[ اصطفافات " الحرب السّوريّة " الأخيرة .هل تنزلق هذه الحرب إلى كارثة قارّيّة ؟ .. و هل يُلْدَغُ " المؤمن " الروسي ، أكثر من مرة ، من الجُحْرِ التركي ، ذاته ؟! ] الدراسات والتوثيق | [ اصطفافات " الحرب السّوريّة " الأخيرة .هل تنزلق هذه الحرب إلى كارثة قارّيّة ؟ .. و هل يُلْدَغُ " المؤمن " الروسي ، أكثر من مرة ، من الجُحْرِ التركي ، ذاته ؟! ]
تاريخ النشر: 24-12-2019

بقلم: اللواء الدكتور بهجت سليمان

1 • في طريق تطوراتها ، رتّبت "الحرب السّوريّة" مجموعة من الاصطفافات المحلّيّة و الإقليميّة و الدّوليّة الجديدة ، و ذلك بقدر ما كان معقوداً عليها من آمال إقليميّة و عالميّة في تغيير قواعد الانتظام المتكرّر في "الشّرق الأوسط" ، في القرن العشرين ؛ بعد أن لم يكتفِ الغرب الإمبرياليّ بزعامة (أميركا) ، بتدمير (أفغانستان) و (العراق) و (السّودان) و (الصّومال) ، في طريقه نحو إقامة نظامه العالميّ المنفرد به ، فيه ؛ و ذلك لأنّ (أميركا) و من ورائها الغرب و الصّهيونيّة العالميّة ، يناظرون قطيعاً من مصّاصي الدّماء الذين لا يمكنهم الاستمرار في وجودهم إلّا على اقتياتهم على دماء البشر و امتصاص مقدّرات الآخرين و تصفية وجودهم و نهب اقتصادات الشّعوب الفقيرة ، بعد تدمير و تخريب عوامل الحياة فيها و التّمتّع المنحرف بنتائج الحروب الماجنة .

2 •. و إذا كانت العلاقات الدّوليّة في تاريخ السّياسة المعروف تخضع لنظام من عدم الثّبات و عدم الاستقرار الدّائمين ، فذلك ليس إلّا وجهاً واحداً من الحقيقة التي من شأنها أن تتعدّد وجوهها لتأخذ - على سبيل المثال ، أيضاً - خطّاً متصاعد الإيقاع محكوماً بنموّ الرّوح القوميّة للأمم وفق خصائصها الأنثروبولوجيّة و الثّقافيّة و التي تنفرغ كلّها ، في مناسباتها الحينيّة ، في السّياسة ، بوصف هذه الأخيرة تعبيراً صريحاً عن الحاجة و الضّرورة و الطّموح لروح الأمّة في عصر من العصور .

3 • حكم الإشعاع التّاريخيّ لمنطقة "الشّرق الأوسط" ، بما تضمّنته من الطّاقة الحضاريّة الجنينيّة لبقاع الأرض كلّها ، علاقات الدّول القريبة و البعيدة منها ، بما في ذلك تخومّ القارات الثّلاث التي تحيط بها ، متجاوزة في ذلك حدودها لاستثارة القارّة الجديدة التي تمثّلت ، بقوّتها و نضوجها الّلافت و السّريع ، بأميركا التي نعرفها ، اليوم ، بطغيانها العالميّ .

4 • نحن على هذا الأساس ، علينا أن نقرأ حاضرنا السّياسيّ ، بصفته أثراً جوهريّاً للامبراطورية الأميركيّة التي امتدّ تأثيرها ، بالقوّة و الامتصاص و الإخضاع و الإذلال ، أوربا الغربيّة ، كلّها ، معها ، و كذلك سائر الدّول المرتهنة لها في كلّ مكان في العالم ، و منها الجارة ( تركيا ) الممتدّة على قارّتين ، و ذلك بكلّ أهمّيّتها الاستراتيجيّة بالنّسبة إلى أميركا و إلى الغرب بشكل عام ، و ما يرتبط بهما ، على الأخصّ ، من مشاريع عالميّة كالصّهيونيّة اليهوديّة و الصّهيونيّة المسيحيّة و الصّهيونيّة " الإسلاميّة " على مدار هذه الأرض .

5 • أظهرت "الحرب السّوريّة" ، بما نجم عنها سياسيّاً ، إقليميّاً و عالميّاً ، نمطاً جديداً من الخلافات و التّوافقات و التّواطؤات ، و الشّراكات و التّحالفات ، على نحو تميّز بفرادة تاريخيّة تربك حتّى جهابذة المحلّلين السّياسيين على امتداد المنطقة و العالم ، و قلّما ينجو من تلك التّحليلات ما يوفّر لنفسه دواماً معتبراً في وحدة الزّمن المتسارعة للأحداث ، في إطار تحوّلات أفقيّة و عمقيّة في علاقات الدّول فيما بينها ، و بخاصّة ما استقرّ مؤخّراً من تلك العلاقات في قلب منطقتنا من العالم ، و ما تشابك فيها من مصالح و اختلافات و خلافات دوليّة ، كان العالم كلّه حاضراً فيها ، و لو أنّها استقرّت بالتّوتّر و الغليان في إطار دول حصريّة ، عدا أوربا الغربيّة ، هي أميركا و روسيا و تركيا و إيران و ("إسرائيل") و سورية ، و هذا بالشّكل المباشر لتداخل علاقات الصّراع النّاجم في مناسبة "الحرب السّوريّة" و تعقّداتها الدّوليّة ، الإقليميّة و القارّيّة و العالميّة ، إلى الدّرجة التي غدا معها التّوقّع السّياسيّ لمستقبل هذا الوضع ، ضرباً من فلسفة السّياسة التي بدونها يكون مصير كلّ توقّع و احتمال إلى تأقيت و زوال حاضِرَين .
6 • يعوزنا لقراءة المشهد الأخير من العلاقات الإقليميّة القارّيّة العالميّة ، شيء من الذّاكرة التّاريخيّة ، إذا أردنا أن نحلّل كلّ هذا التّعقيد الذي تحوّل إلى شبه جمود في وضع "الحرب السّوريّة" و ما نجم عنها من علاقات تبدو جديدة تنضاف إلى علاقات استقرّت ، على نحو من الأنحاء ، و نخصّ منها بالذّكر تلك العلاقات ما بين الدّول التي وقفت موقف الدّفاع في هذه "الحرب" ، و هي سورية و إيران و روسيا ، في وجه حرب "النّاتو" الصّهيونيّة الإسلامويّة على سورية و على المنطقة كلّها من إيران مروراً بالعراق ثمّ سورية و لبنان .
نحن نحت
[٢٣/‏١٢ ٦:١١ م] ب س: نحتاج تحليلاً معمّقاً للتّاريخ القريب ، و ربّما البعيد أيضاً ، عندما علينا أن نفهم هذه الشّبكة السّرّيّة للظّاهرة السّياسيّة التي تحكم اليوم علاقات روسيا و تركيا و أمريكا و سورية و إيران و ("إسرائيل") .

و في هذا السّياق ينبغي علينا ألّا ننسى أنّ مصير طموح علاقات جميع الأطراف المنخرطة في "الصّراع" انخراطاً مباشراً أو انخراطاً غير مباشر ، إنّما يتحدّد بكمّيّة و نوعيّة المصالح التي تشكّل دوافعاً مباشرة للعلاقات ما بين الدّول المذكورة ، و ذلك ابتداءً من أهداف السّيطرة الاستراتيجيّة العسكريّة و السّياسيّة و ما يتفرّع عنها من حيازة المجالات الجيوبوليتيكيّة ، و انتهاءً بالمصالح الاقتصاديّة و الثّقافيّة التي تقبع في ما خلف الدّوافع المباشرة كمحرّك تاريخيّ حيّ و ديناميّ و عميق و مُمتدّ ، علينا عدم إهماله في حسابات دوافع هذا الوضع الذي آلت إليه الأحداث في شكل علاقاتها التي دخلت مرحلة من الغموض و الإبهام و العمق و السّطحيّة و ربّما السّذاجة في بعضها الأخير .
و بناءً على هذا ، فإنّنا سننظر من قرب بنموذجين من العلاقات السّياسيّة المعقّدة و المركّبة رافَقا "الحرب السّوريّة" المعاصرة ، ثمّ في انعكاساتهما الذّاتيّة، و انعكاساتهما على المصير النّهائيّ لهذا الصّراع العالميّ التّاريخيّ الذي "استضافته" سورية(!) في غفلة من "الأشياء".. ! و هما نموذجا العلاقات المعاصرة بين روسيا و تركيا ، من جهة ؛ و بين إيران و تركيا من ، جهة أخرى ؛ على أن ننتهي بالحديث إلى خلاصة سياسيّة تحاول مقاربة موقع سورية من هذين النّموذجين المؤثِّرَين على واقع و تطوّرات "الحرب السّوريّة" ، بما لا يقبل التّأويل .
أوّلاً - العلاقات الرّوسيّة - التّركيّة :
7 • بناء على تضحيات السّوريين ، و على موقع سورية من هذه "الحرب" ، على اعتبار أنّنا في سورية نحن قطب الرّحى في الأسباب الموضوعيّة التي غيّرت علاقات العالم الأخيرة و بعثت فيها آفاقها الجديدة ؛ فإنّه يحقّ لنا القول إنّ ما يعنينا كسوريين ، أكثر ما يعنينا ، هو هذا "الغموض" أو التّردّد أو في محاولة ما يُقال على الاحتواء الرّوسيّ لأردوغان ، مع أنّ الأمر لا يبدو بهذه البساطة أبداً . و لذلك نحن علينا التّوقّف أمام أبعاد هذه العلاقة الرّوسيّة - التّركيّة و مجاهيلها و معاليمها ، لعلّنا نصل بالتّحليل إلى مواقع أفضل مما وصل إليه ، حتّى الآن ، مختلف المجتهدين و المتسائلين و الحائرين .

8 • بالعودة إلى التّقاليد ، ف يمكننا أن ندرك أنّ ثمّة عداء تقليدياً بين "روسيا القيصرية" و "الإمبراطوريّة العثمانية" ، لأسباب متعددة و مختلفة شكّلت عوامل تاريخيّة منها الجغرافيّة و الدّينيّة و القوميّة ؛ حيث يتركّز العامل الأوّل في أنّ "روسيا القيصريّة" كانت تطمح نحو تجاوز جليدها القدريّ إلى الوصول إلى المياه الدافئة ؛ و أمّا الثّانية ، فإنّ "روسيا القيصريّة" كانت حامية للمسيحيّة الأرثوذوكسيّة ؛ و أمّا الثّالثة ، فلكون "روسيا القيصريّة" كانت القائدة و المدافعة عن العرق "السّلافيّ" و جامعته الدّوليّة في وجه الأطماع الإمبراطوريّة العثمانيّة التي تجاوزت حدودها الآسيويّة الشّرقيّة إلى تخوم (روسيا) .
و حيث أُعْلِنَت الجمهورية الأتاتوركيّة التّركية عام (١٩٢٣م) ، كانت روسيا السّوفييتيّة - قلب "الاتحاد السوفيتي" الفتي ، حينئذ - أوّل و أكثر ، من وقف مع الجمهورية التّركية الوليدة ؛ حيث أرسى كلٌّ من (لينين) و (أتاتورك) مبادئ جديدة للعلاقات التّركيّة - السّوفييتيّة ، ثمّ في ما بعد كان " ستالين " أكثر الداعمين لـ (أتاتورك) .

9 • عندما قام الحلف الاطلسي ("الناتو") الأميركيّ - الأوربّي في عام (١٩٤٩م)، في وجه "الاتّحاد السّوفييتي" ، الذي خرج منتصراً من الحرب العالمية الثانية ، رغم الخسائر البشرية والمادية الهائلة التي تكبدها انضمت تركيا إلى حلف "الناتو" و تحوّلت إلى حربة مسمومة في خاصرة الاتّحاد السّوفييتي .
في عهد الاتّحاد السّوفييتي جرى تحوّل سطحيّ للعوامل إيّاها بالذّات و لو بغطاء آخر، حيث أثيرت مشكلة العوامل الجغرافية في العشرينات و الأربعينات من القرن العشرين ، الماضي ، و دخلت العلاقة في خلافات أيديولوجية مع تركيا بسبب انضمام هذه الأخيرة إلى الأحلاف الغربية ، فاتَّصَفَت العلاقة بين الطّرفين بتناقضات مغلّفة بالصراع و التعاون بين تركيا و الاتحاد السوفيتي في العهد الأتاتوركي .
بدأ نوع من التقارب بين تركيا و الاتحاد السوفيتي بعد حوادث عام (١٩٦٤م) و الأزمة القبرصيّة ، إذ تم تبادل في الزيارات بين المسؤولين الأتراك والسوفيت بعد عام (١٩٦٥م) . وقد أسهمت عوامل كثيرة على هذا التقارب ، منها "تقرير هرمل" الذي قدم إلى مجلس "حلف شمال الاطلسي" في عام (١٩٦٧م) و الخاص بكيفية إقامة العلاقات الثنائية بين "الغرب" و "الشّرق" ، و "مؤتمر الأمن الأوروبّي"، و مؤتمر (هلسنكي) الخاص بالوفاق الدّولي .
[٢٣/‏١٢ ٦:١٢ م] ب س: 10 • بعد انهيار دولة "الاتّحاد السّوفييتي" في عام (١٩٩١م) و ما نتج عنه من انهيار المعسكر الاشتراكي ،
حلّت حقبة جديدة من العلاقات بين تركيا و "روسيا الاتّحادية" ، حيث شهدت العلاقات بين البلدين في بداية القرن الحادي و العشرين حالة من التّفاهم في إطار "المصلحة الوطنية" لكلّ من الدّولتين ؛ و لكنْ مع بداية العقد الثاني للقرن الحادي و العشرين و نتيجة للتّطورات الإقليميّة إبّان الحرب على سورية ، شهدت العلاقات الرّوسيّة التّركيّة حالة من الضّبابية على الرغم من الانفتاح في المجال الاقتصادي ، و لكن على ما يبدو أنّ المشكلات الاقليمية ضغَطَت لمراجعة التوجهات السياسية بين الدولتين .

11 • من جانب آخر ، و بين عامي (٢٠٠٤ و ٢٠١١ م) ، قدّمت سورية الأسد ل تركيا أردوغان ، كل ما من شأنه أن يبث الطمأنينة لدى الأتراك ، شعباً وقيادةً ، من أجل التعاون والتشارك في مواجهة التحديات الدولية والإقليمية ، في هذا العالم القلق ..
رغم ذلك ، تحوَّلَتْ تركيا الأردوغانية ، إلى رأس الحربة الصهيو/أميركية المسمومة ، وإلى القاعدة الأساسية للمجاميع الإرهابية المستوردة من أكثر من مئة بلد ، وإلى قاعدة انطلاق لعشرات آلاف الإرهابيين ، بغرض إسقاط الدولة السورية وتمزيق جيشها واستباحة أراضيها ، وصولاً إلى إخراجها من التاريخ و الجغرافيا .

12 • من خلال هذا التّاريخ المتناقض المتصارع الطّويل بين روسيا و تركيا ، لا نرجّح ، أنّ ثمّة أيّ سبب ذاتيّ أو موضوعيّ يسوّغ هذه "الطّمأنينة" الرّوسيّة نحو تاريخ المخادعات و الخيانات و المنافسات التّركيّة لروسيا ، قوميّاً و دينيّاً و سياسيّاً ؛ و بخاصّة أن الحصار التّركيّ المعاصر الذي يعانيه أردوغان في لفظه من أمله بدخول الاتّحاد الأوروبّي ، دفعه إلى هذه المساومة ، استمراراً في تاريخ تركيّ رسميّ ليس هناك أكثر من أردوغان إخلاصاً له ، و نعني بذلك طموحاته العثمانيّة الإمبراطوريّة ، و ذلك إلى الدّرجة التي توَهَّمَ معها أنّه قادرٌ على أن يخادع كلّاً من أميركا و روسيا ، معاً ، رغم أنّه لا يجرؤ بالمضيّ بعيداً في استيهاماته إزاء أميركا ، لكونه "مكدوناً" بجملة من الأسباب بعلاقته الذّليلة مع أميركا ، ليس أوّلها تأمينه لغطاء نفسيّ آمن لسياساته المستهترة مع الرّوس و غيرهم ، و قدرته الإنقلابيّة السّريعة و الآمنة إلى زريبته الأميركيّة - الأطلسيّة التّقليديّة ، بكون تركيا عضواً استراتيجيّاً في "النّاتّو" على حدود أوراسيا بما فيها روسيا و إيران و منطقة أقصى شرق "الشّرق الأوسط" و غربيّ آسيا ، و ذلك بما تعتبرها أميركا تاريخيّاً جزءاً من مجالها الحيويّ ؛ و ليس آخرها معرفته بأنّه شرطيّ أميركيّ في هذه المنطقة في العالم على حدود المشرق العربيّ و إيران ، و كذلك اليونان التّابعة للكنيسة المسيحيّة الأرثوذكسيّة الرّوسيّة ، هذا إذا أخذنا بعين الاعتبار نسبة التّديّن العالية و إقامة الطّقوس و الشّعائر الدّينيّة بكثافة في المجتمع اليونانيّ ، و كذلك في أنّ دستور اليونان يحتوي على مادّة صريحة فيه تقول إنّ الأرثوذكسيّة هي الدّين الرّسميّ للدّولة ؛ إذ علينا في الفكر السّياسيّ ألّا نهمل أيّ اعتبار من الاعتبارات التّاريخيّة الصّانعة لسياسات الدّول فيما بينها ، كما يؤكّد لنا هذا التّاريخ .

13 • و على ما تقدّم فإنّ السّياسة الرّوسيّة مع تركيا ، حتى اليوم ، هي سياسة محفوفة بجملة من المخاطر ؛ فهي عدا عمّا قلناه من مخاطر أعلاه ، مهدّدة ، حتماً ، بإصابة خيانيّة تركيّة مؤكّدة ، عندما ستحصد روسيا خيبتها من تركيا و أردوغان بالتّحديد ؛ و مع روسيا ستصاب بالآثار المنطقة كلّها مع الحلفاء ، و سورية بخاصّة ، جرّاء استفادة أردوغان من عامل الزّمن ، على الأقلّ ، و هو ما يعتبر أميركيّاً مكسباً كبيراً في إرهاق روسيا و إلهائها عن معركة المصير الأميركيّة و التي ترسم لها أميركا الخطط و تجهّز لها في الخفاء ، في غرب المحيط الهادي مع روسيا و الصّين ؛ هذا إذا كابرنا على جراحنا في سورية و على مساهمة الحليف الرّوسيّ في ذلك ، و لو من دون قصد ، بإطالة عمر المعاناة السّوريّة التي تكبر كلّ يوم ، بإعطاء المزيد من الفرص للمساومات التّركيّة في استنزاف سورية و تثبيتها في حالة مربكة من عدم الحسم و عدم الاستقرار .
ثانياً - العلاقات الإيرانيّة - التّركيّة :

14 • يكاد الأمر نفسه ينطبق على العلاقات الإيرانّية - التّركيّة ، و ذلك مهما قبلنا أو قبل غيرنا بمفهوم التّباينات الجزئيّة في مواقف الحلفاء و الشّركاء ، و مهما فهمنا تسويغات ذلك فهماً معاصراً، لولا أنّ الحرب القائمة بالنّسبة إلى سورية على الأقلّ هي حرب مصيريّة بالنّسبة إلى سورية كما بالنّسبة إلى الحلفاء و الأصدقاء ، و من واجب الأصدقاء و الحلفاء و الرّدفاء و الشّركاء تقاسم الغنم و الغرم إلى حدّ أكبر ممّا هو عليه في واقع و ظروف هذه الحرب التي أحاطت بقَدَرِ هذا المكان .
[٢٣/‏١٢ ٦:١٣ م] ب س: 15 • تقليديّاً ، فقد اتّخذت العلاقات الإيرانية - التّركيّة طابع المنافسة و حسن الجوار اعتباراً من منتصف القرن السّادس عشر ، فيما تنامت هذه العلاقة بعد عام (١٩٢٣م) و إقامة (أتاتورك) الجمهوريّة التّركيّة ، و اعتباراً من عام (١٩٢٥م) و وصول (رضا شاه) إلى الحكم في إيران ؛ هذا بما في ذلك تحييد الخلافات المذهبيّة و البحث عن المنفعة المتبادلة و المصالح المشتركة في هيئة علاقة يمكن وصفها بالمعايير الحديثة و المعاصرة بالبراغماتيّة . فإيران و تركيا تربطهما ، أيضاً ، مصلحة مشتركة في مواجهة و إخماد بؤر التّمرّد الاجتماعيّ البنيويّ العرقيّ و الإثني ببعديه السّياسيّ و التّاريخيّ (أو القوميّ) ، بحكم التّكوين الاجتماعيّ للدّولتين ، و بخاصّة بعد ظهور "المسألة الكرديّة" على إثر خسارة إيران للأناضول في معركة (تشالديران) أمام السلطنة العثمانية عام (١٥١٤م) حيث أصبح أكراد المنطقة الإقليميّة موزّعين على دولتين أساساً هما تركيا و إيران في المنطقة بعد أن كانوا منضوين جغرافياً تحت سلطة الدولة الإيرانية .
و تركيا و إيران دولتان مركزيّتان إقليميّتان في منطقة "الشّرق الأوسط" ، و هما تنظران إلى نفسيهما ، و كلّ منهما إلى الأخرى ، هذه النّظرة التي ترتّب عليهما جملة من المسؤوليّات و المصالح الاقتصاديّة المتناميّة ، مع عدم إهمال الجانب التّنسيقي الأمنيّ في المصلحة كما تقدّم بنا القول ، و هذا بالإضافة إلى الأدوار الخاصّة ، في إطار التّنافس التّقليديّ الذي يحكم علاقة الدّوليتين ، في إطار المشاريع الإقليميّة المختلفة التي تجمعهما و تفرّقهما ، في الوقت نفسه ، هذه المرّة ، من حيث اجتماعهما في إطار جامعة "إسلاميّة" سياسيّة واحدة ، و افتراقهما للسّبب نفسه منذ أن اعترفت كلّ منهما للأخرى بحماية مذهب إسلاميّ من أحد مذهبين ، واعترف كل منهما بالآخر حامياً بذلك (إيران للشّيعة ، والدولة العثمانية للسّنة)، وهو الأمر الذي تم تثبيته في معاهدات بين البلدين مثل معاهدة “زهاب” الموقعة عام (١٦٣٩م) ، حيث بدأ من يومها بعدٌ آخر ، عقائدي ، بينهما ، للصراع على النفوذ في المنطقة بين الدولة الإيرانيّة الشيعيّة والدولة العثمانيّة السّنيّة ، و من بعدها وريثتها الجمهوريّة التّركيّة .
في عام (١٩٢٦م) وقّع البلدان في طهران “معاهدة صداقة” تنصّ مبادئها على الصّداقة والحياد وعدم الاعتداء . و قد تضمّنت المعاهدة ، أيضاً ، احتمال القيام بعمليات عسكرية مشتركة ضدّ المجموعات المسلحة في أراضي البلدين التي تسعى لتعكير صفو الأمن أو تحاول تغيير نظام الحكم في أي من البلدين . في الحقيقة كانت هذه السّياسة موجهة بطريقة غير مباشرة إلى الأقليّات الكرديّة في البلدين . و في عام (١٩٣٢م) وقّع البلدان في طهران معاهدة ترسيم حدود ؛ و استمرّت العلاقات بوتائر دافئة منذ استلام الشّاه السابق (محمد رضا) (عام ١٩٢٥م) الحكم في إيران ، و حتّى قيام الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران في عام (١٩٧٩) ، حيث استمرّت ما بينهما التّفاهمات ، على الرّغم من ذلك ، في مواجهة الاتّحاد السّوفييتي السّابق .
بعد سقوط الاتحاد السّوفييتي و ظهور الدّول الآسيوية المستقلة عنه في منطقة آسيا الوسطى و بحر قزوين، ظهر صراع إقليمي جديد بين إيران وتركيا على مناطق النفوذ هناك ، ذلك أن هذه المنطقة الجغرافية ، والتي تشكل الامتداد الجغرافي والثقافي لكلا البلدين ، تحتوي على ثروات نفطيّة وغازيّة مغرية للخلاف و المنافسة .
في تسعينات القرن العشرين دخلت العلاقة بينهما حالة من حالات الوئام الأيديولوجيّ ، فانتعشت ما بينهما بسبب ذلك ، من جديد ، و ازدهرت العلاقات الاقتصادية ما بين البلدين .
16 • إبّان الحرب السّوريّة تجلّت سريعاً تناقضات الموقفين الإيرانيّ و التّركيّ من هذه الحرب . و كان ذلك طبيعيّاً من حيث تباين الآفاق الاستراتيجيّة لكلا البلدين ؛ ففي حين تنتهي استراتيجيّات تركيا في الغرب و أميركا و الكيان الصّهيونيّ ، فإنّ الاستراتيجيّة الإيرانيّة تنتهي في ذاتها كدولة لها مشروعها المناهض لـ ("إسرائيل") و العرب في المنطقة ، و هو ما يجعل اللقاء السّوريّ - الإيرانيّ بديهيّاً على الهدف السّياسيّ و العسكريّ الإقليميّ الواحد ، و هو ما يفرّقهما ، أو يجب أن يفرّقهما عن تركيا في الأبعاد الاستراتيجيّة التي تتجاوز ضيق و تأقيت المصالح الأخرى ، و ذلك أيّاً تكن هذه المصالح عند التّقويم المبدئيّ لعناصر و آفاق و أهداف الصّراع في سورية و تشعّباته الإقليميّة و الدّوليّة و العالميّة .
ثالثاً - خلاصة و رأي :
في موقف سورية من التّغيّرات الإقليميّة و الدّوليّة في هذه الحرب :
17 •. لئن كان هدف الاستفراد بسورية هدفاً دوليّاً و إقليميّاً صريحاً في الحرب على سورية ، إلّا أن الموقف الإيرانيّ كان مبكّراً في الوقوف إلى جانب قوّة الدّولة السّوريّة و جيشها الذي تصدّى لأعداء سورية
[٢٣/‏١٢ ٦:١٤ م] ب س: الإقليميين و الدّوليين و العصابات التّكفيريّة المسلّحة و قطعان الإرهاب العالميّ المدعوم من دول عربيّة إسلاميّة إقليميّة ، و تركيا و "النّاتّو" ، دعماً صريحاً و مباشراً و من دون حساب و بلا حدود .
و قد تواكب ذلك مع وقوف روسيا أيضاً مع الدّولة السّوريّة و مع قتال الجيش العربيّ السّوريّ ضدّ الإرهاب العالميّ .
و إذا كان موقف إيران و روسيا الدّاعم للدّولة الوطنيّة السّوريّة ، ضدّ الإرهاب العالميّ المسلّح ، جاء في سياق المصالح الاستراتيجيّة و الجيوبوليتيكيّة ، الإقليميّة و الدّوليّة ، لكلتا دولتي روسيا و إيران ؛ فإنّ تركيا أدركت هذه الجزئيّة الدّيناميّة في شموليّة موقف روسيا و إيران ، فبدأت (تركيا) مبكّراً محاولاتها في استثمار هذه التَّقنيّة السّياسيّة الرّوسيّة و الإيرانيّة ؛ إذ بعد تجاذبات عسكريّة و سياسيّة بين تركيا ، من جهة ؛ و روسيا و إيران ، من جهة ثانية ؛ أدركت تركيا - و هي الدّاعمة المباشرة لحرب الإرهاب على سورية و آفاقها على العالم - واقع الضّرورة الذي يحرّك كلّاً من روسيا و إيران ، مع إدراكها لطبيعة التّحالفات السّوريّة - الإيرانيّة - الرّوسيّة ؛ حيث وضعت لها (تركيا) هدفاً مباشراً و محنّكاً لدخولها في ثنايا علاقات "الحلفاء" ، فشقّت طريقاً عريضاً إلى (أستانة) و (سوتشي) ، بمباركة و رعاية و متابعة و اهتمام و قبول مغلّف أميركيّ للموقف التّركيّ ، بجعل تركيا وديعة إقليميّة و دوليّة في مؤتمرات "الحلفاء" ، بعد أن أيقنت أميركا استحالة استبعاد روسيا و إيران من تفاعلات الحرب السّوريّة في (جنيف) و غيرها من المحافل و المنابر و المنصّات الملغومة التي عملت أميركا فيها ، بكلّ طاقتها ، من أجل إخضاع سورية إخضاعاً عسكريّاً و سياسيّاً مع "الحلفاء" ؛ و كان ذلك في جوّ من إدراك مباشر من قبل سورية و روسيا و إيران ، لأهداف تركيا و دوافعها "الإخونجيّة" في رؤيتها للتّفوّق في إحداث النّتائج الفاشيّة للصّراع على سورية ، و ذلك إنْ من بدء الحرب السّوريّة ، أو في نهايات أو تناهيات هذه الحرب .
و على رغم التّنازع بين طهران و روسيا ، من جهة ؛ و بين أنقرة ، من جهة أخرى ؛ فإنّ أهدافاً و سَعياً متناقضين بين الطّرفين المذكورين ، لما سيؤول إليه الوضع في سورية ، هما من بديهيّات معارف و معلومات الجميع ؛ و مع هذا فإنّ الأطراف المختلفة ، باستثناء سورية ، لم تنفكّ من علاقات "المصالح" الاقتصاديّة و غيرها من المصالح الأمنيّة الإقليميّة ؛ و هو الأمر الذي كانت سورية "ضحيّة" موضوعيّة له ، حتّى الآن .

18 • يميل مراقبون إلى أنّ العلاقات الإقليميّة و العلاقات في إطار ما يُسمّى بمنطقة "الشّرق الأوسط" ، بما في ذلك العلاقات "الأوراسيّة" الغربيّة التي تعتبر روسيا جزءاً منها ، إنّما هي محكومة بالتّعاون و التّنافس و الاختلاف و الخلاف على أرضيّة التّفاهم و الاتّفاق ؛ و من وجهة نظر فلسفيّة سياسيّة عمليّة ، فإنّ هذا الواقع هو ضرب من واقع الرّغبة أكثر ممّا هو واقع فعليّ أو ممكن حتّى النّهاية ، و ذلك أمام كمّيّة كتلة التّناقضات الذّاتيّة و الموضوعيّة التي تحكم تلك العلاقات في هذه المعادلة ، و ذلك بدءاً من خلفيّاتها الدّوليّة و العالميّة و مروراً بدوافعها التي تصنعها تلك الخلفيّات ، و نهاية بأهداف استراتيجيّة ، تتجاوز المصالح الاقتصاديّة ، متناقضة في النّهاية و لا يمكن أن تكون محلّ اتّفاق ؛ و هذا أمر مؤكّد باستثناء ما إذا كان البعض من الأطراف قادراً على التّخلّي عن بعض أهدافه ، و هو أمر مرهون بحرّيّة الدّافع و حرّيّة الاختيار ، و من الواضح و المفهوم أنّه ليست تركيا ذلك الطّرف الذي يتمتّع بهذه "الحرّيّات" ! و هذا نظراً إلى الخيارات الاستراتيجيّة التّركيّة النّهائيّة باتّجاه الغرب و "النّاتو" و أميركا و ("إسرائيل") ، و ذلك لسبب بسيط و هو ما تشكّله تركيا متمثّلة بحزب "العدالة و التّنمية" و أردوغان ، من قائدة عالميّة لحركة "الإخوان المسلمين" الفاشيّة ذات المرجعيّة البريطانيّة - الأميركيّة - الماسونيّة العالميّة ؛ و هو الأمر النّهائيّ الذي سيجعل تلك "الحرّيّات" عند من يتمتّع بها ، و هم الحلفاء و الأصدقاء ، محلّ مخاطر كارثيّة يمكن أن تؤول إليها واقع تناهيات الحرب السّوريّة ، لجهة سورية ، و لجهة الأصدقاء و الحلفاء ، و مستقبل المنطقة و الإقليم و ما يتجاوز ذلك إلى غير ذلك ، أيضاً .

19 • في هذا الواقع الذي لا تزال فيه أميركا ، و حلفاؤها ، تعوّل على "القوّة الصّلبة" كلما تمكنّت من ذلك ، فإنّ روسيا ، و هي الخارجة مؤخّراً إلى الفضاء السّياسيّ العالميّ ، و بخاصّة بعد انخراطها في الحرب السّوريّة ، نجدها حتّى الآن تتراوح استراتيجيّتها الخارجيّة بين القوّتين "الصّلبة" و "النّاعمة" على نحو ملحوظ في إطار سياسة باردة لم تزل أسيرتها ، و بخاصّة بعد زوال الاتّحاد السّوفييتي .
إنّ العُدّة الأميركّية التي تستخدمها أميركا و حلفاؤها الموضوعيون في الحرب على سورية ، هي
[٢٣/‏١٢ ٦:١٦ م] ب س: أكبر قياسيّاً من العُدّة التي استخدموها في أيّ مكان آخر من هذا العالم ، و هذا ما يُفسّر حجم الأثمان التي تكبّدتها سورية مع ردفائها في هذه الحرب.. ، و ربّما لا يزال الموعد قائماً مع المزيد من التّضحيات ؛ و كلّ ذلك - في رأينا - هو نتيجة لاستراتيجيّات حليفة و صديقة أصبحت بذاتها في محلّ النّقد الذّاتيّ الضّروريّ ، في معرض تصوّر النّهايات الممكنة للحرب ؛ و ذلك في مواجهة الرّسوخ الأميركيّ الذي لا يُباريه في العالم دولةٌ أو أمّة في السّياسات الجيوبوليتيكيّة أو الاستراتيجّية ؛ و من هنا كان من الضّروريّ على أطراف المكان ، و بخاصّة منها ما يعرف بمحور الحلفاء و الأصدقاء ، مهمّات عظيمة و واجبات جسامٌ لم تصل إلى هذه المرحلة من دورها التّاريخيّ الذي يهدّد تجاهلُه وجودَها كلّها ، أمام مواجهة التّحالفات الأميركّية -الإسرائيلّية -التّركيّة -الخليجيّة ، بحيث يَبْدُرُ "محور العدوان" ، هذا ، محوراً قارّاً و ثقيلَ العيار أمام تجربة ما تزال في طور الفتوّة و الخبرة الجديدة في "محور المقاومة" .

20 • يقترن مستقبل العالم اليوم بانطباعات شبه نهائيّة حول صراع القوى العالميّة ذات المصالح المتنافرة ، المتناقضة ، و غير المنسجمة بحكم تناقض مشاريع حامليها التّاريخيين . و حيث سيؤسّس تحديد المستقبل القريب لتوزّع ديناميّات القوى الإقليمّية و العالميّة في المحاور و الجبهات العالميّة ، فإنّ الارتقاء بمفهوم المصالح التّاريخيّة يجب أن يتّبع خطاباً سياسيّاً و تاريخيّاً جديداً يكون لائقاً بمستوى التّحدّيات ، و هذا في الوقت الذي يكون فيه الجميع قد تموضع تموضعاً فعليّاً في نواحي التّطوّرات العالميّة الجامحة ، بما يتجاوز الخطاب الّلفظيّ و الإعلاميّ.. ، و البريء .

21 • و لهذا ، على الحصر ، يبقى ، أخيراً ، سؤالنا قائماً بمضمونه السّياسيّ التّاريخيّ ؛ إذ هل ستنجح تركيا ، أو هل سَيُسْمَحُ لها باستعادة تفوّقها السّياسيّ الإمبراطوريّ مدعومةً بأميركا و الغرب و الصّهيونيّة العالميّة ، في المواجهة التّقليديّة ضدّ إيران و روسيا و المنطقة الإقليميّة كلّها ، و هل سيُلْدَغ الأصدقاء و الحلفاء من الجُحْرِ نفسه ، ذلك الجحر الذي لا يزال مُبيّتاً في طموحات التّقاليد الإقطاعيّة السّياسيّة التّركيّة ، في ذاكرة الأتراك و العثمانيين الجُدُد ؟!


جميع الحقوق محفوظة لموقع جامعة الأمة العربية © 2021 - 2013