ويحدِّثونك عن رميم التقارير والمقالات | ويحدِّثونك عن رميم
تاريخ النشر: 13-10-2019

بقلم: الدكتور كمال خلف الطويل

بما هيَ الدولة كيانٌ ناظمٌ لحياة مجتمع فوق أرضه، ووفق عقدٍ تصيغه قواه الفاعلة، على خلفية الهوية الجامعة وامتلاك الموارد واستقلال الإرادة، فكلُّ ما عُدَّ «دولاً» عربية، منذ سقوط الإمبراطورية العثمانية، كانت - بتفاوتٍ لا ينكر - «محاولات» دول... لم تلبث، في غضون أقل من قرن، أن تهاوت صروحها هشيم كقشٍ ذرَته الرياح... واستوت في ذلك «دول تاريخية» كاليمن، بل ومصر والمغرب وعمان، و«دول تحت - طبيعية» كالعراق وسورية وليبيا والسودان ولبنان والأردن، بل والجزائر وتونس وموريتانيا، ناهيك بكيانات الخليج.
كلها - وكذلك بتفاوتٍ لا ينكر - ناست، تعريفاً، بين سلطناتٍ أو إماراتٍ أو سلطات دولة، ولكن من دونها... لماذا وكيف؟
إن كان من مشتركٍ أعلى في تفسير كيف فهو: هشاشة الإرادة، بما تعنيه من استتباع لخارج، واستلاب الموارد - تبعاً - من لدن ذاك الخارج. أما لماذا، فلأن «الدولة» تلك لا تتوافر، بحكم طبائعها، على هذه الإرادة ولا - تلواً - على تلك الموارد.
لنلحظ دليـلاً هنا جدلية المحاولة والمنتهى: لقد سعى كل من العراق والجزائر، بين مطالع الستينيات وأواسط السبعينيات، ثم ليبيا عند مطالع السبعينيات، إلى وضع اليد على مواردها الطبيعية... بل ومضت الجزائر، أواسط السبعينيات، إلى إحياء جهد عالمثالثي - تشكّلت بواكيره، بقيادة مصرية، قبلها بعقد - يهدف الى تصحيح العلاقة بين الناهب الغربي والمنهوب الكوني... لكن موازين القوة بين أطراف ذلك الناهب وبين كلٍ من تلك الأقطار، فرادى، أفضت إلى تدمير مقومات اثنين منها، والسعيُ محمومٌ عند تلك الأطراف للإجهاز على الثالثة.
ولعل سياقات القرن المنصرم شاهدةٌ على عُقم محاولات تدعيم ركائز وأسس دول قطْرية، وذلك لدواعٍ قواسم:
• أن كـلاً منها بمفرده، وبحسبان مواردها الذاتية - البشرية والطبيعية - ، غير قادرٍ على بناء تقدم منعزل.
• إن فعل التجزئة الذي مارسه الناهب على شطرٍ معتبرٍ من جغرافيا العرب - سواء منه التاريخي (كاقتطاع الساحل من عمان، والجنوب من اليمن، والشنقيط من المغرب) أم تحت - الطبيعي (كتجزئة «الشام» الى شقفٍ ثلاث، واستلاب رابعةٍ كي تضحي مخفر الناهب الأمامي)، أصاب أشطاره القطْرية بكساحٍ مقْعد تجلّى في بتر نمو مجتمعاتها المحلية عند سقف واطئ، أي تحت - «وطني»، ومن ثمّ انتظام علائق قواها المكوّنة على قاعدة الأدنى من روابط (القبيلة والجهة والمذهب والعِرق والإثنية). وحتى حينما ذهب الناهب مذهب «الجمع» لا القسمة، كما فعل في العراق والسعودية وليبيا والسودان، فقد ضمن نفاذه بغواية عرقٍ أو إثنيةٍ أو أسرة لتكون مهمازه الفايسرويي فيها.
• أن تصنيع هويات قطْرية لتلك الكيانات تحت - الطبيعية باء بفشلٍ فضّاح، وببرهان وقائع «الزلزال العربي» الذي ضربها عبر عشرية الحادي والعشرين الثانية، وسواء كان جذر التلاشي عذابها المراوح بين توق المنى وتواضع الواقع، أم انفجارِ حشاياها تحت وطأة ضغوط تنازع مكوناتها تحت - «الوطنية» (أي القرابية) بفعل تماهي بعضها مع الناهب وتنائي بعضها الآخر عنه، أم حساسياتٍ محليةٍ وجدت سبيلها لتسود ناموساً لتفاعل عناصرها؛ في غياب مشروع ناهضٍ يلمّ المحيط.
• أن من لم يعصف به الإعصار بعدُ منها مصونٌ - أو هكذا يبدو! - إما بلاصقِ مالٍ يؤجّل ولا يعصِم أو بعُتيّ عسكرٍ يُرهب ولا يسوس... ولعمري أن شواهد ما حولنا دالةّ على بؤس ما بعد.
• أن يافطة «الوطنية القُطرية» رابطةً هوياتيةً مواطنيةً لبني قُطرٍ فيه من الزعم ما يشارف حدّ الاختلاق، ولا سيّما في تلك التي تعجُّ بدعوات مشاريع فئوية لحيّزات عرقية أو إثنية أو طائفية أو جهوية أو قبلية، لا ترضيها المواطنة القُطرية سقفاً ولو حتى أشعلت لها الأغلبية المحلية أصابعها العشر، سواء لجهة حقوق ثقافية خاصة أم غيرها. فقط حين يعلو في الأفق بيرق مشروع عربي نهضوي جامع تخفت لزاماً تلك الأصوات، فلا مهرب لها حينئذ من إدراك أن التنوع في أمةٍ مضبوطٌ بناظم وحدتها... هذا من جهة، وأن حقوق فئاتها الثقافية الخاصة محفوظةٌ بالتلازم مع إيقان أن آصرتها مع خارجٍ باتت مبتورة... من جهة أخرى، ناهيك بحقوق المواطنة المتساوية.
وحتى يكون الحديث صحيح المفاد فالفرق بيّن بين خصائصَ محلية وبين هوياتيةٍ قُطرية: الأولى من طبائع الأشياء، والثانية من افتعالها.
والشاهد أن جدلية العلّة والمعلول تنبئ أن من هيمن على المنطقة منذ قرنٍ - ولتاريخه - قدِر، بفعل اختلال موازين القوى لمصلحته، أن يُنشئها على أكثر من هواه... كيف؟ بفعل ٍأساس: التجزئة، وبفعلٍ ناتجٍ: النهب. تمّ له ذلك بوسيلة الاحتلال المباشر - حتى ما بين أواسط الأربعينيات ومطالع الستينيات - مصحوبةً باستزراع إسرائيل صرحَ تهديدٍ جوانيٍ مباشر ومستدام، وملحوقةً باستلحاق سُلطٍ محليةٍ به محمياتٍ وأضرُع انتهاب... متعدد الأوجه.
لم يكن القرن في عالمنا العربي مرتع سكينة للمهيمن بل هو حفل بسيلٍ من المقاومات ووسائل الدفع على طول مساره، كان أخطرها عليه وأصلبها عوداً لدينا وعدُ مشروع 1955 - 1970 العربي. لا يحتاج المرء غير أن ينكش في الأرشيف الأمريكي حتى يلمس ما رآه المهيمن فيه من خطر، ولا سيّما عقب السويس - 1956. لقد رأى في وعده شبح قيام دولة كبيرة بموارد هائلة وسوق واسعة وموقع فريد وتاريخ جسور وإرادة نهوض. وعلى الرغم من أن عوائق هذا المشروع بصورة رئيسة، وقصوراته بدرجة أقل، لم تدعه يبلغ حدّ التجسد، إلّا أن روحه ومحض وعده ونضالاته كبحَت كل الروابط الأدنى وأنزلتها إلى قاع. كان كرد العراق يعرفون أن تقسيم العراق، ولو مغلفاً بتفَدْرُلٍ رثّ، حلمُ ليلة صيف... وكان زنج السودان لا يطمحون بأكثر من حكم ذاتي في الجنوب... وكان مَن في قبايل الجزائر أو أطلس المغرب لا يرطن بتأمزغٍ مفرنَس... وكانت المذهبية في المشرق غافيةً في جِحر مكمور... وكان قبط مصر برِئين من مظنة التورط مع خارج. هذا لجهة الداخل، أما لجهة الخارج، فكانت قوى الاستعمار القديم تُلاحق بالسياط إجلاءً وطرداً من الأرض العربية، وكانت حتى قوة الاستعمار الجديد تحسب كل حساب لقوة المشروع العربي (حقبة 1958 - 1963 شاهدة)، بل وكانت إسرائيل «مضبوبةً» إلى حد كبير، ولقرابة عقد... وحتى حين تنمّرت وألحقت بالمشروع ضربة مروعة في حزيران/يونيو 1967، لحسابها وسيّدها الاستعمار الجديد، وقف أصحاب المشروع على أرجلهم من جديد وأحاطوها بزنّار نار: 1967 - 1970، ثم قاتلوها في أيام أربعة فائزة خلال حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973.
تنزّلت المنعة من رحم المشروع، وأتت المناعة من لقاحه، وهي التي دام فعلها حتى نفذ مفعولها عبر عقد امتد من أواخر السبعينيات إلى أوائل التسعينيات... فلِت بعدها «الملقّ» ودقّ نفير الحرب والاحتراب، حتى صار أمر اليوم منذ عام 2011.
والحاصل أن كُثُراً، بحسن نيةٍ أو بغيره، صاحوا، منذ أن نفذ المفعول، بأعلى صوت: يا قوم، سارعوا لنجدة الدولة القُطرية وترميمها وإلا تشظّت إلى جزيئات. غاب عنهم أن ما احترق كان بفعل انعدام الجدوى أياً كانت شرارة الحريق، وأن انتفاء شرطي الهيمنة: التجزئة والنهب، شرط لازبٌ لا لكبح الروابط الأدنى فحسب، هذه المرة، بل وتحنيطها إلى الأبد.
ما معنى هذا الكلام، بالمباشر؟ معناه أن حياةً عفيّةً لقُطر لا تتوافّر إلا بانتمائه العضوي إلى «كومنولث» عربي (وهو بالتعريف: كونفدراليةٌ تعاهدية، وليس بالضرورة اتحاداً تعاقدياً... هو يتجاوز «الجامعة» بالمليان، وإنْ لا يَشترط أن يُدستَر وحدة) على خلفية هوية عربية جامعة، وبهديِ استراتيجية أمنٍ قوميٍ عربيٍ واحدة، وبسعي التحلل من إسار منظومة النهب الدولية عبر إقامة سوق عربية كبيرة وانتزاع اقتصادات المنطقة من فكّ نواظمها المكسِّحة. بذا يعود المجتمع العربي الكبير، ومكوناته القُطرية، إلى استئناف تطوره الطبيعي والمرتقي إلى ملاط هوية ماسكْ يؤمّن «دولنة» القُطر بما يوازن الدولة فيه بالمجتمع، وبما يؤمّن الانتقال من شدّ الروابط الأدنى لأسفل إلى جذب الهوية الجامعة لعليّين، وبما يعلي مشتركات الكومنولث فوق أي اعتبار، كونه الملاذ والرافعة.
والثابت أن استئناف المشروع العربي، في شكل كومنولث يضم أقطار العرب في إهابه، ما عاد «خطرفةَ» حالم بل حاجة بقاء يؤسس لنماء... وذلك لكلٍ منها من جهة، ولها جمعاً من جهة أخرى.
يثور السؤال، هل الشرط الموضوعي متوافر للاستئناف، وهل من حوامل/نواقل له؟ أقول: لا يحتاج المرء مصباح ديوجين حتى يلحظ انحسار الغرب المهيمن وصعود الأوراسيات... ينطق بذلك رموز الأول أنفسهم، وليس تعاويذ أمل (وطالما الحديث عن انحسار، لا سقوط). إعراب هذا الحال يجيب بنعم عن شطر السؤال الأول. في محاولة الإجابة عن الثاني فكلّ ما يمكن الجزم به أن منطقتنا العربية تميد، وما المَيد إلا باكورة انسلاخ درَن، وانبعاث تعاف. أين وكيف؟ ليس تحديدهما في الوسع.
إن حياة وتطور قُطرٍ، بقاء ونماء أمة، انعتاقها من رسن الهيمنة، تكسيرها منظومة النهب، حصارها المشروع الإسرائيلي وإبطالها وظيفيته، وتحريرها أرضها وسماءها ومياهها، كلّها مشروطة بقيام ودوام كومنولث... عربي □


تنويه | المقالات المنشورة في الموقع تمثل رأي صاحبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي أسرة الموقع

جميع الحقوق محفوظة لموقع جامعة الأمة العربية © 2021 - 2013