متلازمة ( الدولة اليهودية ) و(الدولة الإسلامية).. جاذبيّة التوحش.. إعادة انتاج التوحش: الدراسات والتوثيق | متلازمة ( الدولة اليهودية ) و(الدولة الإسلامية).. جاذبيّة التوحش.. إعادة انتاج التوحش:
تاريخ النشر: 19-10-2015

بقلم: فاضل الربيعي
لقد تلاشى ( وعد الديمقراطية ) والاستقرار، وحلّ محلهما عنف وجودي لا سبيل لمواجهته دون تصعيد عنف مقابل … المقاربة بين الدولة اليهودية والدولة (الإسلامية)، تلاحظ تماثلاً في مضمون استراتيجية التوّحش التي أدّت لولادة إسرائيل...
1لم يصبح التفكير ب( نهاية العراق) كإحتمال واقعي، ناجم عن تطور الأحداث في هذا البلد التعيس منذ الاحتلال الأمريكي في 2003 ، إلا بعد أن تحول خطر ( القاعدة) من مجرد خطر إرهابي تقليدي إلى خطر وجودي من نمط محيّر وغير مألوف. لقد أصبح خطراً جديّاً يتهددّ وجود العراق وبقائه كدولة. وكان الإعتقاد السائد والطاغي في تحليلات السياسيين والمراقبين المحلييّن، أن التخلص من النظام السابق، سوف يؤدي إلى فتح أفق حل ديمقراطي لمشكلات العراق، وأن ظهور القاعدة، هو مجرد ردّ فعل عنيف. لكن تطور الأحداث منذ ما يزيد عن 10 سنوات ، برهن على العكس من ذلك. لقد تحوّل عنف القاعدة إلى تهديد من نوع جديد. لم يعد مجرد ( ردّة فعل ) على أخطاء سياسيّة أو تراث من المشكلات المستعصية أو الفساد أو الأعمال الطائفية أو الدكتاتورية. وكان أمراً محتوماً في سياق هذا التحول في أشكال الخطر والتهديد ، أن هذه المنظمة الإرهابية شهدت 3 مراحل كبرى من التحوّل التنظيمي والإيديولوجي. أول هذه المراحل تحوّلها – في أعقاب مصرع أبرز قادتها أبو مصعب الزرقاوي في حزيران/ يونيو 2006 إلى تنظيم جديد سوف يعرف باسم ( دولة العراق الإسلامية ). وبعد ما يقرب من 5 سنوات من هذا التاريخ، شهدت ( القاعدة) التحوّل الأخير في حياتها : الدولة الإسلامية في العراق والشام ( داعش
لقد تلاشى ( وعد الديمقراطية ) والاستقرار، وحلّ محلهما عنف وجودي لا سبيل لمواجهته دون تصعيد عنف مقابل، وكان ذلك يعني أن العراق سوف يغطس في وحل الصراع الدموي لوقت طويل. اليوم، لم يعد هناك من يتحدث عن ( نموذج ديمقراطي مشّع في المنطقة ) كما وعد الأمريكيون، ولكن يجري – في المقابل- التحذير من نهاية العراق بفعل قوة زخم العنف وتمددّه، أي من تلاشي هذا البلد عن المسرح التاريخي. بيد أن التطور الأخطر الذي يتهددّ وجود هذا البلد قد لا يكمن هنا، أي ليس في وجود تنظيم إرهابي متحوّل؛ بل في ظهور متلازمة سياسيّة وإيديولوجية جديدة تهدّد وحدة بلدان المنطقة بأسرها، هي متلازمة الدولة اليهودية والدولة الإسلامية. إن هذا التلازم هو الذي يعيد طرح السؤال نفسه : إذا تمكنت الدولة الإرهابية الإسلامية من البقاء والتمددّ، فما هي حدودها الإفتراضية؟ وهل يمكن لها أن تصبح جارة ل للدولة اليهودية؟ وإذا ما حدث ذلك، فهل يؤدي تلقائياً إلى انتقال إسرائيل إلى دولة دينية؟ وكيف يمكن تخيّل شكل العلاقة بين الدولتين الدينيّتين ؟ هل ستكون علاقة صراع وعنف، أم تعايش وتعاون ؟ ...هذه السلسلة من المقالات ، تهدف إلى رسم تصّورات عامّة- ولكن بأكثر ما يمكن من الإمانة للوقائع في الأرض- عن مستقبل العراق ووجوده في ظل هذا التحوّل الاستثنائي في أشكال العنف الذي يضرب المنطقة والعالم. وسنبدأ من السؤال التالي : هل تكتب الدولتان الدينيّتان، النهاية الحزينة لبلد تاريخيّ اسمه العراق؟ وأنّ ذلك سيكون مقدّمة لتداعي وانهيار سائر المنظومات والكيانات الوطنية والإقليمية ؟..
هنا بضع ملاحظات تمهيديّة :...أولاً : يتضحّ اليوم بجلاء، أن احتلال العراق، لم يكن سوى الرجّة الأولى في زلزال ( الربيع العربي) وأن رياح التغييّر الزائفة التي هبّت على المنطقة عام 2011، كانت رياحاَ اصطناعية للتغطية على أهداف جيوسياسيّة أكبر ممّا توقع وتخيّل كثيرون. وفي مقدمة هذه الأهداف، إعادة تشكيل المنطقة إنطلاقاً من النموذج العراقي. وليس دون معنى، أن خطر تفككّ المنطقة بدأ بالظهور والتطور والتمددّ في جغرافية هذا البلد، قبل أن يمتدّ إلى سورية وجاراتها. وهذا يعني أن مسألة بقاء العراق كبلد موّحد في المسرح التاريخي، مسألة تتخطىّ أي عامل محلي عراقي أو إقليمي. لقد باتت مسألة صراع كوني لتقرير مستقبل الجميع.
ثانياً : إن الخطر لم يعد محصوراً في حدود تفككّ العراق إلى فيدراليّات، سنيّة، شيعيّة، كردية ( اربيل- سليمانية) وحتى كانتونات مسيحية في سهل نينوى. لقد تخطىّ خطر ( الدولة الأسلاميّة) على العراق حدود هذه المسألة التي لا تزال تشغل الكثيرين، واصبحت مسالة تحوّل هذا البلد إلى النظام الفيدرالي، مجرد هدف عرضيّ لا قيمة له....لقد حل محلّه الهدف الأصلي والحقيقي الذي تمتّ التغطيّة عليه بدهاء طوال السنوات العشرة الماضية : أعني أن تلاشي العراق عن المسرح أصبح هو الهدف، وليس إعادة تشكيله فيدرالياً. وبهذا المعنى، فسوف يصبح مطلب تحويل العراق إلى بلد فيدرالي والقبول بتقسيمه ، مطلباً شعبياً أمام خطر تلاشي هذا البلد عن المسرح التاريخي. أي سوف يصبح ( أمنية شعبية) أمام خطر نهاية العراق. ولذلك، بدأت المناورات السياسية لتسليح القبائل في الأنبار، أو إعلان ( إقليم البصرة) .
ثالثاً : إن بقاء وتمددّ دولة التنظيم الإرهابي، لم يعد مجرد صراع بين الدولة في العراق وجماعة إرهابية متوحشة. لقد بات يرتبط بمشروع ظهور( الدولة اليهودية ). أيّ أن الدولة الإسلاميّة في العراق والشام، هي حاجة أمريكية- إسرئيلية لتبرير وجود الدولة اليهودية . وكل ما يجري من مناورات كاذبة واستعراضية لمواجهة التنظيم على امتداد 30 عاماً، كما وعد تشاك هيغل وزير الدفاع الأمريكي المستقيل، هو في صلب استراتيجية بعيدة المدى، تمهد لظهور الدولة الإسلامية وجارتها الدولة اليهودية.
وفي صلب هذا المشروع، أن يختفي العراق عن المسرح.
متلازمة ( الدولة اليهودية ) والدولة الإسلامية – الجزء الثاني -
جاذبيّة التوحش...سأعيد تذكير القرّاء ببعض المعطيات التاريخية التي قد تساعد في فهم هذا التحليل دون إلتباسات. إن المقاربة التي ساقوم بها بين الدولة اليهودية والدولة الإسلامية، تلاحظ تماثلاً في مضمون استراتيجية التوّحش التي أدّت لولادة إسرائيل، وتؤدي اليوم لولادة نظيرتها الدولة الإسلامية :
أولاً : إن ولادة ( الدولة الإسلامية ) تتماثل- وتتطابق إلى حدّ بعيد من حيث الظروف العامة مع ولادة ونشأة إسرائيل. لقد قامت الأولى على أساس استراتيجيّة التوحش، أي ممارسة أقصى حدّ ممكن للعنف، وبحيث يبلغ ذروته مع وقوع مجازر مرّوعة ضد المدنيين العزل بواسطة ( التطهير الدينيّ) أي القتل بدوافع دينيّة وهو الوجه الأكثر بشاعة للتطهير العرقي، وتقوم الثانية ( أي الدولة الإسلامية) اليوم بتطبيق إستراتيجية التوحش الشامل التي طالت كل الأعراق والأديان والمذاهب دون تمييز، وبدعاوى دينية شديدة التزمت. وهذا وجه جديد لنمط من التطهير الذي يصبح فيه الدين أداة في تطبيق إستراتيجية التوحش....لم يكن لوعد بلفور ( 1917) أن يتحققّ لولا الاحتلال البريطاني لفلسطين الذي أبقاها تحت الأنتداب لوقت طويل. وفي عام 1948 ظهرت المنظمات الإرهابية الصهيونية هاغاناه وشتيرن، وكانت شعاراتهما الإيديولوجية مزيجاً من المزاعم السياسية عن مملكة إسرائيل اليهودية القديمة في فلسطين، و ( النضال ضد الاحتلال البريطاني).ولم يعد سرّاً ان المنظمات الإرهابية الصهيونية كانت تتلقى دعماً سرياً من معسكرات الجيش البريطاني، ولكن تحت غطاء كثيف من الصراع الشكلي، وبحيث تظهر معسكرات الجيش البريطاني وكأنها في حالة دفاع عن النفس، و أنها تصطدم بالعصابات الصهيونية الإرهابية؛ بينما كانت تتغذى- سراً- من رعاية بريطانية. إن اعمال القتل التي تطال الأمريكيين في العراق وسورية وسيناء، هي العمود الفقري في سياسة توليد الدولة كحركة تحرر ( وطني من الاحتلال الأمريكي ). إن هذا الجانب من عمل الدولة الإسلامية – كما الدولة الصهيونية قبل 60 عاماً- مصممّ لتحويل التوحش إلى مصدر لجاذبية من نوع جديد، تثير حماسات وانفعالات آلاف الشبان المخدوعين في العالم العربي. وبينما تستمر الهجمات الجوية للتحالف الدولي بقيادة واشنطن دون أن تؤدي إلى أي تبدّل في الأوضاع على الأرض، تواصل الدولة الإسلامية بناء نفسها ككيان – دولة لها عملتها الخاصة- ويمكنها أن تسيّر الشاحنات عبر المعابر بأختامها الرسمية التي تحمل شعار الدولة المعروف. ولذلك، تبدو واشنطن وكأنها تعيد إنتاج سياسة المعسكرات البريطانية في فلسطين: مواجهة شكلية مع المنظمات الإرهابية ،بما يمكنها من أن تعيد تصوير نفسها كحركات جهادية تقاتل من أجل أهداف ومبادئ عليا. لقد كانت معسكرات الجيش البريطاني هي التي تزوّد العصابات بالاسلحة والعتاد، أو تقدم التسهيلات الضرورية للحصول عليه، وكانت ( اللعبة الكبرى) تقوم على قاعدة ، تصوير ولادة إسرائيل كحركة تحررّ وطني؟ وبالفعل، فإن التاريخ الرسمي لاسرائيل، يتحدث عن ولادة الدولة بوصفه نتاج حركة تحرر وطني من الاحتلال البريطاني. وهذا عينه ما يجري تنفيذه مع الدولة الإسلامية، فهي تمارس التوحش لأهداف ( تحررية) ما دامت تقتل الأمريكيين؟ إن مصرع السفير الأمريكي في ليبيا على ايدي جماعات متطرفة ليبية مناصرة ومؤيدة لداعش، لم يكن مجرد حادث عرضي. إنه في صلب سياسة توليد ( دولة الخلافة) كطرف يقود حرباً جهادية ضد ( الصليبيين؟) .
ثانياً : إن الفلسفة التي قامت عليها المنظمات الإرهابية، هاغاناه وشتيرن، كما عبرّ عنها جاتوبونسكي، تتأسس على فكرة ممارسة التوّحش بأقصى مدياته. ولذلك، تلازم ظهور هذه العصابات المتوّحشة مع وقوع مجازر مرّوعة في فلسطين، أي أن هذه الاستراتيجية تنبني على أساس ترويع السكان وإخضاعهم بالقوة، لقبول فكرة ( الدولة الدينية ). وهذا ما تمارسه ( دولة الخلافة الإسلامية ) التي تصوّر وحشيتها على أنها من متطلبات الدين وأسسه الشرعية.
ثالثاً : هذان العاملان متماثلان ومتطابقان في الحالتين، مع إسرائيل والدولة الإسلامية. لقد أدى احتلال العراق 2003 إلى ولادة جيل من المنظمات الإرهابية تتمثل مزاعمه في المزيج ذاته من الأفكار التي اعتمدتها العصابات الصهيونية، فهي تدعو إلى إحياء ( الخلافة الإسلامية القديمة ) وطرد الاحتلال الأمريكي من العراق. ولذلك، اتسمت الجماعات الإرهابية في العراق بممارسة أقصى حدّ للتوحش. كانت منظمة (القاعدة في بلاد الرافدين) التي ظهرت في الأيام الأولى للاحتلال الأمريكي، تمثل الجيل الأول من المنظمات المتوّحشة. ثم ظهرت ( دولة العراق الإسلامية) لتحل محل القاعدة. ومع الجيل الثاني أصبح التوّحش فلسفة شمولية وبحيث راحت تضرب خارج الحدود ( تفجيرات عمّان مثلاً ) .. وقبيل اعلان الولايات المتحدة الامريكية سحب قواتها المقاتلة من العراق ، أي سحب القوة الضاربة التي احتلت العراق والابقاء على جيش من المستشارين، ظهر الجيل الثالث الذي يحمل اسم ( الدولة الإسلامية في العراق والشام- داعش) ليستوعب حاجات الاستراتيجية الأمريكية بعد ( الربيع العربي) وتفجرّ الأوضاع في سورية.
رابعاً : فعلياً ، أدّى انسحاب البريطانيين من فلسطين إلى ولادة إسرائيل. وأدّى الانسحاب الأمريكي من العراق، فعلياً كذلك إلى ولادة الدولة الإسلامية- في الموصل والرقة قبل أن تتمددّ بسرعة إلى غرب العراق وشمال سورية-. لقد تلازمت هذه الولادة مع ممارسة استرايجيّة التوّحش في أقصى مدياته. إن المجازر الوحشيّة ضد المدنيين وقتل الأطفال والتمثيل بالجثث وحرق القرى في فلسطين المحتلة، لا يضاهيه سوى المشاهد اليومية في العراق وسورية، حيث ترتكب داعش افظع الجرائم. بهذا المعنى، اصبح أمراً مؤكداً أن المثال الإسرائيلي ( اليهودي) ُيعاد انتاجه مع المثال الإسلامي. ولذلك، تتلازم مزاعم الجماعات الإرهابية ( داعش وسواها) عن العودة إلى الخلافة الإسلامية ،مع ادعاءات بمحاربة الامريكيين؟ إن الوثائق البريطانية التي تكشفت قبل سنوات قليلة، تشير إلى تواطؤ الجيش البريطاني في رعاية العصابات الصهيونية ، وأن استراتيجية لندن في الصراع ضد هاغاناه وشتيرن، كانت نوعاً من ( لعبة كبرى) للتغطية على ولادة إسرائيل كحركة تحررّ من الاستعمار البريطاني لفلسطين؟وهو ما أكسب إسرائيل في المجتمعات الأورويبية قاطبة موجة من الدعم والتأييد ، بلغت حدّ تدفق المتطوعين الأوروبيين للقتال، وهو أمر شبيه بما يحدث اليوم، فموجة التعاطف والدعم الذي تحظى به داعش في الغرب عموماً، تؤكده أفواج المتطوعين الغربيين للقتال ( وحسب الإحصاءات الرسمية هناك نحو 20 الف متطوع أوروبي: ألمانيا، فرنسا ، الخ) .
خامساً : إن جاذبيّة التوحش التي مكنتّ هاغاناه وشتيرن من الحصول على الدعم الكافي، والغطاء السياسي- الديني لولادة إسرائيل، وهي ذاتها جاذبيّة التوحش التي تمكنّ داعش وجبهة النصرة وسواهما من الحصول على الدعم الكافي، والغطاء السياسي- الديني ، لتمرير مشروع الخلافة الإسلامية. هذه الجاذبيّة التي تمّ اختبار فاعليتها، تتمثل في خلق مزيج من الأفكار والرؤى والتصورات الخلاصيّة : في اسرائيل قبل ولادتها، كانت فكرة ( أرض الميعاد) أي الجنّة الأرضية التي سوف تدخلها هاغاناه وشتيرن، لإقامة شرع الله وتحقيق وعده الذي اقطعه لإبراهيم، هي الفكرة المركزية في استراتيجية التوحش. وهذا ما تناظره في مشروع دولة الخلافة الإسلامية دعوات إقامة شرع الله على الأرض وإقامة دولة العدل ، ولذلك اختلطت صور المجازر الوحشيّة بصور الجنّة الموعودة والحوريات بجهاد النكاح. وهكذا ظهرت فلسفة جديدة تقوم على أساس أن جهاد النكاح فلسفة دينية لا مجرد ممارسات غريزية.
سادساً : ليس دون معنى، أن تظهر منظمات إرهابية صغيرة تقاتل مع داعش والنصرة، وهي تحمل اسم ( الأقصى) و( بيت المقدس ) وتنتشر من سورية حتى صحراء سيناء المصرية فبنغازي الليبية مروراً بتونس. لقد جرى، بفعل جاذبيّة التوحش تبديل دراماتيكي في أولويات الصراع، وأصبح هدف إقامة دولة الخلافة هدفاً مطلقاً يحل نهائياً مع الصراع العربي- الإسرائيلي، وبحيث تصبح المنظمات التي تحمل اسم الأقصى وبيت المقدس، قوة عسكرية موجهة لتحقيق هدف آخر غير الهدف التقليدي: تحرير فلسطين.
متلازمة ( الدولة اليهودية ) والدولة الإسلامية – الجزء الثالث -
يتعيّن اليوم التمييز بدقة بين مفهومين سياسيين طاغيين في الأدبيات السياسية والإعلامية، اولاهما تعبير ( تنظيم الدولة الإسلامية- داعش) والثاني تعبير (دولة الخلافة ). وتماماً، كما كان على العالم العربي عام 1948 التمييز بين التنظيمين الإرهابيين هاغاناه وشتيرن، وبين مشروع إقامة ( الدولة اليهودية) أي بين مشروع الدولة اليهودية وبين أدواته المتوحشة، فقد يتوجب علينا اليوم لا التمييز وحسب؛ وإنما الانتباه من أي تحليل أو تصورات خاطئة مغايرة لما هو واقع. إن العودة إلى التاريخ الرسمي لهذه الحقبة من الصراع، سوف تكشف بجلاء، كيف أن النخب السياسية الساذجة، والجماهير المضللة والدول المُتلاعب بها، كانوا جميعاً يصوّرون ما يجري في فلسطين، وكأنه مجرد أعمال إجرامية يقوم بها ( تنظيم إرهابي متوحش) يمكن القضاء عليه أو وقفه عند حدّه، ويعود السكان بمفاتيح بيوتهم وهم سعداء. لقد كان التنظيم مجرد أداة في مشروع الدولة- الحاجز، وكان التوحش محض أسلوب في البناء...إن التعبير الأول بين هذين التعبيرين، ينصرف إلى الأداة التي أنيطت بها مهمة تحقيق أهداف عسكرية محددّة، كان التوحش طابعها الشامل، بينما ينصرف التعبير الثاني إلى الهدف الاستراتيجي للتوحش وهو إنشاء كيان قادر على الفصل جغرافياً وسياسياً بين إيران وبلاد الشام؟ وهذا الهدف مماثل تماماً لهدف إنشاء إسرائيل : إنشاء الدولة- الحاجز الذي تعيق وتمنع فعلياً التواصل الجغرافي الطبيعي في المشرق العربي؟ ولذلك، سنلاحظ عند مراجعة التاريخ الرسمي لقيام إسرائيل، أن الحملة البريطانية ضد التنظيم الإرهابي ( العصابات الصهيونية) أدّت فعلياً إلى تقليم أظافر ( الوحش) ولكنها لم تمنعه من تحقيق الهدف الاستراتيجي، فقد ولدت إسرائيل في النهاية، بينما تلاشت شتيرن وهاغاناه من الوجود؟...كان ظهور إسرائيل كدولة- حاجز جغرافي طبيعي، هدفاً مركزياً لدول كبرى كانت تصارع من أجل تعديل علاقات القوة بعد الحرب العالمية الثانية، ولم يكن مجرد هدف لعصابات متوحشة فالتة من العقال. وبطبيعة الحال، فقد تطلب السماح للتنظيم الإرهابي أن يقيم دولته – الحاجز، أن ينتقل تدريجاً من التوحش إلى ( المدنية ) أي أن يقدّم نفسه ككيان مؤمن بقيم الغرب. وهذا هو الهدف المركزي للحملة ضد داعش: تقليم أظافر الوحش، ولكن السماح له ببناء ( حظيرته ) لكي يعيش وينمو ويتناسل هناك، وهذا يعني أن علينا ننتظر ما سيحدث خلال ال30 عاماً القادمة التي حددّها أوباما للحرب على داعش ؟..سوف تولد دولة الخلافة من رحم الصراع ضد الأمريكيين، بينما تتلاشى ( داعش) أي التنظيم الإرهابي كما تلاشت شتيرن وهاغاناه. هذا هو الاستنتاج الذي يتوجب استخلاصه من الأحداث...ولكن لماذا تتطلب الحرب الكونية ضد داعش 30 عاماً ؟ أليس هذا سؤالاً جوهرياً. البعض يتساءل، كيف أن العراق بجبروته كدولة في عهد الرئيس الراحل صدام حسين، وبكل قوة مؤسستة العسكرية وادواته وأسلحته وأمواله، لم يستلزم لمحوه من الوجود سوى أقل من شهر عام 2003؟ فهل من المنطقي أن تستدعي الحرب على تنظيم إرهابي، لا يملك لا قوة جيش صدام، ولا قوة وجبروت دولته كل هذا الوقت؟ إن السبب الجوهري الذي يجري التغطية عليه يكمن هنا : إن ولادة إسرائيل تطلبت لا التخلص من التنظيم الإرهابي الذي أنشأها بقوة التوحش؛ بل هي فرضت على الغرب نفسه، لحسابات ومصالح دولية كبرى، أن يمنحها الوقت الكافي لتنتقل من ( التوحش) إلى ( الديمقراطية) وتصبح دولة طبيعية ؟ ألم تولد إسرائيل كدولة متوحشة استولت على أراضي 3 بلدان عربية : فلسطين، الاردن، سورية ؟ لكنها، أيضاً انتهت وبعد حقبة طويلة من الصراع معها، إلى تغيير صورتها كلياً في أنظار الغرب الأوروبي- الأمريكي. لقد تخلصت من ( ماضيها المتوحش) وانشأت نفسها كدولة طبيعية تؤمن بقيم الغرب. ولذا قدّمت نفسها ( كدولة ديمقراطية ) لا كدولة استعمارية قامت على سرقة الأرض؟ واليوم، يجري في العالم تطبيع متواصل معها لقبولها كدولة طبيعية....إن السنوات ال30 القادمة من الحرب الكونية على داعش، تهدف بالضبط إلى مساعدة ( الوحش) على البقاء في جحره والتخلص من وحشيته، أي أن ( يتمدّن) أكثر فأكثر، وبحيث يصبح مع الوقت، وتعاظم شعور كل شعوب المنطقة، بالإعياء والإنهاك من الحرب الطويلة ، بالحاجة والرغبة في التطبيع مع وجود دولته. وخلال هذا الوقت الطويل من الحرب، سوف تنفق الدول العربية الثرية آخر قرش في خزانتها، وتنضمّ فعلياً إلى نادي الدول العربية الفقيرة، وبحيث ترغمها ترغمها ظروفها على قبول أي حلول خارجية للبقاء في المسرح التاريخي....ثمة وجه آخر للشبه بين ولادة إسرائيل الأولى كدولة يهودية بالمعنى السياسي (عام 48 ومشروع التقسيم ينص بالفعل على عبارة: دولة للشعب اليهودي) وبين ولادة إسرائيل الثانية 2014 : انها تقاتل الآن – مثل داعش- من أجل استكمال تحقيق الهدف الاستراتيجي، أي أن تكون ( دولة يهودية ) بالمعنى الديني لا السياسي، وهذا ما سوف تواصل داعش القتال من أجله، قبل أن تفاوض على ( محوها وتلاشيها كتنظيم ) أي أن تخلق دولتها الدينية ...وهكذا، سوف يصبح الانتقال من التوحش إلى ( الديمقراطية ) ملزماً. لنتذكر أن الولايات المتحدة الأمريكية نشأت نشأة مماثلة. لقد قامت لا على جثث 80 مليون من ( الهنود الحمر) وإنما فوق أراضي شعوب أخرى، بما في ذلك المكسيك. لقد ولدت الولايات المتحدة الأمريكية من رحم الحرب نفسها التي قادتها بريطانيا. ولذا يقول التاريخ الرسمي للولايات المتحدة الأمريكية أنها نشات من رحم التحرر الوطني من الاستعمار البريطاني؛ ولا يقول انها نشأت من رحم النهب والقتل...وهكذا، أيضاً سوف يجري الصمت عن الاستيلاء على أراضي الآخرين أو إبادة شعوب بأكملها، وتصبح مسالة وجود الدولة الجديدة هي الموضوع. وفي النهاية، وبعد سنوات من ( الحرب التحررية الوطنية ضد البريطانيين) وبكل ما رافقها من توحش، ولدت أمريكا الديمقراطية ، أي ان النموذج الأمريكي الذي اهتدى به التنظيمان الإرهابيان شتيرن ( وهاغاناه) لانشاء إسرائيل، لايزال قابلاً لتوليد نفسه بأشكال أخرى على أيدي تنظيمين إرهابيين جديدين : داعش والنصرة، وهما من سوف تناط به مهمة تحقيق الهدف : الدولة – الحاجز. وبالفعل، لن تكون دولة الخلافة الإسلامية سوى دولة – حاجز أخرى، تجعل من العالم العربي أشبه بدويلات مدن تعيش خلف جدران فصل ديني- مذهبي من نوع غير مألوف.
متلازمة ( الدولة اليهودية ) والدولة الإسلامية – الجزء الرابع :
إعادة انتاج التوحش... لا يرتبط وجود دولة يهودية في شرق أوسط مسلم- في غالبيته العظمى- بوجود مبررات وأهداف سياسية وعسكرية، تسوغّ – أو تساعد- على (خلقها) وحسب؛ وإنما بوجود بيئة دينية داخل المنطقة العربية، تسمح بولادة الدولة الوطنية من جديد، ولكن على على اساس دينيّ. وبهذا المعنى فقط، يمكن لإسرائيل أن تعيد ( خلق نفسها) كدولة دينية شرط توفر بيئة حاضنة. وليس ثمة مبررات أو مسوّغات أقوى من وجود ( دولة الخلافة الإسلامية ) التي سوف تؤدي دور البيئة الحاضنة، وذلك عندما تقوم بإعادة ( تخليق) العالم العربي برمتّه كإمارات إسلامية. وهذه هي بالضبط، الصورة التي تتجسدّ فيها فكرة البيئة الدينية الحاضنة، وبحيث يصبح مشروع (الدولة اليهودية) نوعاً من ولادة جديدة لإسرائيل على أساس دينيّ، له كل ما يلزم من مبررات وظروف واقعية في المنطقة. وكما أن ولادة إسرائيل الأولى ( 1948) استدعت وتطلبت استخدام الحد الأقصى من التوحش؛ فإن ولادة إسرائيل الثانية ( اليهودية) سوف تتطلب إعادة انتاج التوحش القديم. وهذا عينه ما سوف تعيد إنتاجه دولة الخلافة الإسلامية. إنها أيضاً بحاجة لإعادة انتاج التوحش القديم، ولذا سوف تلجأ إلى المخزون الثقافي التاريخي للفتوحات الإسلامية، ويصبح تمددّها في البلدان العربية وقضمها للأراضي والدول، نوعاً من (فتوحات جديدة) بواسطة الدم. وهذا ما ستقوم به في الآن نفسه الدولة اليهودية، عندما تتمددّ فوق أراضي جديدة وتقوم بالاستيلاء على كامل الضفة الغربية.وبهذا المعنى، سوف يصبح التوحش لا مجرد ممارسة عنفيّة شاملة؛ وإنما وسيلة مثلى لإعادة ( خلق الدولة) ...وبذلك، تصبح وحشية دولة الخلافة الإسلامية،وجهاً آخر مكمّلاً لوحشية الدولة اليهودية. إنهما دولتان دينيتان صافيتان، يمكن لهما أن تتمددأ فوق الأرض، ولكل منهما ما يكفي من الدعاوى الدينية: الدولة اليهودية سترى في الضفة الغربية عودة ( لمملكة يهوذا بالكامل). والخلافة الإسلامية سترى في فتوحاتها، إحياء لفتوحات الإسلام القديم لبناء وتأسيس العالم العربي كولايات إسلامية،وبذلك يمكن للدولتين الدينيّين أن تنسجا أفضل العلاقات التكاملية، الاقتصادية والسياسية والروحية...لقد قدّمت إسرائيل نفسها طوال ال50 عاماً الماضية على أنها ( دولة علمانية- ديمقراطية) فلماذا، ولأي غرض، وما هي البواعث وراء إعادة ( خلق) نفسها كدولة دينية؟..إن تزامن مشروع نتنياهو إعلان الدولة اليهودية، مع ظهور(دولة الخلافة الإسلامية في العراق والشام) خلال الأشهر القليلة الماضية، يؤكد عمق الترابط بين المشروعين. ويخطئ منْ يعتقد أن مشروع الدولة اليهودية، مجرد نزوة سياسية تصدر عن رئيس وزراء إسرائيلي لأغراض المناورة الداخلية، ذلك أن هذا التحوّل في شكل ( الدولة) هو في جوهره تحوّل في ظيفتها التاريخية. وقد أظهرت الظروف والأحداث خلال السنوات القليلة الماضية، أن إسرائيل تواجه بالفعل، مأزقاً تاريخياً حقيقيا مع تآكل دورها الوظيفي، وظهور تكتلات داخل الإقليم، يمكنها أن تلعب أدواراً أقل كلفة من الدور الإسرائيلي. ومن يراجع وثائق مؤتمرات هرتزليا السنوي، سوف يكتشف أن السؤال المركزي الذي يواجه العلماء والباحثين من مدنيين وعسكريين ودبلوماسيين في كل مرة ينعقد فيها المؤتمر، يكاد ينحصر في الصيغة التالية- التي ُطُرحت حرفياً على الحاضرين قبل عامين- : هل ستبقى إسرائيل في المسرح التاريخي بعد 100عام؟.
ثمة 3 تحديات عميقة وبنيوية تواجه النموذج الإسرائيلي اليوم :
-1-  إن إسرائيل وبعد مرور 60 عاماً من ولادتها، لاتزال عاجزة عن كتابة دستورها وتعريف نفسها، فهل هي دولة ديمقراطية أم دولة يهودية؟ إذا ما عرّفت نفسها كدولة ديمقراطية – علمانية؛ فهذا يعني تلقائياً، أنها دولة جميع مواطنيها، أي أن يكون بإمكان مسلم فلسطيني وعن طريق صناديق الإقتراع، أن يصبح رئيساً لوزراء إسرائيل؟ وهذا أمر يستحيل تخيّل قبوله. وإذا ما عرّفت نفسها كدولة يهودية ( أي دولة دينية) ففي هذه الحالة، سوف يكون عليها أن تطرد كل شخص ينتمي لدين آخر؟ وهذا يعني أن تقوم بتهجير كل سكان مناطق 48 وسكان الضفة الغربية ؟ أي أن تعيد إنتاج النكبة مرة أخرى، ولكن في ظروف أكثر مأسوية ؟
-2- إن إسرائيل تواجه، فضلاً عن هذا التحدّي،مشكلة أخرى غير قابلة للحل،هي تفاقم صراع العلمانيين والمتدّينين، وهو صراع حقيقي آخذ في التطور مع صعود اليمين الديني المتطرف. وحتى اللحظة لا تملك إسرائيل أي حلول عملية لمواجهة خطر استمراره وتداعياته الداخلية في المستقبل.
-3-  إن إسرائيل لا تملك أي حلول واقعية للصراع بين اليهود الاشكناز واليهود السفارديم، وهو صراع يأخذ أبعاده الطبقية الحادة بين مجتمعين : يهودي شرقي ويهودي غربي، حيث يتعاظم التفاوت في شروط الحياة والحقوق. إن اليهودي الأبيض في المجتمع الإسرائيلي، يواجه اليهودي الأسود ( الأثيوبي مثلاً) بنفس روح العنصرية في المجتمع الأمريكي. ولذا، ولمواجهة مأزق إسرائيل التي استنفذت وظيفتها التاريخية والحاجة إلى تجديد الدور الوظيفي القديم، وإعادة ترميم مجتمعها ( الاستشراقي) الذي بات أكثر تفككاَ واضطرباً، فقد أصبح مشروع تحويل إسرائيل إلى دولة دينية مشروعاً محتوماً لا مفرّ منه، لكنه سوف يصطدم بمشكلة عدم وجود ( بيئة دينية ) أخرى، تبررّ تحولها...وهكذا، يصبح مشروع ( دولة الخلافة الإسلامية ) حاجة إسرائيلية. أنه طوق النجاة الوحيد الذي يمكن أن ينتشلها من التفككّ. لقد شكلت إيديولوجيا القومية العربية التي سادت في العالم العربي منذ مطالع الخمسينات من القرن الماضي، عائقاً حقيقياً أمام ( إعادة خلق إسرائيل) كدولة دينية، وكانت أحد أهم أهداف الإمبريالية الأمريكية في الشرق الأوسط،لا مساعدة إسرائيل على البقاء والصمود ومواجهة العرب باستمرار واذلالهم؛ بل أن تكون لديها ديناميكات صنع شروط بقائها قوة متجددّة. وهذا ما لن يكون ممكناً إلا بخلق ( بيئة دينية إسلامية) تسمح بقبول إسرائيل كدولة يهودية ، وأن تمنحها إمكانية أن تلعب دوراً قيادياً. لكل ذلك ؛ فإن بقاء ( دولة الخلافة الإسلامية) بقوة الأمر الواقع الذي تفرضه ظروف الصراع، سوف يؤدي إلى تلاشي وفناء كيانات ودول وجماعات عرقية وثقافية . إن الغرب المنافق هو الذي يختصر حدود اللعبة في ( محاربة الإرهاب). أي في حدود مواجهة أدوات التوحش لا التوحش نفسه.وفي وضع من هذا النوع، حيث العرب هم الأمة ألأكثر ضعفاً وهواناً بين سائر أمم المنطقة، فمن المحتوم أن تكون دولة خلافتهم الإسلامية أكثر شبها بحالة الخلافة في عصور الإنحطاط ، أي أن يصبح الخليفة ألعوبة ( دمية ) في أيدي قوى أخرى.
انتهت الدراسة

جميع الحقوق محفوظة لموقع جامعة الأمة العربية © 2021 - 2013