود تنازع حول ماهيّة الشيء منقولًا كان أو غير منقول، يكون الفصل فيه بالرجوع إلى رئيس دائرة الآثار، ويعتبر قرار مدير الآثار قرارًا إداريًا عاديًا يمكن الطعن فيه في حالة تضرّر أحد الأفراد من ذلك القرار، حيث يتمّ بعد ذلك إحالة الدعوى إلى المحكمة المختصة لإنهاء النزاع[6].
ب- المعيار الزمني
حاول علماء التاريخ التوصل إلى تصنيف الأثر على أساس زمني، حيث قسّموا التاريخ إلى عدّة مراحل مختلفة عبر العصور من حضارات وثقافات، وكلّما كان الأثر قديمًا كلما برزت أهميته تاريخيًا.
أخذ القانون اللبناني بهذا الاتجاه في المادّة الأولى من القرار رقم 166/ ل.ر.، حيث أقام معيارًا مفاده اعتبار الشيء أثريًا متى كان تاريخ صنعه يسبق العام 1700(1107هـ) أمّا الأشياء التي صُنعت بعد هذا التاريخ فقد اعتبرها شبيهة بالآثار، وتطبيقًا لذلك فقد قضى مجلس شورى الدولة بما يأتي: وبما أنّه يتبين أنّ أحكام قانون الآثار الساري المفعول والصادر بموجب القرار 166 / ل.ر.، قد ميّزت بين الآثار القديمة التي تعود إلى ما قبل العام 1700 ميلادية والتي تُعتبر تاريخية بمجرد ثبوت عمرها بأنها تعود إلى ما قبل هذا العام، وبين الآثار الشبيهة بالقديمة وهي المصنوعة بعد العام 1700 ميلادية والتي يقتضي إدراجها في قائمة الجرد العام للأبنية التاريخية تمهيدًا لصدور مرسوم من رئيس الدولة بتسجيلها كآثار تاريخية وذلك خلال ستة أشهر تلي تبليغ أصحاب العلاقة بهذه القائمة، مما يعني بأنّها لا تُعتبر تاريخية إلّا بصدور هذا المرسوم"[7].
يتّضح ممّا تقدّم، أنّه إذا كان من شأن إدراج البناء القديم في قائمة الجرد المشار إليها أن يجمّد حرية صاحبه في الانتفاع به، فإنّ هذا التجميد القانوني هو مؤقت ولمدّة ستة أشهر فقط، وبالطبع شرط أن يكون تقييد الملكية بموجب نص قانوني يجيزه للإدارة[8].
ج-معيار المصلحة العامة
إنّ المصلحة العامة هي فكرة نسبية زمانًا ومكانًا ولذا لا يوجد تعريف جامع مانع لها. هي فكرة ووعي يكمنان في ضمير كل فرد وكل جماعة. ولا يقصد بالصالح العام صالح فرد أو فريق أو طائفة من الأفراد، كما لا يقصد به مجموع مصالح الأفراد الخاصة. فالجمع لا يمكن أن يرد إلّا على أشياء متماثلة لها الطبيعة والصفة نفسيهما.
فالمقصود إذًا بالصالح العام أو بالمصلحة العامة هو صالح الجماعة ككلّ مستقلة ومنفصلة عن آحاد أو أفراد، تكوينها في ظل العقد الاجتماعي وليد العقل البشري المستقل.
خلا كلّ من التشريع والعمل الإداريين من وضع تعريف لفكرة المصلحة العامة ومن وضع معيار ثابت ومحدّد لهذه الفكرة، ولهذا فإنّ المصلحة العامة لم تُعرف ولكن تلاحظ فقط[9].
وقد نصّ كلّ منهما عليها وردّداها في مناسبات متعدّدة، حتى أصبحت تمثل روح القانون وعاملًا أساسيًا في تحديد نطاق تطبيقه، بحيث أصبح وصف القانون الإداري بصفة خاصة بأنّه قانون المصلحة العامة. وقد تصبح هذه الفكرة المعيار الأصلي لتطبيق النظام الإداري، والقاسم المشترك لنظريات القانون الإداري كلّها، فكل نشاط وكل عملية وكل موقف تتخذه الإدارة يجب أن يوحي بدوافعه، إلى فكرة المصلحة العامة.
أمّا القضاء الإداري، فإنّ ما يهمّه هو النظر إلى وظيفة المصلحة العامة، ولا يُعير أي اهتمام لتعريفها وتحديد مضمونها، فهو يستخدمها دون أن يعرفها, بحيث ينظر القاضي الإداري إلى هدف الإدارة من النشاط, وإذا كان يراعي إحدى اعتبارات المصلحة العامة التي تبرر القيام به. فالرقابة الإدارية تتّجه إلى تحديد اعتبارات، المصلحة العامة من دون تحديد مضمون هذه المصلحة[10].
جرت العادة على اعتماد معيار المصلحة العامة في تحديد الأثر في حال تخلّف المعيار الزمني، حيث يتمّ اللجوء إليه على الرغم من عدم الدقة والغموض اللذين يتّسم بهما، لكونه معيارًا مرنًا ونسبيًا ويعطي للإدارة سلطة تقديرية، فضلًا عن "أنّ مفهوم المنفعة العامة أخذ بالتوسّع نتيجة تدخّل الدولة في الحقول الاقتصادية والعمرانية والاجتماعية والتربوية"[11].
لذا، كان من الطبيعي أن يرجّح المشرّع مقتضيات المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، ويظهر لنا ذلك جليًا عند المشرّع اللبناني من خلال الفقرة 2 من المادّة الأولى من القرار رقم 166 / ل.ر. والذي جاء فيها "تعتبر شبيهة بالآثار القديمة وخاضعة لقواعد هذا القرار الأشياء غير المنقولة التي صُنعت بعد سنة 1700 (1107هـ) وفي حفظها صالح عمومي من وجهة التاريخ أو الفن، وقُيّدت في قائمة الجرد العام للأبنية التاريخية المنصوص عليها في المادّة 8".
ومن هذا التعريف، فإنّ إدخال العقارات في قائمة الجرد العام للأبنية الأثرية يهدف إلى المحافظة عليها، وبالتالي يمثل تأمينًا للمصلحة العامة[12]، ولا يشكل تعديًا على الملكية الفردية طالما أنّ قانون الاستملاك قد لحظ الاستملاك المتعلق بالآثار حيث نصّ في المادّة 3 منه على ما يأتي:
"... أمّا مراسيم الاستملاك المتعلقة بالآثار فإنّ مدّة سريانها القصوى لا تتجاوز الثلاث سنوات من تاريخ نشر المرسوم في الجريدة الرسمية، حيث يحقّ للإدارة خلالها إجراء عملية التنقيب في العقار أو العقارات موضوع الإستملاك واستخراج الآثار منها عند الحاجة. يمكن للإدارة خلال الأشهر الستة الأخيرة قبل انقضاء مدّة سريان المرسوم, تمديده لمدّة أقصاها خمس سنوات إضافية إذا تبيّن بنتيجة التنقيب وجود آثار تعذّر استخراجها خلال مدّة سريان المرسوم, كما يمكنها تمديدها بعد موافقة مجلس الوزراء لمدّة أقصاها عشر سنوات إضافية في حال وجود آثار ذات قيمة أثرية وتاريخية...."[13].
وتجدر الإشارة إلى أنّ المشرّع اللبناني قد فرّق بين الآثار غير المنقولة التي صُنعت قبل سنة 1700، والآثار غير المنقولة التي صُنعت بعد سنة 1700، حيث جعل الأخيرة من مقتضيات المصلحة العامة، بعد إدراجها في قائمة الجرد العام للأبنية التاريخية المنصوص عليها في المادّة 8.
ثانيًا: المعيار المميّز للمال العام:
لا بدّ للإدارات العامة من أملاك كي تتمكّن من تأمين المهمّات الملقاة على عاتقها، وهذه الأملاك على نوعين: عامة وخاصة، وهي منظّمة في لبنان بالقرار رقم 144/S تاريخ 10/6/1925 في ما يتعلّق بالأملاك العامة، وبالقرار رقم 275 تاريخ 5/5/1926 فيما يختص بالأملاك الخاصة مع تعديلاتهما[14].
لقد تضاربت الآراء في تعريف الأملاك العامة، فمنهم من اعتمد المعيار المادي وقال بأنّ الأملاك هي التي لا تكون بطبيعتها قابلة للتملّك[15]"وعدم قابليته للبيع أو التصرف[16]"(المرافئ وسكك الحديد والطرق العامة). وذهب علماء آخرون إلى أنّ الأموال تصبح عامة بتخصيصها صراحة لإدارة أو مصلحة عامة[17].
لقد نصّت المادّة "1" من القرار رقم 144/S الصادر بتاريخ 10/6/1925 والعائد للأملاك العمومية وأحكامها على أنّ "الأملاك العمومية في دولة لبنان الكبير تشتمل جميع الأشياء المعدّة بسبب طبيعتها لاستعمال الجميع أو لاستعمال مصلحة عمومية. وهي لا تُباع ولا تُكتسب ملكيّتها بمرور الزمن". كما أنّ المادّة "4" من القرار قد أوردت أنّ الأملاك المذكورة في المادّة "1" والمادّة "2" تعتبر تابعة للأملاك العمومية الوطنية أو للأملاك العمومية البلدية حسب تخصيصها للمنفعة الوطنية أو للمنفعة البلدية، "يعيّن الفرق بين الأملاك العمومية الوطنية والأملاك العمومية البلدية في قرار من رئيس الدولة يتخذه في مجلس الأنظار".
وتقتضي هنا الإشارة إلى أنّ الاجتهاد الإداري اعتبر أنّ صفة الملك العام قائمة بحكم القانون على العناصر المعينة بموجب المادتين "1" و"2" من القرار 144/S وهي غير مقيّدة بأي إجراء يتعلق بتحديده[18].
كما أنّ "مفهوم الملك العام يقوم على أساس تخصيصه لاستعمال الجمهور أو تخصيصه للمرافق العامة شرط أن تكون ملكيته عائدة لأحد أشخاص القانون العام Domaine public..."[19].
وقد نصّت المادّة 24 المعدلة في القرار 144على أنّه: "إذا ظهر أنّه من الممكن إلغاء التسجيل عن بعض أقسام الأملاك العمومية الوطنية جاز الإلغاء بقرار من رئيس الحكومة".
أ-المعيار التشريعي
ميّز المشرّع اللبناني المال العام عن المال الخاص، بنظام قانوني خاص بالملك العام في القرار رقم 144/S، فقد نصّت المادّة الأولى من القرار على أن "تشمل الأملاك العمومية في دولة لبنان الكبير ودولة العلويين جميع الأشياء المعدّة بسبب طبيعتها لاستعمال الجمهور أو لاستعمال حكومي، وهي لا تُباع ولا تُكتسب ملكيتها بمرور الزمن".
يتّضح مما سبق، أنّ المشرّع اللبناني اعتمد معيار التخصيص للمنفعة العامة مع إيراد تعداد لما يعدّ من الأموال العامة.
بيد أنّ ما يُفهم من نص المادّة الثانية أنّ ذلك التعداد إنّما جاء على سبيل المثل والدلالة، لا على سبيل الحصر والتحديد.[20]
نستنتج من نصوص المادتين الأولى والثانية من القرار144/S، أنّ المشرّع اللبناني أخذ بمعيار المنفعة العامة، من دون ذكره صراحة، فطالما أنّ المال مخصّص لاستعمال الجمهور فهو مخصّص للمصلحة العامة، شرط أن تكون الدولة أو الشخص المعنوي مالكين لهذا المال، ولا يهمّ أن يكون عقارًا أو منقولًا، شرط أن يكون مخصصًا لمنفعة عامة.
وقد تعرّض اتجاه المشرّع اللبناني لانتقادات شديدة، وذلك لإيراده تعدادًا للأموال العامة، كون هذا التعداد يُعتبر قاصرًا عن الإحاطة بجميع ما يُعدّ من الأموال العامة، بخاصة وأنّ التعداد الوارد للأشياء العامة قد جاء على سبيل الدلالة لا على سبيل الحصر[21]، فيكون – المشرّع في ذلك- قد منح القضاء السلطة التقديرية في تحديد صفة المال العام من عدمه في كلّ حالة متنازع عليها إذا أُثيرت مسألة مستأخرة، ويصبح على القاضي الإداري تعليقها لحين إنهاء المسألة الفرعية أمام القضاء العادي[22]. لقد كان الأجدر بالمشرّع اللبناني الاكتفاء بما أورده في المادّة الأولى من القرار بصدد تحديد قاعدة عامة للمقصود من المال العام، فيما انتقد جانب من الفقه الإداري نص المادّة الأولى من القرار لاقتصاره في تحديد الأموال العامة على الأموال المملوكة للدولة فقط، لذا يقترح ضرورة تعديل هذه المادّة لتنص بعد التعديل على شمول الأملاك العمومية عليها، وليس أملاك معدودة فقط[23].
وباستعراض القرارين المنظمين للملك العام وللملك الخاص، يتبيّن أنّ المشرّع اللبناني قد أخضع الأموال العامة لنظام قانوني خاص يختلف عن ذلك الذي تخضع له الأملاك الخاصة، مما جعل الأموال العامة تتمتّع بحماية استثنائية خاصة كونها مخصصة للمنفعة العامة ومرتبطة بالقانون الإداري[24].
ب- المعيار الفقهي المميز للمال العام
(1)- ملكية الإدارة
تنظّم أحكام القانون الخاص، ملكيّة الأشخاص الإداريين والأفراد على أموالهم من دون خلاف، والجميع يتّفق على ذلك، ولكن الخلاف يصبّ على طبيعة حق الأشخاص الإداريين على أموالها العامة.
استند جانب من الفقه الإداري في إنكار تملّك الإدارة للمال العام، إلى نصوص القانون المدني الفرنسي، وبالتحديد لنص المادّة 544 منه ولنص المادّة 11 من قانون الملكية العقارية للعام 1930 [25]، والتي حدّدت عناصر ثلاثة لحق الملكية هي: الاستعمال والاستغلال والتصرّف والتي تتيح للمالك الاستئثار بما يملكه[26]، على اعتبار أنّ هذه العناصر لا تتمتّع بها الإدارة عند إشرافها على الأموال العامة؛ إذ لا تستأثر الإدارة باستعمال المال العام، بل نجد على العكس تمتّع الأفراد بهذا الحق، كما لا تستغلّ الإدارة هذه الأموال من أجل الحصول على كسب مادي، إذ إنّ هذه الأموال لا تنتج في الغالب ثمارًا[27]، فضلًا عن أنّها لا تملك حق التصرّف بها، إذ لا يجيز القانون التصرف بالأموال العامة؛ فما دامت الأموال العامة مخصّصة للمنفعة العامة، فلا تملك الإدارة والأشخاص العامة الأخرى إزاءها أيّ حق في الاختصاص باستعمالها أو استغلالها أو التصرّف فيها؛ وذلك لتميز حق الملكية باختصاص مالك الشيء وقصر الانتفاع به على نفسه[28]، ولا يوجد هذا الحق في المال العام، حيث أنّ استعمال هذه الأموال مقرّر للكافة وليس للأشخاص الإداريين[29].
(2)- التخصيص للمنفعة العامة
إنّ أموال الدولة هي ذات منفعة عامة متى كانت مخصّصة بطبيعتها لاستعمال الجمهور مباشرة. وقد تختلف أحكام المال العام عن أحكام القانون الخاص.
إستنادًا لمعيار تخصيص المال العام للمنفعة العامة، فإنّ الأموال العامة التي تملكها الدولة أو الأشخاص الإعتباريين العامين والمتمثّلة بأشخاص القانون العام، تعدّ أموالًا عامة بغضّ النظر عن طريقة استعمالها من قبل الجمهور أو لخدمة المرافق العامة[30].
وإذا أرادت الدولة تخصيص مال خاص مملوك للأفراد لغرض المنفعة العامة، وتحقيق هدف معين لاستعمال الجمهور، فعليها أن تتّخذ الطريق القانوني لنقل هذا المال إلى ملكيتها الخاصة ليتسنى لها تخصيصه للمنفعة العامة بموجب وسائل كسب الملكية المعروفة بالاستملاك للمنفعة العامة. وقد نصّت المادّة 14 من القانون رقم 37 الصادر بتاريخ 16/10/2008 تحت عنوان الممتلكات الثقافية، على حق تملك الوزارة للأثر عن طريق الشراء أو الاستملاك أو ممارسة حق الشفعة بالملكية.
ثالثًا: الطبيعة القانونية للأثر في ضوء التشريعات المتعلقة بالمال العام:
قد نورد بعض النصوص التشريعية تعدادًا على سبيل المثال لما هو مال عام، أو نأتي على اطلاقها مجرّدة لا تعتمد التعداد وتحتمل أكثر من معنى، فيكثر التساؤل حول مضمون النصوص، وغاية المشرّع من ذلك، وهو ما يثير التساؤل عن موقف المشرّع من الطبيعة القانونية للأثر.
مدى اعتبار الأثر مالًا عامًا
لم يتضمّن القرار رقم 144/ S السابق الذكر أي تعريف خاص بالآثار، كما أنّه لم يتضمن تعريفًا لسائر الأشياء التي هي من الأموال العامة، بل يقتصر على تعريف شامل لها على وجه العموم[31]. وفي الحالة هذه, وجد المشرّع اللبناني نفسه في نزاع بين اتجاهين متعارضين وهما – الملكية الفردية للآثار – التي تحكمها قواعد القانون الخاص، و – الملكية العامة للآثار – التي تحكمها قواعد القانون العام لغرض المنفعة العامة، وقد ذهب المشرّع اللبناني بهذا الخصوص إلى التفرقة بين هاتين المصلحتين، حيث حاول الموازنة بين حقوق الأفراد مع وضع الرقابة والتقييد لرعاية المصلحة العامة.
كما أخذ بالتمييز بين الآثار المكتشفة قبل صدور القرار 166 / ل.ر. والمكتشفة بعد صدور هذا القرار، فقد أقرّ في الآثار المكتشفة قبل هذا القرار حقوق الملكية المكتسبة للأفراد على هذه الآثار مع بعض التقييد على تملّكها، سواء أكانت منقولة أم غير منقولة وبغير أثر رجعي. وبموجب المادّة الخامسة من القرار رقم 166 / ل.ر. "تعتبر الآثار القديمة غير المنقولة ملكًا للدولة ما لم يقم الدليل على خلاف ذلك. إنّ الأفراد أو الأوقاف والطوائف والجماعات وبصورة عامة الأشخاص المعنويين ذوي الحقوق الخاصة الذين يدّعون ملكية آثار قديمة منقولة، أو غير منقولة عليهم أن يثبتوا حقوقهم وفق القوانين العادية".
ويتّضح من هذا النص بعض الأحكام كالآتي:
- إنّ الآثار القديمة، غير المنقولة، تفترض مبدئيًا أن تكون ملكًا للدولة، وعلى من يدّعي العكس أن يدحض تلك القرينة بإثبات يقدّمه على حق ملكيته، كما وأنّه على من يدّعي ملكية الآثار المنقولة أن يقدّم الإثبات متى حصل نزاع عليها.
- إنّ الآثار القديمة من منقولة وغير منقولة والتي ثبت أنّها ملك خاص, يجوز للسلطة أن تخضعها لبعض التقييدات التي من شأنها أن تحدّ من حق صاحبها بالتصرّف بها.
- للدولة أن تستملك الآثار غير المنقولة وفق أصول الاستملاك للمنفعة العامة، وعند تقدير التعويض المتوجب للمالك، بسبب هذا الاستملاك لا يؤخذ بعين الإعتبار إلّا قيمة العقار بذاته.
وفي هذا السياق لا بدّ لنا أن نشير إلى أنّه, بخصوص الاتجار بالآثار القديمة، فقد أباح المشرّع اللبناني بيع الآثار بموجب المادّة 74 من القرار المذكور، وذلك بنصه على "أن بيع الآثار غير المنقولة التي هي للأفراد يُرخّص به شرط أن يُراعى أصحاب الملك أحكام المادتين 25 و41 من هذا النظام إذا كانت هذه الآثار مقيّدة في الجرد العام أو مسجلة"، إذ نصّت المادّة 25 من القرار أعلاه "كل بيع لأثر مقيّد في الجرد يجب أن يبلغه البائع دائرة الآثار في أثناء خمسة عشر يومًا من تاريخ البيع..." ونصّت المادّة 41 على أن "يتبع مفعول التسجيل العقار المسجّل أية كانت الأيدي التي ينتقل إليها" وهذه قرينة أخرى على اعتراف القرار رقم 166 بالملكية الخاصة، للآثار غير المنقولة، وتطبق أحكام القانون الخاص عليها، وأخذ قانون الآثار نصيبًا بخصوص الآثار المنقولة في هذا النظام بموجب المادّة 76 منه، حيث يجوز البيع لهذه الآثار من قبل الأشخاص الذين لا يتعاطون مهنة تجارة الآثار.
كما يمكن بيع الآثار المنقولة قضائيًا بشروط معينة، وعند قسمة الإرث، لعدم إمكان قسمة البيع، وإذا تعلّق الأمر بأثر منقول أو غير منقول مسجّل، فيقوم رئيس الدولة عندها أولًا بشطبه من السجل وفق المادّة 46 من القرار 166 / ل.ر. بناءً على اقتراح مدير دائرة الآثار.
كما نصّت أحكام المواد من 80 إلى95 صراحة على كيفية تنظيم عمل التجار الفعليين والحاصلين على رخص بمتاجرة هذه الآثار المنقولة، وتجديدها سنويًا، فضلًا عن العقوبات الموجّهة إليهم عند المخالفة. وبذلك قضى مجلس شورى الدولة في موضوع رخصة تجارة الآثار، حيث طلب المستدعي إبطال قرار المدير العام للآثار في وزارة الثقافة والتعليم العالي لتجاوز حد السلطة، لرفض الأخير تجديد الترخيص في تجارة الآثار، أو إعطاءه ترخيصًا جديدًا، بعد أن انقطع المستدعي عن مزاولة مهنة التجارة بالآثار، ولم يجدّد الترخيص استنادًا إلى المادّة 81 من القرار 166/ ل.ر. المتعلّقة بصلاحية اعطاء التراخيص لتجارة الآثار فقد اعتبرت رخصته القديمة ملغاة لتركه المهنة فترة طويلة.
"إنّ قرار المدير العام لمديرية الآثار بعدم اعطاء رخصة المتاجرة بالآثار للمستدعي هو نابع من صلاحيته التقديرية ومستندًا إلى المادتين 88 و 89 من القرار 166"[32].
إنّ المشرّع اللبناني اعتبر الآثار غير المنقولة فقط من الأموال العامة وفق المادّة 6 من القرار 166 / ل.ر. وذلك بنصّه على "أنّ الآثار القديمة غير المنقولة العائدة للدولة هي جزء من أملاك الدولة العمومية ولا يعترض بمرور الزمن على حقوق الدولة الجارية على هذه الآثار المنقولة"، مما يعني وفق مفهوم المادّة عدم إعتبار الآثار المنقولة من الأملاك العامة المملوكة للدولة.
أمّا الآثار المكتشفة – بعد تشرين الثاني سنة 1933- فقد اعتبرت من الأموال العامة استنادًا إلى نص المادّة 10 – والمعدّلة بموجب القرار رقم 68 في 30/3/1936 – والتي جاء فيها "إنّ الأثر القديم المكتشف على هذه الصورة هو ملك للدولة، إلّا إذا كان جزءًا من بناء يملكه فرد أو طائفة أو شخص معنوي ... إلخ، وفي هذه الحال يصرّح بأنّ الأثر هو ملك صاحب العقار"، إلا أنّ أحكام هذه الآثار تختلف بحسب اختلاف طريقة اكتشافها، إذ إنّ القانون يميّز بين حصول اكتشاف الآثار نتيجة أعمال تمّ اجراؤها بقصد التنقيب عن الآثار وفق إجازة رسمية، وبين حالة حصول الاكتشاف بمجرّد المصادفة، والذي نصّت عليه المادّة 15 من القرار المذكور بالآتي "تحتفظ الدولة في أي وقت كان بحقّها في تسجيل أثر قديم منقول اكتشف مصادفة".
فالآثار المكتشفة في أثناء التنقيب عنها من الطبيعي أن يعهد بها المشرّع إلى السلطة الأثرية والأمر منوط بها للحفاظ على الآثار في أثناء التنقيب، وأنه لا يجوز لأي شخص إجراء أعمال تنقيب بقصد اكتشاف آثار قديمة أكانت فوق سطح الأرض أو التنقيب عنها تحت سطح الأرض، فهذه المهمّة مسندة إلى الإدارة فقط, لأنّها تنفرد بهذا الحق على الآثار. ومع ذلك يجوز للدولة أن تمنح إجازة التنقيب بموجب أمر من رئيس الدولة طبق المادّة 56، ولكن هذه الإجازة لا تمنح لأي كان من الأشخاص، بل للهيئات العلمية فقط وفق المادّة 57، وعلى كل حال لا يجوز إعطاء أكثر من رخصتي حفر لكل هيئة حسبما ورد في المادّة 63 منه، وعلى أن لا تتجاوز مدّة هذه الرخص ست سنوات مع إمكانية تجديدها.
أمّا الآثار المكتشفة خارج أعمال التنقيب القانونية، فإنّه لا يحق للأفراد تملّكها عند اكتشافها بل تُصادر منهم[33]. ولكن قد يتم اكتشاف آثار قديمة منقولة أو غير منقولة في أثناء أعمال الحفر للبناء أو التنقيب عن المياه غير مقصود فيها البحث عن الآثار، أو على وجه المصادفة البحتة من دون أي عمل، فكان لا بدّ للمشرّع من أن ينظر إلى هذه الحالات الخاصة لإعطائها أحكامًا قانونية خاصة.
فعلى المكتشف أن يقدّم من دون تأخير تصريحًا باكتشافه الأثر إلى السلطة الإدارية التي يمكن الوصول إليها بأسرع وقت ممكن، وهذا ما ذهبت إليه المادّة 11 من القرار 166/ ل.ر. بخصوص الأثر المنقول بأنّه "على كل من وجد مصادفة ضمن الشروط والظروف المكانية أعلاه أثرًا منقولًا أن يقدّم تصريحًا به إلى السلطة الإدارية الأقرب إليه في أثناء الـ 24 ساعة من اكتشافه...."
أمّا بالنسبة للآثار غير المنقولة فإنّها تعتبر – من حيث المبدأ- من أملاك الدولة العامة باستثناء حالة كون الأثر المكتشف يشكّل قسمًا ملحقًا ببناء يملكه أحد الناس فيلحق حينئذٍ بحكم البناء، ويقع في ملكية صاحبه. وعند حصول اكتشاف الأثر في أرض معدة للاستغلال، أو في أرض مبنيّة في غير الحالة السابقة، فإنّه يتوجّب على الدولة أن تدفع إلى صاحب الأرض تعويضًا عن الأضرار التي قد تلحق به من جراء إبقائه في مكانه بغاية حفظه.

وينبغي هنا الالتفات إلى مسألة مهمة، مفادها أنّ اعتراف المشرّع بملكية الآثار المنقولة المكتشفة، لا يعني عدم امكانية استيلاء الدولة عليها، بل على العكس من ذلك، حيث يجوز ذلك للدولة قبل انقضاء مدّة ثلاثة أشهر من تاريخ علمها بالاكتشاف، وعلى شرط أداء مبلغ قدره ثلث قيمة الأشياء إلى المكتشف. وحفظًا لحق الدولة هذا، فقد منع القانون المكتشف من أن يتصرّف بما اكتشفه طيلة مدة الثلاثة أشهر المذكورة [34].
ولكن، على الرغم من اقرار المشرّع بتملّك الدولة للآثار القديمة، إلّا أنّه لم يغفل رعاية مصلحة الملكية الفردية بالنسبة للآثار المنقولة، إذ حفظ لصاحب إجازة التنقيب الحق بتملّك نصف الأشياء التي يكون قد اكتشفها، ويُستثنى من ذلك حالة ما إذا تبيّن وجود أثر يهم الدولة –
من مجموع الآثار المكتشفة – اقتناؤه لدرجة قصوى، فإنّ القانون يجيز لها أن تفرده قبل كل قسمة وتأخذه لمتاحفها بموجب المادّة 68 من هذا القرار.

رابعًا: الأثر في ضوء المعيار االقضائي للمال العام :
تدخل في نطاق المال العام، الآثار التي يملكها الأفراد أو الأشخاص العامين والتي هي أثار بتكوينها الطبيعي، أو بفعل الإنسان لها، والتي بسبب أهميتها التاريخية أو العلمية, تصبح ضرورية للمنفعة العامة، سواء كانت لخدمة مرافق عامة أو لإرضاء حاجة الجمهور.
وترتيبًا على ذلك، فإنّ أحكام قانون الآثار تحرم مالكي الأراضي ذات المواقع الأثرية الترميم أو البناء أو من أي عمل يضرّ الآثار, لمجرّد تقرير السلطة الإدارية بتخصيصها للمنفعة العامة وذلك لحين الانتهاء من إجراءات نزع الملكية، كون هذه الأحكام أحكامًا خاصة فإنّها تقيّد أحكام القوانين الأخرى، انطلاقًا من المبدأ القائل بأنّ القانون الخاص يقيّد القانون العام.
هذا وقد استقرت الأحكام القضائية على اعتبار الأثر مالًا عامًا متى خصّص للمنفعة العامة، وبذلك قضى مجلس شورى الدولة بما يأتي: "وبما أنّه يمكّن العقارات الداخلة في قائمة الجرد العام للأبنية الأثرية إمّا للمحافظة عليها كملك عام, وتتبع عندها الأحكام القانونية المنصوص عليها في الفقرة الثانية من المادّة السابعة والمادّة 23 من قانون الآثار, وإمّا لغاية مختلفة كإنشاء حديقة عامة أو طريق عام أم مرافق عامة أخرى(...) وبما أنّه بالإضافة إلى ما تقدّم, وسندًا لكون عقار المستدعي يقع في محلّة يعتبر فيه الصالح الأثري أهم من كل صالح سواه، ولكون المرسوم المطعون فيه تضمن خرائط متعلقة بتجميل هذه المحلّة، وبالنظر لكون أحكام قانون الآثار تتقدّم في هذه الحالة في التطبيق على أحكام قانون التنظيم المدني تبعًا لكونها تمثل نصًا خاصًا، فإنّه يتوجب بمقتضى المادّة 19 من أحكام القانون الخاص بالآثار أن توضع الخرائط من قبل مهندس من دائرة الآثار القديمة, ولا تحل موافقة مدير دائرة الآثار على الخرائط محل موجب وضعها من قبل مهندس من هذه الدائرة في الحالة موضوع البحث..."[35].
خامسًا: مظاهر الحماية: بطلان التصرف في الأثر:
تمنع قاعدة بطلان التصرّف بالأثر الإدارة من التصرّف في الأموال الأثرية كونه مالًا عامًا، وهي قاعدة عامّة تطبق على العقارات الأثرية وعلى المنقولات منها أيضًا؛ حتى تظل محتفظة بصفتها العامة، وهي من أهم مظاهر حماية الأموال الأثرية كأموال عامة، إذ بدونها لا يتحقّق الانتفاع العام بهذه الأموال، بما يقتضيه ذلك من ثبات واستقرار، فإن جردت الآثار من تخصيصها للنفع العام أصبحت في عداد الأموال الخاصة الجائز التصرّف بها تصرفًا شرعيًا [36].
يرجع أصل هذه القاعدة إلى ضرورة بقاء الأثر مخصصًا للمنفعة العامة – من دون انقطاع – التي رصدت من أجلها هذه الحماية. إذ إنّ القول بخلاف ذلك من شأنه أن يدخل الأثر في دائرة التعامل بنقل ملكيته من ذمّة الإدارة إلى ذمّة الغير، وبسبب ذلك ينقطع التخصيص للمنفعة العامة، مما يتنافى مع طبيعته لكونه غير قابل للتملّك.
كما أنّ هذه القاعدة تمنع خضوع الأموال الأثرية للتصرّفات العينية التي ينظّمها القانون الخاص، وهي التصرّفات الخاضعة لأحكام قانون الموجبات والعقود التي يكون من شأنها نقل ملكية الأثر من ذمّة الإدارة إلى ذمّة الأفراد، أو إلى ذمّة أشخاص القانون الخاص بوجه عام. وبمقتضى هذه القاعدة لا يجوز التصرّف بالأثر – عقارًا كان أو منقولًا – سواء كان التصرف بمقابل كالبيع، أو بغير مقابل كالهبة، وسواء كان التصرّف عن طريق الاستملاك كنزع الملكية للمنفعة العامة أو بالتراضي... ويعتبر تصرّف الإدارة – في كل هذه الأحوال – تصرفًا خاطئًا ويعرض الإجراء التي قامت به للمطالبة أمام القضاء [37]. ومقتضى هذه القاعدة – أيضًا – عدم جواز تقرير حقوق عينية للأفراد على الآثار كحق الانتفاع مثلًا، لأنّ هذه التصرّفات من شأنها أن تؤثر في الملكية العامة لهذه الآثار، وبالتالي في تخصيصه للمنفعة العامة.
وتعتبر هذه القاعدة في الواقع قيدًا واردًا على حق الإدارة في التصرف بالأثر، أراد بها المشرّع أن يكفل الانتفاع العام بالآثار، حيث أنّ تقرير حماية الآثار عن طريق بطلان التصرّف بها يمكن وصفه بأنّه قاعدة وقائية تحول دون التعدي على الأثر، وتمنع الإدارة من التعامل فيه في غير الوجوه المخصّص لها، وعلى خلاف القوانين والمراسيم.
وعلى ذلك، ترتبط قاعدة بطلان التصرف بالأثر بالهدف من الحفاظ عليه بإعتباره مخصصًا للمنفعة العامة، وليس باعتباره غير قابل للملكية الخاصة، وعليه فإنّ قاعدة بطلان التصرّف في الآثار من قبل الإدارة تتعلّق بالتخصيص للمنفعة العامة؛ تبقى هذه القاعدة سارية المفعول ما بقى التخصيص وتزول بزواله. ويُضاف إلى هذا فكرة أخرى ترتبط بالنظام القانوني السائد في غالبية التشريعات لحماية الآثار، ألا وهي اعتبار الدولة المالك الوحيد لجميع الآثار وتحريم الملكية الخاصة لها. لأنّه إذا أُجيز هذا النوع من الملكية الخاصة، سيؤدي إلى وجود الاستغلال، وهذا يتناقض وطبيعة النصوص التشريعية النافذة والتي تعتبر الأثر من الأموال العامة[38].
وهكذا، تحول قاعدة بطلان التصرف دون إمكانية الإدارة على التصرف بالآثار، ويترتّب على مخالفة الإدارة لهذه القاعدة بطلان التصرفات التي تقوم بها، حيث أنّ تخصيص الأثر للمنفعة العامة يجعل تصرّفها المخالف لهذا الشأن باطلًا.
استنادًا إلى ذلك، يجوز للإدارة أن تتمسّك بهذا البطلان تجاه المتصرف إليه، دعوى ودفعًا، فتستطيع رفع دعوى البطلان إذا كانت قد سلّمت الأثر إلى المشتري، كما تدفع الإدارة به إذا لم تسلّم الأثر وطالبها المشتري بالتسليم، فإذا أفلحت في عدم تسليم الأثر إلى المتصرّف إليه على هذا الأساس، فإنّ ذلك لا يعفيها من المسؤولية المدنيّة ودفع التعويض إلى المتصرّف إليه مقابل عدم تسليمها الأثر له، ولا يجوز للمتصرّف إليه في – هذه الحالة - الاحتجاج ببطلان التصرف للتهرب من الإلتزامات المفروضة عليه. ذلك أنّ البطلان في هذه الأحوال مقرّر لمصلحة السلطة العامة مالكة الأثر. ومهما كان نوع هذا التصرف – بمقابل ثمن أو مقايضة أو بدون مقابل كالهبة – فهذه القاعدة تشكل قيدًا وتضع حدًا على سلطة الإدارة، وهو القيد الذي تمّ وضعه حماية لتخصيص الأثر للنفع العام، بحيث لو أخطأت الإدارة بتصرّفها في أثر منقول كتحفة أثرية، عن طريق البيع, فليس للمشتري أن يحتج أمام الإدارة بأي قاعدة من قواعد قانون الموجبات والعقود[39]، كقاعدة الحيازة في المنقول سند الملكية، وذلك لتعارض هذه القاعدة مع قاعدة بطلان التصرّف بالأثر، وللإدارة أن تسترد هذا الأثر في أي وقت تشاء، ويكون هذا البطلان – عند بعض الفقه – نسبيًا لأنّه شرّع لمصلحة الإدارة[40].
إلا أنّ هذا الرأي محل نقد، فحتى وإن كانت حماية السلطة للآثار هي حماية المصلحة العامة من خلال تخصيص الأثر للمنفعة العامة وحتى لو كان بطلان التصرف مطلقًا ومتعلقًا بالنظام العام لتأمين هذه الحماية، فإنّ الإجازة على التصرّف لا ترد، حتى وإن زال بسببها وجه التخصيص للمنفعة العامة. وهكذا، يجوز للأفراد التفلت من التزاماتهم – في هذا المجال – إلّا أنّ مبدأ المنفعة العامة يجيز للإدارة أن تتمسّك بالبطلان دفعًا ودعوى لحماية حقّها في الملكية العامة للأثر، ولها حماية حيازتها إيّاه، برفع دعاوى الاستحقاق ودعاوى الحيازة. فالآثار إذًا يحميها مثل هذه الدعاوى التي لا تعطى إلّا للمالك، فتستطيع الإدارة أن ترفع دعوى الاستحقاق على مغتصب الأثر وتسترده بها[41]، ولها أن ترفع دعوى الحيازة لترد بها الاعتداء الواقع من الأفراد على الأثر، بالإضافة إلى حق الإدارة في التعويض عن الحيازة غير المشروعة، وإزالة الاعتداء بالطرق الإدارية[42].
فالأثر باعتباره مالًا عامًا يكون مشمولًا بالحماية القانونية المقرّرة لهذه الأموال بنصوص قانونية صريحة، كما هو الحال في القرار رقم 144/S [43].
فقد كرّس المشرّع اللبناني صراحة قاعدة بطلان التصرّف في المال العام، ومنها الآثار المملوكة للإدارة ملكية عامّة. وقد نص القرار رقم 144/S في مادّته الأولى على عدم جواز البيع، وهذا ناتج عن تعريف الأملاك العامة، كما ذكرها في المادّة 18 من القرار رقم 166 / ل.ر. التي منعت بيع الآثار أو شراءها من دون رخصة [44].
وأخذ المشرّع اللبناني بمنع تجارة الآثار غير المنقولة، إلّا أنّه نظّم مهنة تجارة الآثار تنظيمًا دقيقًا بموجب أحكام المواد من المادّة 78 إلى المادّة 85 من القرار 166 / ل.ر. المذكور بموجب شروط معينة، وبإشراف دائرة الآثار، مع منعه تصدير الآثار إلى الخارج إلّا المستوردة منها والداخلة إلى الحدود اللبنانية[45]. وقد أولت المادّة 17 من القانون رقم 35 للعام 2008 المتعلق بتنظيم وزارة الثقافة، صلاحية مراقبة الإتجار بالآثار إلى مديرية الممتلكات الأثرية المنقولة.
كما أنّه أشار بموجب المادّة 7 إلى نزع ملكية الآثار غير المنقولة المملوكة للأفراد مقابل تعويض، ولا يؤخذ بعين الإعتبار قيمة الأثر ويتجه التعويض إلى قيمة العقار فقط[46].
إعمالًا لذلك، قضى مجلس شورى الدولة بما يأتي: " وبما أنّ القرار المطعون فيه استند إلى القرار رقم 166 / ل.ر. تاريخ 7/11/ 1933 الذي نصّ في المادّة 7 منه على أنه "يحقّ للدولة دائمًا أن تنزع وفق القوانين النافذة ملكية أثر قديم غير منقول مسجل أو يقترح تسجيله وهو ملك لأحد الأهالي. في تقدير تعويض نزع الملكية الذي لا يتناول إلّا الضرر الحالي الأكيد الناجم عن نزع الملكية, لا تعتبر مطلقًا قيمة الأثر بالنظر إليه كأثر قديم", كما نصّت المادّة 22 من القرار نفسه على "أن وزراء المعارف في الدول العمومية يقيّدون بناءً على اقتراح مدير دائرة الآثار أو بعد أخذ رأيه الآثار القديمة في الجرد". ولحظت المادّة 38 من القرار نفسه التعويض على أصحاب العقارات بسسب تسجيل عقاراتهم في سجل الأبنية التاريخية. وبما أن القرار المطعون فيه جاء تطبيقًا لأحكام القرار رقم 166/ ل.ر. الذي أجاز وضع أبنية في لائحة الجرد العام ولا يمكن القول بالتالي بأنّه يشكّل تعديًا على الملكية الفردية طالما أنّه استند إلى نصّ قانوني يجيزه"[47].
هذا ما أخذ به المشرّع والاجتهاد اللبنانيان، وقد لاحظ جانب من الفقه أنّ الآثار لا تصبح أموالًا عامّة بعد تجريدها من صفتها العامة، وإنّما تلحق بعداد الأموال الخاصة التي يجوز التصرّف فيها من الناحية القانونية. ويتماشى هذا مع المواد 75، 76، 77 من القرار رقم 166/ ل.ر. بخصوص بيع الآثار المنقولة وغير المنقولة، وفي حقيقة الأمر أنّ هذا القرار لم يذكر في مواده منعًا للتصرّف، أجاز في أحكامه الإتجار بالآثار بصورة غير دقيقة مما يؤدي إلى فقدان هذه الآثار الغرض الذي خصّصت من أجله[48].
ويجوز للإدارة أن تشتري آثارًا مملوكة لأحد الأشخاص الطبيعيين، كما يمكن أن تكون الآثار محلًا لامتياز تمنحه الإدارة لأحد الأفراد والوارد بنص المادّة 70 من القرار رقم 166/ ل.ر. إذ إنّه "يكون لصاحب الامتياز الحق وحده في أن ينسخ وينشر الآثار المكتشفة في أثناء الحفريات"، أو أن تكون محلًا لتراخيص تمنحها الإدارة لانتفاع الأفراد بهذه الآثار ويحق لها لدواعي المصلحة العامة، سحب الترخيص أو فسخ العقد.
سادسًا: تحريم التعدي على الأثر:
لم يذكر المشرّع الدستوري اللبناني هذه الحماية في مواده الدستورية، وأعطى الحماية المطلقة للملكية في جميع صورها، حيث نصّت على ذلك المادّة 15 من الدستور العام 1926 على أنّ "الملكية في حمى القانون، فلا يجوز أن ينزع عن أحد ملكه إلّا لأسباب المنفعة العامة في الأحوال المنصوص عليها في القانون، وبعد تعويضه منه تعويضًا عادلًا". من ناحيته شدّد قانون العقوبات اللبناني[49] العقوبة في المادّة 737 معطوفة على المادّة 257 عندما نصّ على ما يأتي: "... 2- إذا وقع الغصب على كل أو قسم من الطرقات العامة أو أملاك الدولة أو الأملاك المشاعية".
كما أنّ القانون رقم 84 – الصادر في 26/8/1997 تحت عنوان عفو عام عن الجرائم المرتكبة قبل تاريخ 28 آذار 1991 استثنى من أحكامه في المادّة 3 "... 6- الجرائم المتعلقة بالآثار. 7- جرائم الاعتداء على الأموال والأملاك العمومية أو الخصوصية العائدة للدولة أو البلديات وعلى أموال المؤسسات العامة وأملاكها..."
أولى المشرّع اللبناني الآثار أهميّة بارزة وذلك في القانون رقم 35 والقاضي بتنظيم وزارة الثقافة، وذلك بإحداث 3 مديريات تُعنى بالآثار وذلك في المادّة 140 منه، بحيث تم استحداث مديرية المنشآت الأثرية والتراث المبني، ومديرية الحفريات الأثرية، ومديرية الممتلكات الأثرية المنقولة.
وللتأكيد على الحماية القانونية للآثار، لم يتوانَ المشرّع اللبناني عن إقرار القانون رقم 37 تحت عنوان الممتلكات الثقافية، الذي أكّد في المادّة 22 منه استمرار العمل بأحكام القانون الصادر بالقرار رقم 166/ ل.ر. مع الأخذ ببعض التعديلات.
تجدر الإشارة إلى أنّ هذا القانون قد وسّع نطاق الحماية بحيث أنّ التعداد الوارد في المادّة 2 جاء شاملًا ومفصلًا لما قد تشتمله الممتلكات الثقافية، بالإضافة إلى عدم ذكر التاريخ المحدد لتصنيف الأثر كما هو وارد في القرار رقم 166/ ل.ر.
تبرز أهمية حماية الأثر أيضًا في المادّة 5 ف2 والتي أعطت صلاحية استنسابية للوزير لإدراج أي ممتلك منقول أو غير منقول على إحدى اللائحتين والتي انشئت في المادّة 4، بالإضافة إلى لائحة الجرد العام، وهما لائحة الممتلكات الثقافية المعترف بها ولائحة الممتلكات الثقافية المصنّفة.
ونذكر من مظاهر الحماية بالآثار 310 قرارات ومرسوم منذ العام 1936 لغاية 2012 قضت جميعها بإدخال آثارات وأبنية في قائمة الجرد العام، وقد تضمّنت الغالبية المطلقة منها قيودًا على المالك وخصوصًا في المادّة الثانية منها حيث نصّت على أنّه "لا يجوز القيام بأي عمل من شأنه تغيير وضع البناء الحالي وطبيعته من دون الموافقة المسبقة للمديرية العامة للآثار على الأعمال المنوي إجراؤها والمواد المنوي استعمالها".
أ- عدم جواز تملّك الأثر بالتقادم
القصد من هذا المبدأ هو منع الاستناد إلى وضع اليد على الآثار المخصّصة للنفع العام بالإدعاء بكسب ملكيتها مهما طالت مدّته.
ويتميّز مبدأ عدم قابلية الأثر للتملّك بالتقادم بكونه- من الناحية العملية –وجه الحماية الحقيقية التي يريد المشرّع أن يضفيها على الآثار، وهو نتيجة منطقية لمبدأ بطلان التصرف بالأثر، فهو لذلك مظهر من مظاهر الحماية التشريعية المهمة لحماية الآثار وضمان استمرار ديمومة تخصيصها للنفع العام. وقد اتفق كل من الفقه والقضاء على أن تقرير مبدأ بطلان التصرّف يبطل نقل ملكية الأثر للأفراد، ومن باب أولى مبدأ عدم جواز تملك الأثر بالتقادم الذي يعدّ أهم من المبدأ الأول، لأنّ مبدأ بطلان التصرف إذا كان يحمي الأثر في مواجهة تصرفات الإدارة؛ فإنّ مبدأ عدم جواز اكتساب الأثر بالتقادم أكثر أهمية- عمليًا – في حماية الأثر من تصرّفات الأفراد، ولبيان ذلك يمكن القول: إنّ من الصعب تصوّر إمكان قيام الدولة أو الشخص الإداري بإجراء التصرف بالأثر إلّا إذا كانت قد زالت عنه صفته العامة. كذلك من الصعب تصوّر إقدام دائن الدولة أو الشخص الإداري بالحجز على الآثار، نظرًا لكون الدولة أو الشخص الإداري ميسورًا، فلا يكون دائنه في حاجة إلى التنفيذ الجبري على ماله[50]، فضلًا عن ذلك فإنّ هذا المبدأ شرع لمصلحة الإدارة صاحبة الأثر، فلا يجوز لغيرها أن يحتج به وهذا الاحتجاج للإدارة وحدها، أي لا يجوز للأفراد الإحتجاج بالدفع، فإذا ثار نزاع بين شخصين على موقع أثري، فلا يجوز لأي منهما الدفع باتجاه الآخر بدعوى الحيازة، وللقضاء أن يمتنع عن قبول هذا الدفع، كما أنّ للإدارة وحدها أن تدفع ذلك.
أمّا اعتداء الأفراد على الآثار، بوضع اليد عليه، أملًا في اكتساب ملكيته بالتقادم، فإنّ مثل هذا الاحتمال من الممكن توقّعه دائمًا نتيجة لإهمال الإدارة، وبالتالي فإنّ حماية الآثار اقتضت سدّ السبيل أمام الأفراد في وجه ذلك التعدي باعتماد مبدأ عدم جواز تملك تلك الآثار بالتقادم[51].
ب- النتائج المترتبة على مبدأ عدم جواز تملك الأثر بالتقادم
(1)- يمتنع على الأفراد وضع أيديهم على الأثر والإدعاء باكتساب ملكيته استنادًا إلى وضع اليد، مهما طالت مدّته، ويكون للإدارة أن ترفع وضع اليد، من دون أن يكون للأفراد الحق في الالتجاء إلى دعوى وضع اليد، نظرًا لأنّ حيازة الأثر لا تصلح سببًا لقبول هذه الدعوى، لأنّها حيازة عارضة ومؤقتة ولا تحميها تلك الدعوى.
(2)- لا يحق لواضع اليد على الأثر أن يرفع دعوى منع التعرض، نظرًا لأنّ ملكية المدّعي للأثر أو العين تشكّل ركنًا أساسيًا من أركان تلك الدعوى، وحيث أنّ الأثر، باعتباره مالًا عامًا، لا يمكن أن يكون محلًا لملكية خاصة، فحيازته من قبل الأفراد عارضة، لذا تكون دعوى منع التعرض قد فقدت ركنًا أساسيًا من أركانها، مما تنتفي معه امكانية التمسك بها في مواجهة الإدارة [52].
(3)- لا يردّ على الأثر أي سبب من أسباب كسب الملكية، ولا يجوز نقل ملكيته إلى أحد ما دام مخصصًا للمنفعة العامة، لذلك لا يجوز التمسّك بمبدأ الالتصاق لاكتساب ملكية الأثر؛ فالقاعدة أنّ المال الخاص يكون تابعًا للمال العام وليس العكس، فما دام الموقع الأثري هو الأصل، فإّنه لا يمكن تملّكه بالتقادم، ولا يكون لإقامة المنشآت عليه أي تأثير في صفته، وتبقى الحماية ما بقي الأثر مخصصًا للنفع العام، ويكون للإدارة الحق في إزالة المنشآت المقامة على الأثر بصفتها المهيمنة على هذه الآثار.
(4)- لا يمكن اكتساب حق ارتفاق على المواقع الأثرية بالتقادم للغير. وذلك لتعارضه مع مبدأ عدم جواز تملك الأثر بالتقادم، وفي مقابل ذلك تشمل حقوق الارتفاق الإدارية المقرّرة على المال الخاص حماية لهذه الآثار طالما خصّصت للمنفعة العامة.
مع الإشارة إلى أنّ التمسّك بمبدأ عدم جواز تملك الأثر بالتقادم يقتصر على الإدارة وحدها، فلا يجوز لغيرها التمسّك به، لأنه لم يشرع إلّا لمصلحة الإدارة من أجل تمكينها – باعتبارها صاحبة الولاية على الأثر- من صيانة تخصيص هذه الآثار للنفع العام[53].
حرص المشرّع اللبناني على تطبيق قاعدة عدم التملّك بالتقادم بموجب نص المادّة الأولى[54] من القرار رقم 144/S وكذلك المادّة السادسة من القرار رقم 166 / ل.ر.، وينتج عن ذلك توافق المادتين شكليًا بعدم جواز اكتساب الأثر بالتقادم باعتبار أنّ الآثار "جزء من أملاك الدولة العمومية ولا يعترض بمرور الزمن على حقوق الدولة الجارية على هذه الآثار المنقولة". كما أنّ القضاء الإداري في لبنان استقر في تحديد الصفة العامة للأثر وهو صاحب الاختصاص بالفصل في ذلك، مؤكدًا في قراراته عدم جواز اكتساب الأثر بالتقادم[55]. غير أنّ من الملاحظ أنّ المادّة السادسة من قانون الآثار لم تتطرّق إلى الآثار المنقولة, بل استهدفت الآثار غير المنقولة فقط، ممّا يدل على أنّ المشرّع اللبناني قصر في عدم شموله الأثر المنقول بهذا المبدأ ليخرجه من نطاقه، مجيزًا بذلك للأفراد التصرّف فيها، ونعتقد أنّه من باب أولى أن تكون نصوص المادتين المذكورتين أعلاه متطابقتين في الموضوع، تحت ظلال مبدأ عدم جواز تملك الأثر بالتقادم.
أمّا عن حقوق الارتفاق العينية المفرزة لصالح الأثر، فقد أوردها المشرّع اللبناني بالقرار المذكور أعلاه في المادّة 28 منه[56] التي تسمح بوضع حقوق ارتفاق مفروضة قانونًا لصالح العقار الأثري ولا مجال لفرضه لصالح الأفراد لتنافي ذلك مع مبدأ عدم جواز اكتساب الأثر بالتقادم، والتصرّف بغير ذلك يؤدي إلى البطلان المطلق[57]، فضلًا عن ذلك، فقد أكدّ المشرّع هذا الحق بالمادّة 33 بمنع حق الارتفاق الذي يلحق ضررًا بالعقارات الأثرية المسجلة لدى السلطة الأثرية[58]، كما أوضح في المادّة 38 من القرار بتعويض المتضررين نتيجة حق الارتفاق الذي يسري على العقارات الخاصة المجاورة[59].
وتطبيقًا لذلك، قرّر مجلس شورى الدولة أنه "وبما أنّه يتبيّن أنّ الدولة قد أجابت أنّ المرسوم رقم 2813 تاريخ 28/2/72 لم يفرض أي قيد من شأنه إنزال ضرر أكيد في العقارات، فقد لحظ وجوب الحصول على موافقة المديرية العامة للآثار ضمن معاملات رخصة بناء، وليس ما يثبت رفض الترخيص فيكون الضرر مفترضًا ولا يجوز التعويض عن ضرر محتمل حصوله، وأنّ الضرر الذي يطالبون به هو مبلغ وهمي لا يرتكز حسابه على قاعدة (...)، بناء عليه بما أنّ المراجعة ترمي إلى المطالبة بتعويض من جراء فرض الارتفاق على عقارات الجهة المستدعية ... يتبيّن أنّ المشرّع قد لحظ لجنة مهمتها تقرير التعويض المعادل للضرر الذي ألحقه التسجيل بالملّاكين أو أصحاب الحقوق العينية..."[60].
ج- عدم قابلية الحجز على الأثر
إنّ المشرّع اللبناني لم ينص صراحة على مبدأ عدم قابلية الأثر للحجز عليه، ولكنه كرّس قاعدتين: قاعدة بطلان التصرّف في الأثر، وقاعدة عدم قابلية اكتساب ملكية الأثر بالتقادم أو بمرور الزمن إلّا أنّ مبدأ عدم قابلية الأثر للحجز عليه يمكن استخلاصه من مجموع القواعد المقررة لحماية هذا الأثر، ذلك أنّ الحجز عليه قضائيًا وبيعه جبريًا عن الإدارة يؤدي حتمًا إلى إنهاء الغرض الذي خصص من أجله.
ولقد قيّد المشرّع اللبناني، في بعض من نصوص القرار الخاص بالآثار، أصحاب الإمتياز الذين يعملون على اكتشاف الآثار، حيث شدّد عليهم بأن يحافظوا على هذه الآثار وتسليم الأثر المكتشف منها إلى الجهات المختصة وإبعاده عن الأفراد والتصرّفات غير القانونية في نصوص المواد 65، 66، 70 من القرار آنف الذكر.
د- إزالة التعدي على الأثر
لم يورد المشرّع اللبناني في القرار رقم 166/ ل.ر. أي نصّ يعطي الصلاحية لمدير دائرة الآثار باتخاذ القرارات المناسبة لإزالة التعديات التي تجري على الآثار، وأعطى هذه الصلاحية لرئيس الدولة أو المفوّض السامي في لبنان، بعد تقديم المقترحات من مدير دائرة الآثار كما ورد ذلك على سبيل المثال في المادّة 24 ف2 منه[61].
وتطبيقًا على ذلك، قضى مجلس شورى الدولة بأنّه "يقبل الطعن أمام مجلس شورى الدولة بقرار وقف البناء الصادر عن المديرية العامة للآثار التابعة لوزارة التربية الوطنية، والمقدّم بوجه الوزارة المذكورة وهو طعن مقدّم بوجه ذي صفة. كما أنّ عدم البتّ بالسبب القائم على عدم صلاحية وهو من الأسباب التي تقضي إثارتها عفوًا لتعلّقها بالنظام العام يجعل طلب إعادة المحكمة مقبولًا، وإن لم يدل به من المستدعي، وذلك سندًا للمادتين من 65 و97 من قانون مجلس شورى الدولة. بموجب الفقرة الثانية من المادّة 24 من القرار 166 الخاص بحماية الآثار لا يمكن لدائرة الآثار وقف المالك عن الأشغال إلّا إذا كان القصد منها، أو كانت نتيجتها، تجزئة البناء المقيّد في الجرد والرغبة في بيع المواد التي تفصل عنه على هذه الصورة. وأمّا في ما عدا ذلك، فلا يجوز لها أن تمانع في إجراء الأشغال إلّا بإجرائها معاملات التسجيل المنصوص عنها في المواد 26 وما يليها من القرار التشريعي المذكور"[62]. كما يقتضي هدم البناء المشيّد على الملك العام من دون أي تسوية[63], وعلى مسؤولية ونفقة المعتدي[64].

الخاتمة
تبلورت الحماية القانونية للآثار في لبنان عبر هذه المجموعات من القوانين والقرارات الصادرة عن الإدارة بمفهومها الواسع. ممّا لا شك فيه أنّ المشرّع أعطى الإدارة القدرة على حماية الآثار عن طريق التدخّل حينما تدعو الحاجة إذ إنّها تعمل "في إطار القوانين والأنظمة المرعية الإجراء على الحفاظ على المعالم الطبيعية والتراثية للمواقع القائمة على امتداد الشاطىء اللبناني والمحافظة على المواقع والمجمّعات التاريخية ..."[65]. وحاول البعض انتقاد عدم فعالية القرار رقم 166/ل.ر. لقدم عهده لأنه صدر في ظل الإنتداب الفرنسي أي قبل الإستقلال.
لا بد من الإجابة إلى أنّ القوانين لا تسقط بالتقادم وإنّ قدم تاريخ قانونًا ما لا يعيّب عليه عدم فعاليته وإلّا لسقط النظام القانوني الفرنسي الوارد في القانون المدني على سبيل المثال، كما وأنّ الدستور اللبناني لعام 1926 كان في ظل الإنتداب الفرنسي، كما وجملة من القوانين وأهمها قانون الموجبات والعقود لعام 1932.
إذًا ورغم التدخل الإيجابي من قبل السلطات اللبنانية لحماية الآثار، فإنّ هذه الأخيرة ما زالت عرضة للخطر الداهم من جرّاء فشل غالبية المواطنين اللبنانيين في احترام القاعدة القانونية والتي تعتبر دائمًا كعقاب مفروض من السلطة الغريبة عنهم وليس للحماية كما يتوخى منها المنطق القانوني. ولا بدّ من الإشارة أيضًا إلى الاخفاق في حماية الآثار والتي تندرج في إطار الملك العام، لأنّ هناك تفاوتًا بين المواطنين من ناحية احترام الشأن العام، فتأتي التصرفات من البعض تجاه الأثر عدائية. فهذا الرفض لاحترام الحماية المتأتي من الأسباب التي ذكرناها يمكن معالجته جزئيًا من الناحية الفكرية والثقافية عن طريق اعتماد كتاب موحد لتدريس مادة التاريخ, كي يتم التعرّف على محطات الماضي بعقلانية وصفاء[66]... كما "يجب أن لا ننسى أن التاريخ يوضّح لنا الماضي الذي قد يساعدنا على فهم الحاضر"[67].
في الواقع يلاحظ جليًا أنّه كلما ازداد ميل الإقتصاد إلى العولمة والأقلمة في سائر أنحاء العالم، كلما ازداد ميل الشعوب للبحث عن هويتها الخاصة، أي عن الأرض والثقافة واللغة والتراث والآثار.
في زمن تقتحم فيه التكنولوجيا والعصرنة مكاتبنا وبيوتنا وتدخل إلى أعمق ما في حياتنا وترافقنا كالظل حيثما يوجد شعاع للشمس أو ضوء للقمر، يجب الحفاظ على التراث وإذا ما اجتمعت الأجيال القادمة مستقبلًا للهدف نفسه فسيكون حاضرنا الماضي بالنسبة لها، لذا علينا أن نضع صورة حاضرنا وحضارتنا في كل أمر نقوم به مستفيدين من البرامج المعلوماتية[68] لتخزين المعلومات، فبفضلها نجمع بين التراث والحاضر. كما وأنه يقتضي لاستتباع هذه الحماية النهوض بمشروع دار الثقافة والفنون في وسط مدينة بيروت والمكتبة الوطنية لكي "تكون المكان الذي يجتمع فيه كل الإنتاج الثقافي اللبناني مهما كان نوعه ... وأن تكون المكان الذي تجتمع فيه ذاكرة اللبنانيين وذاكرة العالم الثقافية في لبنان"[69]. هذا على غرار أهمية المتحف العسكري والذي بموجب البرقية الصادرة بتاريخ 7/1/1998 أُلحق بمديرية التوجيه واعتُبر قسمًا من أقسامها وحيث "التاريخ يلف المكان. تاريخٌ يرسّخ أن الجانب العسكري لا ينفصل عن غيره من الجوانب الإنسانية المختلفة. تاريخ كُتب بدماء لم يعرف أصحابها إلّا الولاء للوطن"[70].

قائمة المراجع
النصوص القانونية
الدستور اللبناني لعام 1926 مع تعديلاته
القرار الرقم 144/S تاريخ 10/6/1925 الأملاك العامة
القرار الرقم 275 تاريخ 5/5/1926 الأملاك الخاصة
قرار الرقم 3393 صادر في 12 تشرين الثاني 1930 : قانون الملكية العقارية
قانون الموجبات والعقود اللبناني الصادر بتاريخ 9/3/1932 مع تعديلاته
مرسوم إشتراعي رقم 340 الصادر بتاريخ 1/3/1943 قانون العقوبات
قانون الآثار، قرار رقم 166 ل.ر تاريخ 7/11/1933
القانون الرقم 35 الصادر بتاريخ 16/10/2008 تنظيم وزارة الثقافة
القانون الرقم 37 الصادر بتاريخ 16/10/2008 الممتلكات الثقافية
القانون الرقم 225 تاريخ 2/4/1993 المتعلق بإحداث وزارة الثقافة والتعليم العالي
قانون الاستملاك الرقم 58 الصادر بتاريخ 29/5/1991 و تعديلاته بموجب القانون الصادر بتاريخ 8/12/2006.
القانون الرقم 84 الصادر في 26/8/1997 تحت عنوان عفو عام عن الجرائم المرتكبة قبل تاريخ 28 آذار 1991

المؤلفات
باللغة العربية
د.يوسف سعد الله الخوري: مجموعة القانون الإداري – الجزء الثالث – الملك العام والملك الخاص – صادر 1999
د. ماجد راغب الحلو، قانون حماية البيئة في ضوء الشريعة، دار الجامعة الجديدة 2009،
د.حسن خليل غريب، تدمير تراث العراق وتصفية علمائه – جريمة أمريكية صهيونية إيرانية منظمة – دار الطليعة بيروت، 2008
د. أنطوان خوري حرب، لبنان جدلية الإسم والكيان عبر 4000 سنة، ط1، مؤسسة التراث اللبناني، 2000
د. اميل اتيان، محاضرات عن أحكام المياه والمناجم والمقالع والآثار، معهد الدراسات العربية العالمية 1957 – 1958
د. عبد الرزاق أحمد السنهوري، الوسيط في شرح القانون المدني، حق الملكية، ج 8، منشورات الحلبي الحقوقية ، بيروت، ط 2 ، 2009
د. إبراهيم عبد العزيز شيحا، الوسيط في مبادىء وأحكام القانون الإداري، الدار الجامعية، 1977
هيام جورج ملاّط، المياه والإمتيازات في الشرع اللبناني، منشورات الحلبي الحقوقية 1999،
د. محسن خليل، مبادىء القانون الإداري، مكتب كريديا اخوان، بدون تاريخ، ص 44. د. طعيمة الجرف، القانون الإداري – نشاط الإدارة العامة : أساليبه ووسائله، دار النهضة العربية، 1985
د. توفيق حسن فرج: الحقوق العينية الأصلية، الدار الجامعية 1993
د. عصام مبارك، د. ملحم نجم: أصول المحاكمات الإدارية، التنازع الإداري -الجزء الأول- منشورات الحلبي الحقوقية 2016
د. أسعد دياب، دولة لبنان الكبير 1920 -1996، 75 سنة من التاريخ والمنجزات، مجموعة مؤلفين منشورات الجامعة اللبنانية، بيروت 1999
د. عبد الغني بسيوني عبد اللـه، القانون الإداري، دراسة مقارنة لأسس ومبادىء القانون الإداري وتطبيقها في لبنان، الدار الجامعية، بدون سنة طبع

 


جميع الحقوق محفوظة لموقع جامعة الأمة العربية © 2021 - 2013